الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

أعلام الادباء وعباقرتهم بتونس، ابو الحسن حازم القرطاجنى، المتوفى بتونس سنة 684 ه

Share

ولد حازم ( * ) بقرطاجنة من سواحل كورة تدمير من شرقي الاندلس سنة 608 ه . وما كاد يبسم فى روض حياته زهر الشباب حتى انبثقت أنوار ذكائه الوقاد فأضاءت له السبل وأذكت طموحه للضلاعة والتحصيل فازداد حازم القرطاجني توغلا في المعرفة واشتعل ذكاء وازداد كدا حتى بلغ عدد أساتذته ( الالف ) وهو عدد خطير يبين المدى الذي بلغت إليه الثقافة الاسلامية والآداب العربية وانتشارها انتشارا عميقا في هذا الجيل ويعرب عما كان لهما من أعلام وآثار لم تقو على مصارعتها الادهار . وقد تحدثت عن حازم الدواوين التاريخية والكتب الادبية طويلا وفي طالعة من تحدث عنه القاضي عياض في أزهار الرياض ، قال بعد أن نسبه إلى قرطاجنة ما نصه : هو خاتمة شعراء الاندلس الفحول مع تقدمه فى معرفة لسان العرب وأخبارها . نزل افريقية بعد خروجه من بلده فصار له بها صيت إلى آن توفى بتونس سنة 684 ه كما تحدث عنه تلميذه العظيم ابو حيان الاندلسي المفسر الشهير المتوفى سنة ك 74 ه . والحافظ ابن رشد الذي قال عن أستاذه حازم ما نصه : حبر البلغاء وبحر الادباء ذو اختيارات فائقة لانعلم أحدا مما لقيناه جمع ما جمع من علم اللسان ولا أحكم ما أحكم من معاقد البيان .

وقال عنه السيوطى في الطبقات حازم شيخ البلاغة ، والآداب وتحدث عنه العبدرى فأطال وحلاه بكل رائعة من المقال وقال عنه مؤرخو اللغة والآداب : إنه خاتمة الشعراء وعلماء اللغة فى هذا الباب . ولضلاعته اصطفته الدولة الموحدية فكان منتظما فى سمط شعراء أحد خلفائهم وهو الرشيد من أحفاد عبد المؤمن بن على فأعاد للادب العربى سوقه النافقة التى كانت بدار السلام على عهد الرشيد ومجده التليد ولم يزل

مقيما بمراكش إلى أن تصدع صرح الدولة الموحدية وأخذت تتضاءل منها الانوار مؤذنة بالاحتجاب وما عمت أن بزغت تتألق بتونس على عهد الامير أبي زكرياء الحفصى مجدد ذلك المجد وابنه الامير الآديب الشهير ابي عبد الله محمد المستنصر . فكان ذلك من دواعي رحلة حازم إلى العاصمة التونسية والوفود على الامامة الحفصة فتلقته الدولة بجميل الوفادة والاكرام شأنها مع الادباء الاعلام وعرفت له حقه فأناطت بعهدته التدريس بتونس وتعقب التاليف التونسية وتعهدها بالنقد والتمحيص حسب قواعد ونظم متبعة فى ذلك العهد وقد حدثنا الاستاذ المدرس المؤلف أبو جعفر الفهرى التونسي عن هذا الترتيب الجاري به العمل في الطور الاول من حياة الدولة الحفصية بتونس وبيان ذلك أن الاستاذ الفهرى ألف شرحا لكتاب الجمل للزجاجى ولما آتمه قدم نسخة منه لخزانة الدولة الحفصية بتونس فصدر امر المستنصر بالله الحفصى بإحالة نسخة الكتاب على حازم لتعقبه ونقده جريا على العادة المتبعة فى ذلك فذهب أبو جعفر الفهرى إلى منزل حازم بتونس وطلب المثول بين يديه ولما أذن له بالدخول ، قال الفه المؤلف : وجدت كتابي بين يدى حازم فقلت له ، يا أبا الحسن : قال الشاعر وعين الرضا عن كل عيب كليلة فأجابني حازم على البديهة بقوله : يا فقيه ، يا ابا جعفر أنت سيدي واخي ولكن من هذا أمر الملك ، لا يمكن فيه إلا قول الحق ، والعلم لا يحتمل المداهنه فقلت له : أطلعني على مواقع الخلل . فقال أما هذا فنعم . وأظهر لي مواقع سلمتها وبشرتها وأصلحتها بيدى .

