منذ ثلاثة اشهر نشرت في الجمهورية حديثا عن القصة التمثيلية الرائعة قصة " السد " التى كتبها الاديب التونسي البارع محمود المسعدى . وقلت فيما قلت عن هذه القصة النادرة : انها تصور تأثر كاتبها بالثقافة العربية الاسلامية من جهة وبالثقافة الفرنسية ومذهب الوجودية الحديثة من جهة اخرى . وقلت كذلك : ان كاتب القصة تأثر بمذهب الكاتب الفرنسي كامو وهو الذي يجعل حياة الانسان وجهاده وما يلقى من عناء وما يحتمل من مشقة وما يذلل من عقبات ويقهر من مصاعب يجعل ذلك كله بل يجعل الوجود عبثا من العبث لا يستطيع أن يكشف له حكمة نطمئن اليها أو غاية نقف عندها وانما الحياة والوجود عما أشبه شىء بأسطورة البطل اليونانى الذى صورته الاساطير وقد قضى عليه بعد موته أن يدفع أمامه صخرة ضخمة من الحضيض حتى يبلغ بها قمة جبل شاهق فاذا بلغ القمة وظن انه قد انتهى الى غايته رأى الصخرة تنحط الى مكانها فى الحضيض ورأى نفسه يدفعها أمامه ليبلغ القمة من جديد ثم يراها تنحط مرة أخرى الى مكانها فى الحضيض . وما يزال كذلك يدفع الصخرة ويرفعها الى القمة والصخرة تنحط وتحطه معها الى الحضيض آخر الابد ان كان للابد آخر .
ووصل هذا الحديث فى الجمهورية الى تونس وقرأه كاتب القصة الاديب فرضى عنه اكثر وضاق مع ذلك بما أضفت اليه من التأثر بمذهب ذلك الكاتب الفرنسى المعروف . ثم كتب مقالا ممتعا لا أقول ردا على الحديث الذي أمليته بل أقول تعليقا عليه وتوضيحا لبعض ما ظن انه خفي على من أمره وأمر قصته البارعة .
ولست في حاجة الى أن أذكر انه تفضل مشكورا فرضى عما قدمت اليه والى قصته من ثناء كلاهما أهل له وأهل لاكثر منه ثم تفضل فأهدى الى من الشكر ما أغراه به أدبه الرفيع وطبعه السمح .
وليس المهم أن يتبادل كاتبان فنون التحية والثناء على بعد الامد المادى بين مصر وتونس وانما المهم شئ آخر هو أعظم من ذلك خطرا وأبلغ اثرا لانه يضيف إلى الادب العربي مذهبا جديدا لم يحققه الادباء الشرقيون من قبله سواء منهم القدماء والمحدثون .
وأحب قبل أن أوضح هذا المذهب الجديد وأبين عن رأيي فيه ان اسلم للاستاذ المسعدى بما اراد فهو ينكر ان يكون قد تأثر بمذهب الكاتب الفرنسي فى كتابه " السد " ويقرر انه لم يقرأ كتابه عن أسطورة البطل اليونانى ذاك الا بعد أن كتب روايته ومضى عن ذلك وقت غير قصير ويضيف إلى ذلك انه من الجائز أن يكون قد استقى هو والكاتب الفرنسي من ينبوع واحد وتواردت خواطرهما على آراء ان لم تكن واحدة فهي متشابهة . وعقول العظماء والافذاذ تلتقي كما يقول الفرنسيون ، فلا بأس على الاستاذ من أن يلقى " كامو " أو يلقاه كامو في بعض الطريق . وله عندى خير ما يجب من الاعتراف له بأنه مبتكر لم يتأثر بذلك الكاتب ولا بغيره .
