كانت تربطني بالبحر ألفة كبيرة ولدت فى بيت على شاطئه ومرحت صغيرا وهو ينظر الى ويتملى منى . . وجبته كبيرا على ظهر سفينة مع ثلة من الخلان . .
عشقت البحر وشغفت بلونه الازرق المشوب بخضرة لازوردية وفتنت بهدير لجته تحدثني باحاديث مختلفة . .
بيتى يواجه البحر وكل صباح افتح نافذتي العريضه المطله عليه فأجد البحر كل يوم فى حال جديدة . . فتارة تنعكس عليه أشعة الشمس المشرقة فتتلألا زرقته الصافية ، وتارة تمتزج الالوان على صفحة الماء فتبرز اخاذة ، فتانة . .
ويوما يبدو البحر هادئا ساكنا راكدا وآخر يبدو فيه مزبدا هائجا مضطربا . فيتجلى هكذا كل صباح فى وجه جديد . . وفى حال متغيرة .
كنت أقف الساعات الطوال على الشاطئ أرنو الى البحر معجبا بعظمته وقوته مفكرا فى شأنه .
فهو دوما نقى . . متجدد . . لا ينفد فبالصفاء معدنه ونقاوة سريرته ، وثراء مكنوناته . .
كانت علاقتى بالبحر علاقة متينة . وكنت احس ان هذه العلاقة متبادلة . . ان صداقتي للبحر صداقة قديمة . . عريقة . . نسجت خيوطها عهود قديمة . .
أعجبت بهدير أمواجه . . وتلاطم زبده . . وهيجان مياهه . . كبرت ونموت مع البحر . . وكم يحلو لجدى فى الصيف ان يمتد على رمال الشاطئ لتلفحه اشعة الشمس وتصبغ بشرتى بسمرة لذيذة مستحبة .
وكنت كلما تشتد احزانى اخلو الى البحر فيغسل اشجاني . . ويبرد لظاي . .
ذات ليلة من ليالي الشتاء الباردة . . بينما كنت نائما فى بيتى اذ قمت مذعورا على صوت نسائى رقيق يناديني من اعماق اللجة . . ويلح فى النداء . .
فزعت الى البحر بلباس النوم فلمحت وسط اللجة فتاة شقراء بلورية الجسد زرقاء العينين ، لماعة الحدقتين ينبعث منهما بريق خاطف يجذبنى اليها جذيا شديدا . . وغمر نفسي لحن رائق . . ونغم يحمل الى قصيدة حب وسمعت الفتاة تناديني بصوت موسيقى تقول لى :
- تعال يا حبيبي . . أنا حبيبتك انتظرتك فى البحر طويلا . . تعشقتك مليا . . وحان اليوم قدومك . . ان كل ليلة انتظرك .
واحسست بدافع قوى الى ان ألقى بنفسي في خضم الامواج والتقى بها واحتضنها مستجيبا لطلبها . . سمعتها تحدثني وتقول لى :
- " حبيبتك ليست بالارض بل ههنا . . انا حورية من حوريات البحر وعروس من عرائسه . . اناديك كل ليلة . . ألم تستمع الى . . كل ليلة آتى من الاعماق واقترب من الشاطئ لارنو الى بيتك ونوره الشاحب . .
انى انتظرك كل مساء فأنا أسيرتك . . أسيرة حبك وهواك . . ولا فكاك لى من اسرى . . فتعال يا حبيبى . . انى هنا فى انتظارك . . "
ولم اتردد لحظة في القاء نفسي في اللجة الباردة قائلا للارض :
- الوداع ايتها الارض . . لقد حان الان رحيلى عنك بدون عودة . . انا ذاهب الى لقاء حبيبتى الفاتنة . . انى وجدت حبيبتى . . ها هى ذي تنادينى وهأنذا أقبل عليها . .
وارتميت فى البحر بكل قوتى مستسلما للامواج ، باسطا ذراعي ، مندفعا نحو حبيبتى وأخذت تطغي على أنفاسى وحواسى رائحتها وهى رائحة مائية فاغمة . .
ورأيتها بصدرها الممتلىء الناصع وبيديها اللدنتين الغضبتين ، وبحلمتيها العجيبتى اللون والشكل ، وبشعر رأسها الذهبى الغزير ، المتدفق المغرى . . اقتربت منها فى الماء واخذت أعانقها بكل شغف وتعطش وكان عرسى الاول في البحر . . وتوالت الاعراس بعد ذلك على زفير الرياح ، وصخب الامواج ! . .