وهكذا كان حازم علما من أعلام النقد الادبي يشار إليه بالبنان بتونس فى ذلك الاوان الذى ازدهرت فيه العلوم والآداب بهذه البلاد . ولما ألف النحوى ابن عصفور كتاب المقرب فى النحو ألف حازم برسم ذلك الكتاب ردا أسماه الزيار على جحفلة الحمار . وعمر حازم بتونس إلى أن توفي بها ليلة السبت الرابع والعشرين من رمضان المعظم سنة 684 ه ولحازم تآليف عديدة رائقة منها سراج البلغاء ( 1 ) في البلاغة وكتاب القوافى ومنظومة فى النحو بديعة رائعة تخطى فيها أساليب النحاة ونظمهم وابرزها في قالب جذاب قال أبوحيان أثير الدين : أنشدنا حازم المذكور من قصيده في النحو :

الحمد لله معلي قدر من علما          وجاعل العقل فى سبل الهدى علما

ثم الصلاة على الهادي لسنته           محمد خير مبعوث به اعتصما

ثم الدعا لامير المؤمنين أبي     عبد الاله الذى فاق الحيا كرما

خليفة خلفت أنوار غرته       شمس الضحى ونداه يخلف الديما

سالت فواضله للمقتفى نعما    صالت نواصله بالمعتدى نقما

ومنها :

يا أيها الملك المنصور ملك قد             شب الزمان به بعدما هرما

فلو رأى من مضي أدنى مكارمكم        لم يذكروا بالندى معنا ولا هرما

ان الليالي والايام مذ خدمت             بالسعد ملكك أضحت أعبدا واما

ومنها

اما على اثر حمد الله ثم على                  اثر الصلاة على من بلغ الحكما

وما تلاذاك من وصل الدعاء ومن             نشر الثناء على من أسب النعما

فاسمع لنظم بديع قد هدت فكرى            له سعادة ملك أجزل القسما

حديقة تببهج الاحداق ان سطرت            من نحوها ناسم للنحو قد نسما

فاسمع إلى القول في طرق الكلام وما           علم اللسان به قد حد أو رسما

النحو علم بأحكام الكلام وما                  من التغايير يعدو اللفظ والكلما

وللكلام كمال فى حقيقته                        فان ترد حده فاسمعه منتظما

ان الكلام هو القول الذى حصل                به الافادة لما تم والتأملا

إلى آخر القصيد النحوى الذى يسيل عذوبة ويشوق طالب النحو لحفظ قواعده .

ادب حازم القرطاجني

بعد الادباء حازما من آفذاذ شعراء العربية وكتابها على الاطلاق في هذا الطور من أطوار الادب وقد كان أسلوبه فى الكتابة شبيها بأساليب الكتابة فى القرن الثاني والثالث للهجرة . ولولا تأثره بما تأثر به غيره من كتاب هذا العهد بالزخرفة اللفظية والتهافت على ذلك في التعلق بالجناس والمقابلة والتورية وغير ذلك من آفانين البديع لكان نسيج وحده في عصره .

وبالرغم عن ذلك فان ميزة الكتابة العربية فى اسلوبها القديم هى اظهر شئ فى تحبيره حتى لا يكاد الباحث يفرق بين كتائبه وكتائب القرون الاولى إلا بالامعان وشدة الدرس لان تأثره بالصناعة البديعية كان كالملح للطعام

كما يقولون : فجاء تحريره ناصع الديباجة حافلا بالمعاني سالما من الكلفة بريئا من التصنع متماسكا حصيفا واضح المعالم فلا تعقيد يشينه ولا تقعر يدهنه ولا عسلطة تطمس جمال قالبه وتطغى على روحه بل كان شاعرا فى نثره وإليكم ما يقوله فى ملك عصره المستنصر الحفصى

ملك جمع له العلم والعمل وطلع على الايام طلوع الشمس في الحمل فقاء به وزن الزمان واعتدل اشرقت إشراق الصباح فضائله وتدفقت تدفق السحب انامله وانقسمت بين نفع العفاة وضر العداة شمائله ووسعت أرباب النهى وطلاب اللهى نوافله فظفر بما أمله من الفوائد سائله وتقبلت بذلك عند الله وسائله ملك تحلى من كريم الخلال وعظيم الجلال ما تحلى فعاد به فى أفق الخلافة نورها وتجلى إلخ .