فكل ذلك أو بعض ذلك لن يغير من حقائق الامر شيئا . ذلك أن بطل الاستاذ المسعدى غيلان مشبه أشد الشبه لبطل الكاتب الفرنسي كامو بطل الاسطورة اليونانية ان شاء . فذلك البطل اليونانى يبذل جهدا متصلا ضائعا لا سبيل الى ان يجد له الباحث تأويلا أو تعليلا . وبطل الاستاذ المسعدى غيلاهن يبذل كذلك جهدا ضائعا ولبست له حكمة وليس وراءه طائل لان صاحبه وغير صاحبه من الناس لا يظفر له بنتيجة ولا يجد له غاية ينتهى اليها ، هو يريد ان يروى الارض وان يجمع الماء الذي يتدفق من ذلك الينبوع أو من تلك الينابيع فينشئ سدا لينظم استغلال هذا الماء فى رى الارض . ولكن الارض لا تريد أن ترتوى ولا ان تثمر لانها تؤثر الجدب وتستحب الظمأ على الرى وتفضل العقم على الخصب وهي من أجل ذلك تدمر السد أو تغرى بتدميره كلما انتهى أو أشرف على أن ينتهى . فرى الارض هو بالقياس الى بطل الاستاذ المسعدى أشبه شئ بقمة الجبل والسد الذى لا يرتفع بناؤه الا لينهار أشبه شىء بالصخرة التى لا تبلغ القمة الا لتهوى الى الحضيض . وكل الفرق بين البطل العربي الذى ابتكره كاتبنا الاديب والبطل اليونانى الذى ابتكرته
الاسطورة واستعاره الكاتب الفرنسي هو ان البطل العربى حى يريد ان يوجد شيئا وان يبلغ به غاية فلا يوجد شيئا ولا ينتهى الى غاية والبطل اليونانى حى تعاقبه الالهة بهذا العناء المتصل الذى لا يغنى عنه قليلا ولا كثيرا ومن اجل هذا حرص الكاتب الفرنسي على ان يستعيره لمذهبه ليبين أن حياة الانسان عبث لا غاية لها ولا طائل منها .
والبطل العربى يكلف بالخيال وتحمله العاطفة وتحمل معه الخيال وتذهب بهما جميعا الى غير مذهب فهو اذن صائر العدم هو وخياله وسده ولا تبقى الا زوجته البائسة المذعنة والارض وجدبها الذى تحبه وتهواه .
وأنا بعد ذلك تارك للاستاذ بطله وللكاتب الفرنسي اسطورته اليونانيه ومنتقل الى المذهب الجديد الذى أشرت اليه آنفا والذى لم يحققه أدباء العرب القدماء والمحدثون . ذلك ان الوجودية قد اسلمت على يد الاستاذ المسعدى كما تنصرت فى فرنسا على يد الكاتب الفرنسي المعروف جبريل مارسييل وليس فى ذلك شئ من الغرابة فالفلسفة كلها قد كانت وثنية حين ابتكرها اليانانيون وسقراط وتلاميذه خاصة ثم تنصرت حين انتصرت المسيحية على وثنية العالم القديم أو العالم اليونانى الرومانى خاصة . وأسلمت بعد ذلك حين أتم لله نوره وانتشر الاسلام فى الشرق والغرب .
ولا غرابة اذن فى ان تكون الوجودية ملحدة أولا ثم تنتصر ثم تسلم آخر الامر . والاسلام آخر الديانات السماوية ونبيه صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين . والله وحده قادر على أن يهدى من يشاء ويضل من يشاء . وقد قال لنبيه انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء . وقد هدى الله الوجودية الى الاسلام فى هذه الايام على يد الاستاذ الاديب .
وان كنت اجادله فى بعض هذا المذهب فالاستاذ يريد ان يجعل بطله مسلما مؤمنا بالله واثقا بأن قوته مشتقة من قوة الله وان ذاته كما يقول ليست الا قبسا من الذات المطلقة التى هى ذات الله عز وجل . فهو إذا عمل وحرص على ان يوجد شيئا وعلى أن يكون مبتكرا خالقا - وان كنت اكره ان يضاف الخلق الى غير لله وحده - انما يسمو الى حيث ينبغى له ان يسمو بحكم ما ركب فى طبعه من هذا النور الالهى المطلق ولكن النور الالهى المطلق لم يطلب قط الى الانسان أن يكون معاندا الى اقصى غايات العناذ مكابرا الى البعد ما يمكن ان تبلغ المكابرة وانما يطلب اليه ان يكون عاقلا رشيدا يدبر امره فى أناه وحذر
وحكمة واحتياط لما يمكن ان يلقى من الخطوب لا يغامر ولا يقامر ولا يلقى بيده الى التهلكة ولا يرسل نفسه فى أثر الخيال على سجيتها وينتظر حتى تحمله العاصفة وتحمل معه خياله وتذهب بهما فى غير مذهب ويترك وراءه من كلف القيام عليه مثل هذه الزوج البائسة المطمئة التى تحب العمل ولكنها تكره العناد .
