الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

أقباس ضائعة ، من عبقرية العرب العلمية

Share

عندما ننظر الى تراثنا الحضارى القديم ، هل يجب ان تكون نظرتنا

نظرة اعجاب ورضى مطلق ؟ قد تدعو مظاهر الاعتزاز بالقومية واصولها

وجذورها الى هذه النظرة ، وقد تفرض علينا بعض المبادىء الوطنية والاجتماعية

خلق تلك النظرة فى نفوس النشء المتطلع حتى يشعر بمدى الامتداد الزمنى الذي

يربطه بشرف المجد المفتخر به والقومية التى ينتسب اليها . او هل ننظر اليها

نظرة مجردة عن ذلك الرابط الذى يربطنا بها ، وعن ذلك الانتساب الذى لا

نستطيع انفصالا عنه او انفكاكا منه . انه من الصعب ان نجد عددا وفيرا فى امكانه

تلك النظرة ما دام منسوبا الى تلك الحضارة . ان هذه النظرة من المنتسب ذاته

قد تكون اصدق واقرب الى الواقع من نظرات المقطوعين عن تراثنا الحضارى

العربى اقصد ان نظرة العربى المجرد تكون ادق من نظرة الاوربى نفسه ؛ لان

بعض المفاهيم لا يمكن سبرها من الاوربى كما تسبر من العربى . ولو اخذنا مثلا

شخصية الرسول الكريم وقارنا بين الدراسات التى كتبها منصفو المستشرقين ،

وبين الدراسات التى كتبها امثال هيكل والعقاد وغيرهما لوجدنا فارقا كبيرا وبونا

شاسعا فى التوفيق بتلك الدراسات .

ولعل عهد الحملة على الحضارة العربية والثقافة الاسلامية قد فات

اوانه الآن ، ففي اول الامر كتب ضدها بدافع الكراهية الدينية والتعصب العقائدي ، ثم

كتب ضدها بدافع الروح الاستعمارية والتعصب العنصري . الا ان تبدد شمل

الحركة الاستعمارية ، وتطلع الشعوب العربية الى الاخذ باسباب التحضر والتقدم

والازدهار ، وانتشار الدراسات البعيدة عن التوجيه المدسوس ، كل ذلك وغيره

جعل الدارسين يظهرون قيمة الدور الذى قامت به الحضارة العربية فى تاريخ الانسانية

ويظهرون قيم العقول والافكار التى شادت او ساهمت فى بناء صرح تلك الحضارة .

وهكذا يصبح من المنطق ان ينظر العرب انفسهم الى تراثهم الحضاري نظرة نقدية مجردة ، لان الافتخار بالحضارة والاعتزاز بالثقافة لا يعنى اطلاقا انها مثل اعلى بعيد عن النقص او نقط الضعف .

حال بذهنى اكثر من هذه المعاني التي ذكرتها عندما هممت بكتابة هذا المقال ، وبالذات عندما اخترت هذا العنوان ( اقباس ضائعة من عبقرية العرب العلمية ) اننى ساسجل ثلاثة امثلة لهذه اللمحات الضائعة ، اسجلها وانا مؤمن بانها لو وجدت من تبناها لكان لها أثر اى اثر فى تاريخ الحضارة الانسانية ، ولعجلت بمظاهر من التقدم الانسانى تأخرت عن الظهور احقابا عديدة .

نعم قد تكون لمحة العبقرى سابقة لزمانها فيعذر المجتمع اذا لم يتمكن من تحقيقها او عاقته العوامل والعراقيل المختلفة عن الوصول اليها . لكن على شريطة ان يسعى ويحاول . اما ان يعزف عنها اطلاقا ويتناساها فتلك مسؤوليته الكبرى التى لا يمكنه التفصى منها . ان مقاومة الفكرة اجدى من تناسيها . مقاومتها تبعث على التفكير فيها وتغرى البعض بتحقيقها . اما تناسيها فمعناه قتلها وقبرها .

أ - عباس بن فرناس :

يقول صاحب نفح الطيب .. ومن حكاياتهم فى الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها ان ابا القاسم عباس بن فرناس حكيم الاندلس اول من استنبط بالاندلس صناعة الزجاج من الحجارة واول من فك بها كتاب الخليل واول من فك الموسيقى وصحح الآلة المعروفة بالمنقالة ليعرف الاوقات على غير رسم ومثال . واحتال في تطيير جثمانه وكسى نفسه الريش ومد له جناحين وطار فى الجو مسافة بعيدة ، ولكنه لم يحسن الاحتيال فى وقوعه فتأذى فى مؤخره ، ولم يدر ان الطائر انما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبا .

وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من ابيات :

يطم على العنقاء فى طيرانها     اذا ما كسا جثمانه ريش قشعم

وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والرعود (١) ويسجل ابن الخطيب لمؤمن بن سعيد ايضا ابياتا بالغة الوقاحة والاستهزاء . ان عبقرية ابن فرناس عبقرية بينة واضحة فقد فكر فى امكانية التغلب على الجاذبية واستعمال الفضاء واستغلاله . وتمكن بالفعل من تجربته البدائية ونجح .