وليس هنا محل الغرابة فى بيانه العذب الفياض بل انه لبراعته وتلاعبه بالبلاغة ومهارته يمزج النثر الرائع البديع بالغض من أزهار شعره التى دونها زهرات الروض فى زمن الربيع . فتخال ان عقد در قد تبدد وانتشر ثم عاد فاتسق حلاه وتألق محياه فيروعك جماله الفاتن في حاليه عندما تصغي إليه

فالعلم من جنانه                          والرزق من بنانه

والصبح من سناه                        والشمس من عيانه

والبرق من ظباه                           والريح فى عنانه

والزهر من حلاه                          والزهر من بيانه

ماء الندى معين                          يفيض في معانه

وكل نجم سعد                              قد لآح في أوانه

فالدهر ليس فيه                           أسعد من زمانه

والارض ليس فيها                         أخصب من مكانه

وهكذا أحرز حازم قصب السبق فى التفنن والمقدرة مع براعة في الوصف وعذوبة فى البيان شأن الموهوبين الملهمين فأي فؤاد لا يخفق وأى روح لا تتهفو وأي طبع لا ينتشي وأى عاطفة في الانسان لا تتحرك إذا فوجئت بقول حازم .

أدر المدامة فالنسيم مؤرج                والروض مرقوم البرود مدبج

والارض قد لبست برود جمالها            فكأنما هي كاعب تتبرج

والنهر لما ارتاح معطفه إلى            لقيا النسيم عبابه متموج

يمسى الاصيل بعسجدى شعاعه      أبدا يوشى صفحه ويدبج

الخ

ومن مقدرة حازم الادبية النادرة التى امتاز بها مجاراة امرىء القيس حامل راية الشعراء ومفخرتهم على اختلاف العصور فقد تمكن حازم من منازعة امرئ القيس فى معلقته وتصحيح معانيه المستهجنة ناقلا اياها من السخف إلى الحصافة ومن الهزل إلى الجد ومن العبث إلى الحقيقة فى أسلوب لا يتنافر مع أساليب الشعر الجاهلى ولا يبعد عنه فى الطبقة وهي محاولة على ما فيها من دقة وصعوبة فقد نجح فيها حازم سواء من الناحية اللغوية أو المعاني والتراكيب فتعجب حقا كيف يمتزج الادبان . الادب الجاهلى فى خشونته والادب العربى فى القرن السادس للهجرة فى زخرفته ورقته وتنميقه ومرونته ولضيق المجال نستعرض شيئا ما من تصديرات حازم لابيات معلقة امرىء القيس .

لعينيك قل ان زرت أفضل مرسل        قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وفي طيبة فانزل ولا تغش منزلا           بسقط اللاوى بين الدخول فحومل

وذر روضه قد طالما طاب نشرها        لما نسجتها من جنوب وشمال

ثم يأخذ في اقتفاء الاسلوب الجاهلى شيئا فشيئا مصححا للمعاني في الغرض الذى يريد :

وأثوابك أخلع محرما ومصدقا             لدى الستر الا لبسة المتفضل

لدى كعبة قد فاض دمعى لبعدها        على النحر حتى بل فدمعي محملي

ولحازم قصيد مطلعه

لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها                      أبكت أسى أم قطعت أسلاكها

وقد عارضه التيجانى بقوله :

يا ساحر الالحاظ يا فتاكها                     فتيا جواز الصد من افتاكها

والحق أن آثار حازم الادبية زاخرة لاحد نقف عنده ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله كما يقولون .

اشترك في نشرتنا البريدية