- ٢ - بعض آرائه التربوية
فى ثنايا العدد الاسبق (*) من المنهل الغراء ، اتينا على جانب من أفكار ابن خلدون فى مقدمته المشهورة ، باعتباره فيلسوفا اجتماعيا حيث ذكرنا انه ولد فى تونس عام ٧٣٢ ه - ١٣٣٢ م ، وعاش متنقلا بين شمال افريقية حتى استقر به المقام فى القاهرة حتى طوت المنية ، أعظم فيلسوف ، عام ٨٠٨ ه - ١٤٠٦ م . أن ابن خلدون فجر ينابيع العلم ليس باعتباره مؤسس علم الاجتماع ، علم العمران والاجتماع الانسانى ، بل كموجه تربوى ، كما سنحاول ان نحتذى أقباسا من أفكاره التربوية من مقدمته ..
ان ابن خلدون ، كما يقول المؤرخ الانكليزى المعاصر « ارنولد توينبي » مفكر له أعظم انتاج أبدعه أى ذهن ، فى أى عصر ومكان ..
أولا - في أن العلم والتعليم في العمران البشرى : ان الانسان مفكر يسعى الى تحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيء لذلك التعاون الذى يؤدى الى انشاء العلوم والصنائع .
ان ما جبل عليه الانسان ، بل الحيوان، فى تحصيل ما تستدعيه الطباع فيكون الفكر راغبا فى تحصيل ما ليس عنده من الادراكات .
« لذلك يستعين بمن سبقه بعلم ، أو زاد عليه بمعرفة أو ادراك ، أو اخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يلغون من تلقى ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه ، ثم ان فكره ونظره يتوجه الى واحد من الحقائق والظواهر الاجتماعية يتخصص بها فتتشوق نفوس أهل الجيل الناشىء الى تحصيل ذلك فيفزعون الى هؤلاء المتخصصين فى ذلك العلم . » (١)
يلاحظ ان التربية الحديثة ، كما عرفها، المفكر الاجتماعى الفرنسى ، « دور كايم » فى أوائل القرن الحالى هى :
« التاثير الذى يجريه الجيل الراشد فى الجيل الناشىء » (٢) ، وبهذا يتضح ان تعريف دور كايم ما هو الا صدى تعريف ابن خلدون للتربية المتمثل : بتشوق الجيل الناشىء للتحصيل من الجيل الذى سبقه .
ان العلم بمعناه البسيط ادراك ما ليس بحاصل .. وبمعناه الكامل :
١ - ادراك ٢ - معرفة ٢ - تحصيل وامتلاك لاستخدامه فى يسر وسهولة .
وهذا هو ما وضحه ابن خلدون بقوله : ( فيرجع الى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو ادراك ) أى ان العلم يبدأ بالادراك ثم يتطور الى معرفة وتتوج المعرفة لتصبح علما يمتلك من قبل شخص متخصص قادر على تعليم ما تعلمه لتشوق الجيل الناشىء لهذا العلم .
لذلك تتفرغ طبقة معينة من الناس ، فى التعليم ، وتتخصص به فيكون التعليم للعلم من جملة الصنائع ، وذلك لأن الحذق فى العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه انما هو بحصول ملكة ، فى الاحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله والملكة غير الفهم . ويلاحظ أن الوعي والملكات كلها جسمانية سواء أكانت فى البدن أم فى الدماغ من الفكر وغيره كالحساب. والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم ، ولهذا كان السند فى التعليم فى كل علم أو صناعة الى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل ، ويدل على أن تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه فلكل امام من الأئمة المشاهير اصطلاح فى التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم والا لكان واحدا عند جميعهم ، ألا ترى الى علم الكلام كيف تخالف فى تعاليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين وكذلك أصول الفقه وكذا العربية وكذلك كل علم يتوجه الى مطالعته
تجد الاصطلاحات فى تعاليمه متخالفة (٣).
