الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

أطوار :, مدرسة التجديد, في الشعر التونسى الحديث (*), (2)

Share

تولدت حركة تجديد الشعر العربى فى تونس عن مرحلة : التحسس الثقافى (1) وفى هذه المرحلة انبثقت حركة الفكر عن مثل التساؤلات الآتية : أين تقع تو نس فى الهرم الدولى ؟

لم فقدت البلاد امكانيات الثبات فى المعترك الزمنى ، بالرغم مما كانت عليه إبان الاحتلال الاسبانى ، وقبله ، من منعة ، وجاه ؟

كيف توقفت مسيرة النهضة المزدهرة فيها فجأة ، وبكيفية غير طبيعية ؟ الى اى حد هبط المستوى الثقافى ، وشلت حر كة الفكر الناضجة ؟ بم تستعيد مكانتها سياسيا وحضاريا ؟

1 - طور الاحياء :

فلما حلت المائة الحادية عشرة هجرية : السادسة عشرة ميلادية ، وتمخضت عن نشاط تعليمى بدأ : تبلق ثقافى استرد به الفكر التونسى ابصاره ، كنتيجة لفهم علل الوضع المخذول ، وتحديد وسائل استصلاحه ، : كانت ثمرة التطلع المشوق للمدد الروحى آخذة بالانعقاد ، وغدا للتحسس الثقافى مضمون ايجابى تخطى حالة : الشعور بالضيق من القحط المستشرى فى الاوضاع المتدهورة ، الى حيز الانفراج اعطى نزعة التجديد فى النهضة الادبية الحديثة : مرحلة البداية لطور اول ، اسميه : طور الاحياء الادبى .

فى هذا الطور المبكر عرفت البلاد فئة من الشعراء المجيدين ، ترسموا فى تجاربهم الشعرية ايمة القريض فيما قبل انحراف الاداة الفنية عن طبيعتها ، ومن غرر القصائد استلهم رواد التجديد الاوائل ، فى طور المخاض ، سبيلهم لافراغ خواطرهم الشعورية على شئ من العفوية والاصالة ، واشربوا عطاءهم من ذواتهم ومواهبهم . ومنهم على سبيل المثال :

1- محمد زيتونة المنستيرى (1081 : - 1670 م . - 1137 ه . - 1724 م .) ومن غرر قصائده سينيته التى صاغها فيمن نسخ الكتاب النفيس : " سمط اللآل " (1) ومطلعها :

أحييت آثارا غلون دوارسا           وحميت أطلالا بقين طوامسا

و هزمت اجناد الهوى لحواسد        لجمال بهجته خضعن نواكسا

ورفعت استارا فهلل حسنه           فى الخافقين مكبرا ، ومجالسا

ابرزته للافق بدرا نيرا                 فرمت لواحظه القلوب ذواعسا

و نشرت فى غرز الطروس محاسنا     برزت لارباب العقول عرائسا

و سرين فى جنح الظلام اهلة        فتوقدت فى الداجيات فوانسا

قد اصبحت بالافق فخرا طالعا      تهدى الجهابذ ، رحلا وجوالسا

تشفى القلوب بسرها و شفائها      تجلو العمى ، تغنى الفقير البائسا

2 - محمد بن عمر سعادة المنستيرى ( 1088 ه - 1677 م - 1171 ه - 1757 م .) ومن رقيق شعره العفوى ما قرض به : " شرح التسهيل " (2) فى تائيته العذبة :

تخجل بدر التم فى طلعته          وتسلب الناسك فى بردته

نتائج انتج عشقى بها             للهو ميلا ، والى صبوته

ورد منى عنفوان الصبا            بعد تناسيه ، الى جدته

طربت من حسن حديث لها      ما طرب القانون فى رنته

3 - محمد الخضراوى التونسى المتوفى سنة : 1144 ه - 1731 م ومن روائع شعره مرثيته فى الشيخ : محمد زيتونة سالف الذكر اولا ، وطالعها :

قلب يذوب ، ومهجة تتقطع         وأسى يزيد ومقلة لا تهجع

ولهيب نيران تضرم وقدها             يصلى بجمرتها الحشا ، والاضلع

وتلهف وبكى ، وفرط كآبة           ومدامع مسفوحة لا تقلع

لهجوم خطب هائل مستعظم          مارئ اهول قط منه ، وافظع

انهدت الاركان بعد هجومه           وغدت لطلعته الجبال تصدع

                                              ...(3)

وتميز هذا الطور المبكر بظاهرتين هامتين ، تجلت اولاهما فى انبعاث الحياتين : الثقافية ، والاجتماعية . بينما اختص بالثانية المجتمع فى اتجاهه وجهة حضارية ، كان للاقتصاد منها ازدهار ، وللعمران فيها انتشار ، وللصناعة حر كة ورواج .

أ - مشاركة المرأة

هذه هى الظاهرة الاولى ، اذ لم تغزو المراه فى انطلاقة الفكر المبكرة ، بل أثرت بمشاركتها الرجل حر كة اليقظة مارد على الانتعاشة الذهنية بعض طاقات الجنس المهدرة ، لتحرير الفكر من الجهل ، وانقاذ الوجدان من غيبوبة الاغفال ، وصفاقة الجفاف .

فكانت عزيزة بنت احمد بن عثمان ، المعروفة ( بعزيزة عثمانة ) المتوفاة سنة 1122 ه - 1710 م رائدة لامعة فى هيكل المعرفة الغض ، وعنصرا نشيطا فى اصلاح المجتمع النهوك ، وتجديد حياته .