واذا لم يكن بد من ان أفسر هذه الوجودية المسلمة فى مذهب الاستاذ المسعدى فانى افسرها له ولا بأس عليه من هذا التفسير فهو نفسه قد أنبأنا فى مقاله الممتع بان الشاعر الفرنسي بول فاليرى قد سمع قصيدة من قصائده تفسر فى السوربون فتحدث بعد ذلك بأن أستاذ السوربون قد أنبأه بأشياء كانت فى قصيدته ولم يكن هو يعرف أن قد اشتملت قصيدته عليها . فليكن الاستاذ المسعدى بمنزلة ذلك الشاعر العظيم ولاكن أنا بمنزلة الاستاذ المتواضع لذى يدل الشعراء والادباء على ما وضعوا فى كلامهم عن غير ارادة له ولا علم به . أما تفسيرى لقصة الاستاذ المسعدى فيسير جدا وهو انه كتب قصته أيام الاستعمار الفرنسى الذى كان جاثما على تونس وعلى قلوب التونسيين وعقولهم يأخذ على وطنهم طرق العمل والانتاج كما يأخذ على وطنهم طرق النشاط والاسهام فى ترقية الحضارة كما تفعل الاوطان الحرة المستقلة . كتب قصته وهو يائس أو كاليائس يريد ان يشعر بوجوده وبأنه شخص عاقل قوى يجب ان يؤثر فى الحياة كما يتأثر بها وان يخرج من هذا الاذعان الذي كان مفروضا عليه وان يجاهد في سبيل ذلك ما استطاع الى الجهاد سبيلا . يجاهد ويجاهد دون ان يحفل بما يصيبه من العناء والشقاء وما يعترضه من المصاعب والعقاب ... ويجاهد غير حافل بما يفرض عليه من الاخفاق فى أثر الاخفاق يقاوم اليأس مهما يعظم ومهما تكثر دواعيه ويرفض الاذعان مهما تكن فيه من راحة وخفض ونعيم ويأبى الاستسلام مهما تغريه به المغريات ولا عليه ان تحمله العاصفة هو وخياله لتذهب بهما فى غير مذهب فكل ما يمكن أن يتعرض له من الاذى والالم والموت احب اليه وأهون عليه من الاذعان ولو أوتى فيه ملء الارض ذهبا .
كتب قصته فى ذلك الطور من حياته وحياة نظرائه من مواطنية وحياة وطنه كله . فكانت قصته مرآة للبطولة التونسية فى مقاومة الاستعمار الفرنسي وفي انتزاع الحياة الكريمة الحرة لنفسه ولوطنه ولمواطنية جميعا . واراد الله ان تكتب القصة قبل ان تنجلي غمرة الاستعمار عن الوطن التونسى حتى اذا انجلت رجع اليها الكاتب فلم ينكرها ولم تنكره لانها صورت طورا من اطوار
حياته ولونا من الوان جهاده وصورت ما كان يشيع فى تلك الحياة من ذلك الحزن القاتم الذى يوشك أن يبلغ اليأس ولكنه لا يبلغه لان العزم والامل كانا أقوى منه قوة وأشد منه بأسا .