أى ان التعليم مهنة يتخصص بها طبقة معينة ، على اختلاف مستوياتها ، وهذه المهنة تتطلب ملكة وقدرة فى المعلم على الاستنباط والادراك يستتبع الاختلاف فى طرق التدريس وأساليبه بحيث يختلف من جيل لجيل ، كما هو الملاحظ ، فى سائر العلوم ، كعلم الكلام وأصول الفقه .
وهنا ، يبرز الاتجاه الواقعى لمنهج ابن خلدون فى دراسته للظواهر الاجتماعية ، بحيث لا يكتفى بالرأي القائل : ان العلم لأجل العلم انما اتخذ الواقعية واعترف بأن العلم والتعليم من جملة الصنائع وهو وسيلة من الوسائل التى يستعين بها الانسان للحصول على معاشه شأنه فى ذلك شأن أى من الصناعات الاخرى التى يرتزق منها صاحبها .
لذا فابن خلدون يعتبر ان للانسان هدفا من وراء السعي لتحصيل العلم الى الالمام بنواحى المعرفة المختلفة التى تعتبر وسيلة تساعده على أن يحيا حياة طيبة فى مجتمع راق متحضر .
وبهذا ، نجد ان ابن خلدون ، قد سبق كتاب القرن التاسع عشر فى أوربا ، وخاصة « ييكى » و « سبنسر » (٤) فى وضع هدف جديد للتربية هو مساعدة الفرد فى أن يحيى حياة طيبة ، كما رأى ابن خلدون ان الالم بالعلوم والصنائع وكسب المهارة وخدمتها واتقانها انما هو وسيلة لكسب الرزق ، فأكد بذلك ، كما قلنا ، اتجاهه الواقعى فى الظواهر الاجتماعية . وابن خلدون فى هذا الاتجاه الواضح يخالف الكتاب والمفكرين الاجتماعيين من أمثال أفلاطون ، وأرسطو ، والامام الغزالى، الذين اعتقدوا أن العلم للعلم ، وان
الانسان لا يطلب العلم كى يساعده فى حياته العلمية ، وبكون له مهنة تساعده على كسب العيش ، وانما يطلبه لمجرد السمو بالعقل وبالجسم والروح (٥) .
ولما كان تعليم العلم من جملة الصنائع ، وان الصنائع انما تكثر فى الامصار ، فالعلوم ، اذن ، انما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة .
لذا ، فابن خلدون ، يرجع أسباب تأخر التعليم الى تناقص العمران والغزو والفتح والانصراف الى تحصيل المعاش والازمات الاقتصادية ، وبالعكس ، فان التربية والتعليم تزدهر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة وعلى نسبة عمرانها فى الكثرة والقلة ، والحضارة والترف ، تكون نسبة الصنائع فى الجودة والكثرة ، لأن أمرا زائدا على المعاش من التصرف فى خاصية الانسان (٦) ، وهى العلوم والصنائع ومن تشوف بفطرته الى العلم فمن نشأ فى القرى
والامصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذى هو صناعى لفقدان الصنائع فى أهل البدو ، ولا بد له من الرحلة فى طلبه الى الامصار المستبحرة شأن الصنائع كلها (٧) .
ثم يضيف ابن خلدون الحث على طلب العلوم ولو تطلب ذلك رحلة غرضها لقاء المشيخة لحصول مزيد كمال فى التعليم ، والسبب فى ذلك ان البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه ، من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما والقاء ، وتارة، محاكاة وتلقينا بالمباشرة (٨) .
وابن خلدون ، يقرر ، ان الحيوانات تشارك الانسان فى كثير من الصفات الحسية والحركية وفى الغذاء والسكن ، ولكن الانسان ، كما سبق أن قلنا ، تميز عنها بأنه : ذو فكر يستطيع به الحصول على معاشه وغذائه ، وغير ذلك ، من متطلبات الحياة . فالانسان لذلك دائم التفكير لأن ( العلم والتعليم طبيعى فى العمران البشرى ) وان التفكير الانسانى هو الذى أوجد العلوم التى نراها منتشرة فى جميع أنحاء المعمورة ، وبما ان العلوم نتيجة للفكر ( وان الصنائع محصول اليد فى خدمة الفكر ، فلهذا . يمكن القول . ان جميع الفروق التى تميز الانسان عن الحيوان ، ترجع ، فى نظر ابن خلدون الى هذين العاملين الأساسيين : الفكر واليد .