وهى لصالح المجتمع الذى ظهرت فيه خرجت عن تشبث الذات بما تملك من نفيس ، لتعطى الهيئة الاجتماعية ، عن سخاء ، ما تضن ببعضه النفس مما تدخره لصروف المستقبل الخفية ، حتى فرغ " الأنا " فى شخصها بانفتاحه على الآخرين من حماة الجشع ، ثم مضت بسلوكها الفريد تريحه من كابوس الأثرة ، تخلع عنه أشد العقد ، حتى اخف ملامس الغريزة احتمالا ، ليستوى المدار مع " النحن " لبنات البناء الاجتماعى ، لا يختص دون اى منها ، ولو ببعض استئثار .

وكان ان وقعت هذه المصلحة المجددة ، بطريق المجاهدة الروحية على متسعها الانسانى الرحب ، فشمل قلبها الكبير العدد المتكثر ، لا تتنافس فى رحابه المنازع والمنازغ ، ولا تتناقض لديه المصالح والمطالب ، لان الآخرين نزلوا من الخويصة خلايا متكاملة معها فى نسيج وجودها المخمل .

وحقيقة ما حصل فى المعترك البشرى ، بانبساط هذه المراة على مجتمعها ، سرى الى مسالك التعبير المؤدية ، اذ تجدد بفعلها مدلول " الخويصة " كمفرد لغوى ، وتحول فى مدماك الشخصية المستعلية على اوتادها المادية بقدر ما لحق

مفهوم " الذات " من تطور فلسفى سلوكى ، لم يعد للفرد منه حدود ينغلق فيها على انطواء ، وانما اضحى عضوا نشيطا فى كيان : المجموع الذات الجديدة التى عوضت فردية الذات .

وهنا نؤكد على اهمية هذه الظاهرة التى تكاملت فيها جهود الجنسين لاعادة بناء الصرحين الثقافى والاجتماعى ، وهى وان لم تنسل متكافئة فى كل المراحل اللاحقة ، فاختل التعادل فى كم ما اعطيا ، فالمهم ما تحقق منها ، منذ البداية ، و فيه اكثر من برهان على وعى المرأة مسؤوليتها ، وحضورها الفعال فى تطوير المجتمع ، وتخليصه ، واستعدادها للمبادرة الخلاقة .

نؤكد عليها لنربط بها الدعوة الكبرى التى نهض باعبائها الثقيلة مجدد كبير ظهر بعد نحو قرنين من ظهور عزيزة عثمانة ، دعا قومه - فى اوائل القرن العشرين _ الى انقاذ المرأة من منحرف التقاليد ، وتحريرها من الجهل ، والجمود ، و الظنة ، وانعاشها بنور المعرفة وصالح التكوين ، وهو المصلح الاجتماعى : سالم بن حميدة الاكودى (4) ثم شاركه فى حمل الرسالة الخطيرة تلميذه العصامى : الطاهر الحداد فيما بين 1930 و 1935 ليواصل الاستاذ بعد هذه السنة التى توفى فيها الحداد مهمة التبليغ والانقاذ .

ب - مشاركة الجاليات الاندلسية :

فى نفس الفترة ، نزح الى الاراضى التونسية افواج من الاندلسيين فى آخر حملات الاسبان على من تبقى بالاندلس من المسلمين ، لاجلائهم عن اوطانهم ، فكان لهؤلاء النازحين دور فعال فى تنشيط الحركة الاقتصادية ، و بعث الصناعة الاندلسية فى المهجر التونسى ، وازدهار فنى النقش والزخرفة ، وانتشار العمران فيما استحدثوه من احياء ، وقرى ، ومدن ، وما احيوه من اراض ...

اما مضمار المعرفة فلم يكن لهم فيه نصيب ، اذ جاؤوا بالامية المطبقة التى فرضت عليهم فى موطنهم الام لما غلبت دولهم ، ورد حكمهم الى ملوك الفرنج فى كامل بلاد الاندلس الذين شرطوا عليهم مقابل بقائهم بها التحول عن تقاليدهم ، والتخلى عن لغتهم .

جاء فى كتاب " نور الارماش فى مناقب سيدى ابى العيث القشاش " (5) : (( .. لما جاء الاندلس لتونس كنت انا بتونس برسم الزيارة ، وكنت ذات

يوم خارجا من باب بشرقى جامع الزيتونة ، فلقيت كبراء الاندلس ، ومشائخهم ، وفى ايديهم ورقة كاغط ، وهم يفتشون على من يقرؤها لهم ، فصادفونى ، فقالوا : انت تقرأ خط الشيخ سيدى ابى الغيث ؟ فقلت لهم : نعم ! فاطلعونى على ورقة مكتوبة بالاخضر ، فيها مكتوب :

" الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله . الى ساداتنا الاندلسية خصوصا منهم سيدى فلان ، وسيدى فلان ، الى ان سمى من اكابرهم عشرة رجال ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

اما بعد ، فلا مزيد بحمد الله تعالى الا خيرا ، وانا داع لكم بخير ، وما ذكرتم لنا على انى استخير الله تعالى لكم ، فاستخرت لكم عند والدى ، والثانى ليلة عند استاذى سيدى محمد حذيفة ، والثالث ليلة عند والدى ، فرأيت لكم خيرا ، والمهدية مشتقة من الهدى ، وانتم كما قال الشاعر :

تحيا بكم كل ارض تنزلون بها      كانكم ببقاع الارض أمطار

وذكر تكملة الاربعة ابيات . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، من العبد الفقير ابو الغيث . " اه .

" . . وهذه الحكاية صادرة من شاهد عيان ، وهى اجلى ما يمثل لنا جالية الاندلس ، ولا يعادلها فقرات مثلها فى كتب التاريخ . ويستفاد منها امور . . - منها - :

انهم كانوا على حالة جهل حتى لم يستطيعوا قراءة كتاب الشيخ ابى الغيث . . " (6)

_ يتبع _

اشترك في نشرتنا البريدية