والغريب ان بعض الناس نظر اليه نظرة باطل على لسان مؤمن بن سعيد ، وان البعض الاخر نظر اليه نظرة نقد وحق عندما لاحظ انه لم يستعمل ذنبا في مؤخره . وكلتا النظرتين انتهت عند هذا الحد . ولم يحاول غيره ان يكمل تجربته او يعد لها . صحيح ، انا لا اتطلب من ذلك العصر ان يحقق الطيران الآلى ما دامت معطيات العصر لا تسمح بذلك ، انما المتطلب ان يقع الدأب وتستمر التجربة ويطول البحث . ان هذا الذي لم يقع هو الذي جعل ذلك القبس الذهنى يضيع ويتلاشى بين تلافيف الظلام .

ب - ابو الثناء الاصفهانى :

ذكر البكرى في كتابه مسالك الابصار فى ممالك الامصار هذه الفقرة : ... وقال شيخنا فريد الدهر محمود بن ابى القاسم الاصفهانى امتع الله به لا امنع ان يكون ما انكشف عنه الماء من الارض من جهتنا منكشفا عنه من الجهة الاخرى . واذا لم امنع ان يكون منكشفا من تلك الجهة لا امنع ان يكون به من الحيوانات والنبات والمعادن مثل ما عندنا ، او من انواع واجناس اخرى (١).

يدلنا هذا النص على ما للاصفهانى من قوة تفكير واستنتاج . ان ما قاله ابو الثناء الاصفهانى قد تحقق بعد وفاته بقرن ونصف قرن . تحقق صدفة في سبيل البحث عن بلاد التوابل . ولم يحقق ذلك الشعب الذي صاح فيه برايه انما حقق ذلك قوم آخرون توفر لهم من الدوافع ما لم يتوفر للمجتمع العربى فى ذلك الحين . كان يكفى لتحقيق ذلك لو آمن جماعة من البحارة المغامرين كما آمن " كريستوف كولومب " بكروية الارض والوصول الى الشرق بالسير دوما نحو الغرب . ولكن هؤلاء المغامرين لم يوجدوا ، او لم توجد دوافع ايجادهم ويمكن ان نتساءل الم تصل الى المغاربة فكرة ابى الثناء الاصفهانى رغم مضي قرن ونصف على ظهورها بالمشرق ؟ قد لا نجد مستندا تاريخيا يثبت لنا هذا . ولكن الا يعلم المغاربة بما يجرى عند البرتغاليين والاسبان من محاولة عبور البحر والوصول الى بلاد المشرق ؟ الا قام جماعة منهم ينافسون شركاءهم في سواحل المحيط الهادي ؟ ان بعض المصادر التاريخية تثبت ان المغاربة كانوا ادلة للمغامرين البرتغاليين .

وان فاسكودو قاما الذى وصل الى دلهى كان معه بعض المغاربة حتى اذا وصل المحيط الهادى كانت تحت ارشاد القائد العربي احمد بن ماجد . فهل كان المجتمع العربى في شغل عما يحدث فى العالم اذ ذاك ؟ صحيح ان المشارقة لم يكن لهم ما يدفعهم الى البحث عن ارض التوابل من الغرب ما داموا على صلة ببلاد التوابل منذ الآف السنين ، بل انهم كانوا صلة نقلها من الشرق الى الغرب ، وموانيء الشام ومصر كانت مستودعات لهذه البضاعة . اما المغاربة فكانوا على صلة بالمغامرين البرتغاليين والاسبانيين ولكنهم كانوا من جهة ثانية على صلة حربية بهم اذ غزاهم الاسبان والبرتغاليون واستولوا على سواحلهم وهددوهم بالاستيلاء والغزو الكامل فهل نتخذ من كل ذلك عذرا موجبا لضياع قبس من اقباس العبقرية العربية .

ج - علي الآمدي :

كان علي بن الزين الآمدي مصابا بالعمى من صغره وقد اشتغل تاجرا يبيع الكتب . وهو اول من صنع الحروف البارزة فكان كلما اشترى كتابا اخذ ورقة وفتلها فصنعها حرفا او اكثر من حروف الهجاء مسجلا بها ثمن الكتاب بحساب الجمل ويلصقها على طرف جلد الكتاب ويجعل فوقها ورقة تثبتها فاذا غاب عنه ثمنه مس الحروف الورقية فعرفه (١).

لا شك ان الحاجة دفعت الآمدي الى التفكير فى ان الاعمى يمكن له ان يقرأ بأصابعه عوض عينيه او يكون الامدى قد قرأ بيت المعرى :

كأن منجم الاقوام اعمى     لديه الصحف يقرأها بلمس

فعمل على ابراز هذه اللفتة الى حيز العمل ولكن من المؤلم انه لم يات بعد الآمدي من تقدم خطوة اخرى فى هذا السبيل . وهكذا ضاع قبس آخر من اقباس العبقرية العربية كتب له ان يظهر فيما بعد في الغرب اثر جهود متضافرة وحلقات متتابعة من التفكير والبحث والتجربة .

اشترك في نشرتنا البريدية