الفكر الذى يدرك الكليات ، ويتناولها بالتحليل والتركيب .
واليد التى تعمل فى خدمة الفكر (٩) .
ثانيا - أقسام العلوم : تنقسم العلوم ، عند ابن خلدون الى قسمين رئيسيين : - علوم طبيعية وعلوم نقلية .
وفى هذا يقول ابن خلدون :
« واعلم ان العلوم التى يخوض فيها البشر ويتداولها فى الامصار تحصيلا وتعليما هى على صنفين : صنف طبيعى الانسان يهتدى اليها بفكره،وصنف نقل يأخذه عمن وضعه » . (١٠)
فالعلوم الطبيعية هى العلوم الحكمية الفلسفية وهى التى يمكن أن يقف عليها الانسان بطبيعة فكره ويهتدى بمداركه البشرية الى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو انسان ذو فكر .
والعلوم النقلية الوضعية وهى كلها مستندة الى الخبر عن الواضع الشرعى ولا مجال فيها للعقل الا فى الحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج الى الالحاق بوجه قياسى الا أن هذا القياس يتفرع عن الخبر بثبوت الحكم فى الأصل وهو نقلي وهى كعلم التفسير والحديث والفقه والفرائض .
والعلوم من حيث أهدافها تنقسم الى قسمين هما :
علوم آلية : وهى بمثابة وسائل الى فهم العلوم المقصودة لذاتها ، ثم يأتى بمثال يوضح فيه هذه العلوم فيقول : انها العلوم
التى تشمل النحو والبلاغة والحساب والمنطق .
علوم مقصودة لذاتها : وهى التى يسعى المتعلم للحصول عليها عن طريق العلوم الآلية ، وهذه العلوم هى الالهيات والطبيعيات وتفسير القرآن والحديث والفقه .
وابن خلدون ، يطلب من المعلمين أن يهتموا بهذه العلوم ، المقصودة لذاتها ، أكثر من اهتمامهم بالعلوم الآلية وهو يعلل ذلك بأنهم اذا استمروا فى دراسة الوسائل لم يصلوا الى العلوم المقصودة لذاتها ، وفى هذا الصدد يقول ابن خلدون :
« ان العمر يقصر عن تحصيل الجميع من هذه العلوم على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضيعا للعمر وشغلا بما لا يعنى » (١١)
ثم نجده ينتقد التقاليد السائدة فى عصره فيقول :
« وهذا كما فعل المتأخرون فى صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها واكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها فى العلوم المقصودة فهى من نوع اللغو وهى ، أيضا ، مضرة بالمتعلمين على الاطلاق . »
والسبب فى ذلك ان المتعلمين قد صرفوا اهتمامهم الى العلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فاذا قطعوا العمر فى تحصيل الوسائل ، فمتى يظفرون بالمقاصد ؟
وابن خلدون يستثنى ، من ذلك ، بعض الافراد الذين لديهم الاستعداد ، فقد جوز العدد قليل من المتعلمين أن يتوسعوا فى العلوم الآلية اذا كان لديهم الاستعداد الكافى ، واذا كان هناك فائدة لهم من
تعلمها كتدريسها اى انه يطلب أن يكون هناك علماء متخصصون فى هذا الشأن حيث يقول :
« فمن نزعت همته ، بعد ذلك ، الى شىء من التوغل فليرق له ما شاء من المراقى ، صعبا أو سهلا ، وكل ميسر لما خلق له » (١٢) .