هذا هو التفسير لقصة كاتبنا الاديب قد لا يجده هو فيما بينه وبين نفسه . وهو من اجل ذلك يتكلف تأويل قصته ليلائم بينها وبين الحياة التونسية الجديدة . وأحب أن يتأكد الكاتب انى لم أخدع عن تأويله هذا المتكلف وأنا اتحداه وأطلب اليه أن يسعدنا بانشاء قصة تمثيلية جديدة يصور فيها الامل والعمل وازعم له ان هذه القصة الجديدة سيشرق فيها نور من الثقة التى لا تعرف اليأس ولا تشفق من الاخفاق وان بطله فى هذه القصة سيكون امضى عزما واصدق ثقة بنفسه وسيبلغ غاية ان لم ترضه فهى خير من الذهاب مع العاصفة في غير مذهب . ذلك لانه سيكتب قصته هذه وقد تغيرت حياته وحياة الوطن التونسى من حوله فأصبح كلاهما مالكا لامره لا يفرض عليه اذعان ولا استسلام ولا يدعوه احد كما كانت ميمونة تدعو غيلان الى الاذعان والاستسلام .
وبعد هذا كله فمقال الاستاذ ممتع وان لم يقنعني بتأويله لقصته وامتاعه يأتي من أنه حمل الوجودية على ان تسلم طوعا أو كرها وأتاح للذين يحبون ان يكونوا وجوديين ان يلائموا بين وجوديتهم وبين حقائق الدين فى غير مشقة ولا عناء .
والاستاذ من غير شك يعلم ان وجودية الكاتب الفرنسي جان بول سارتر ملحدة عن الدين خارجة على الاله وهو قد قرأ من غير شك مسرحية الذباب لهذا الكاتب . ورأى كيف يخرج أورست على كبير الالهة ويأبى ان يستجيب له ويعلن اليه فى شىء يشبه القحة ان ليس لكبير الالهة عليه سلطان فحسبه انه خلق الانسان وليس له بالانسان شأن بعد ذلك .
هذا الالحاد الصارخ وهذا العصيان الواضح من الانسان لكبير الآلهة يصور وجودية جان بول سارتر ووجودية الفيلسوف الالمانى هيدجر وهي وجودية قوامها ايمان الانسان بنفسه الى أبعد حدود الايمان بحيث يجعل الانسان نفسه مقياسا للخير والشر ويحمل الانسان وحده تبعة أعماله ولا يسأل عنها الا امام نفسه قبل ان يسأل عنها امام الجماعة وقوانينها .
فليس غريبا ان تجمح الوجودية بالانسان وتمضى به الى ابعد مما يريد اصحابها .
فاما الوجودية التى تنصرت فى فرنسا على يد جبريل مارسييل او اسلمت فى تونس على يد الاستاذ المسعدى فهى تجعل لثقة الانسان بنفسه حدودا اهمها واقواها وأضخمها هذا الحد الديني الذي يعصم الانسان من الغرور ومن الجموح
ويلقي في قلبه انه مسؤول أمام قوة اشد منه بأسا وأعظم منه ومن الجماعة وقوانينها سلطانا وهى قوة الله الذى يراقب الضمير ويعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور .
ولست ادرى أتنجح هذه الوجودية المسلمة ام يقضي عليها بالاخفاق . الذي اعلمه هو ان الوجودية المسيحية لم تكن تتجاوز صاحبها جبريل مارسيل الا قليلا وانى لاخشى ان تقف الوجودية المسلمة عند الاستاذ المسعدى ولا تتجاوزه الى غيره حتى بين الشباب التونسيين . ذلك لانها بعد تنصرها وبعد اسلامها قد أصبحت مذهبا فلسفيا لا أكثر ولا أقل .
والمذاهب الفلسفية كثيرة يجادل فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون دون ان تأخذها كثرة الناس مأخذ الجد .
وكم كنت أريد ان اخاصم الاستاذ المسعدى شيئا حول وجودية القدماء الذين ذكرهم في مقاله الممتع ولكن لهذه الخصومة حديثا غير هذا الحديث الذي اسرف فى الطول فلنرجئه اذن الى وقت قريب وهذه الخصومة بالطبع لن تكون الا خصومة بين صديقين أليفين بعقليهما وقلبيهما وان نزحت بكليهما عن صاحبه الدار وبعد بكليهما المزار .
وللصديق الكريم تحيتى خالصة وشكرى صادقا والحاحي في ان يقبل ما وجهت اليه من التحدى ويكتب لنا قصة جديدة عن الامل والعمل لنرى اينا المخطىء وأينا المصيب .