ثالثا أصول التدريس : لقد اتجه ابن خلدون الى ناحية هامة جدا لها علاقة قوية بالتربية والتعليم . وهى اهتمامه بوجوب معرفة المعلمين للطرق الصحيحة فى التعليم (١٣) حيث أورد فصلا كاملا فى هذه الناحية : ( فى وجه الصواب فى تعليم العلوم وطريق افادته) (١٤) حيث يقول :
« اعلم ان تلقين العلوم للمتعلمين انما يكون مفيدا ، اذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هى أصول ذلك الباب ويقرب له فى شرحها على سبيل الاجمال ويراعى فى ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهى الى آخر الفن ... »
لقد استطاع ابن خلدون بمشاهداته الكثيرة للمعلمين ، أن يصل إلى هذه النتائج لأنه يعتقد أن كثرة من المعلمين يجهلون طرق التعليم والتدريس وبهذا يدعو ابن خلدون الى التخصص فى هذه
الناحية ، كما يقرر ، أيضا انه ليس كل انسان بقادر على أن يقوم بعملية التربية والتعليم واذا اعتقد بعضهم ، أن معرفة الانسان لمادة وهضمها كافيان لاعطائه القدرة على التعليم ، فانه مخطىء ، بل لا بد أن تتوافر فيمن يريد امتهان صناعة التعليم شروط واتجاهات تربوية تؤهله للقيام بهذه المهنة وتساعده على احتراف هذه الصناعة .
ان ابن خلدون ، قد عبد الطريق الصحيح ، الذى يجب أن يسير عليه كل من يريد أن يكون معلما ناجحا يعمل على تقدم مجتمعه بتربية الاجيال الناشئة بالطرق التربوية المثالية الصحيحة .
ان ابن خلدون ، الفيلسوف الاجتماعى، ينتهل من منهل التربية والتعليم ويصبح بذلك مثلا يحتذى فى الخبرة التربوية وهو يحدد لنا أصول التدريس فيطلب الاعتصام بمبادىء معينة ، ويحذر ، من ناحية أخرى، عن حالات سيئة يجب اجتنابها .
ولننتقل ، الآن ، الى مقدمة ابن خلدون ، فتجتزىء منها أقباسا تتعلق بالمنهج التربوى ، ولتنير لنا طريق التربية والتعليم وتساعدنا فى أداء واجبنا المقدس .
النوع الاول من التوجيهات : « ما يجب تطبيقه » :
١ - التدرج من السهل الى الصعب يرى ابن خلدون ، انه يجب على المعلم أن يسير فى التعليم وفقا لقواعد منطقية منظمة بالتدريج شيئا فشيئا ، وقليلا قليلا أى من البسيط السهل الى الصعب المعقد ، لأن العقل يبدأ بادراك أبسط
المسائل ثم يتدرج ، بعد ذلك ، الى ادراك الأكثر تعقيدا ثم الأكثر ... وهكذا .
ابن خلدون ، هنا ، يبين ان المتعلم المبتدىء لا يتمكن من ادراك كل ما يلقى عليه ، ولهذا وجب على المعلم أن يتنبه الى هذه الناحية المهمة لأن الاستعداد بقبول العلم وفهمه ينشأ تدريجيا وهذا يتطلب من المعلم أن يسير بالمتعلم خطوة فخطوة فيعلمه فى المرحلة الاولى مداخل كل باب من العلم والفن بشكل اجمالى ، وفى ذلك يقول :
« اعلم ان تلقين العلوم للمتعلمين ، انما يكون مفيدا ، اذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ، يلقى عليه مسائل من كل باب من الفن ، هى أصول ذلك الباب ويقرب له فى شرحها على سبيل الاجمال» (١٥)
وبهذا ، نجد ، ابن خلدون قد سبق « بستالوتزى » (١٦) « وسبنسر » اللذين قالا بالتدرج من السهل الى الصعب ، بعد عدة قرون .
٢ - معرفة المعلم بمراحل نمو العقل البشر البشرى : على المعلم أن يلم بكيفية نمو العقل البشرى التدريجى ، وذلك لكى يتمكن من أن يساير المعلم هذا النمو عند القيام بتعليم الطلاب ، وعلى حسب مستواهم العقلى : فالمعلمون فى الروضة هم غيرهم فى التعليم الابتدائى وغيرهم فى التعليم المتوسط وغيرهم فى الثانوى ثم الجامعات بمختلف
كلماتها لان لكل مرحلة خصائص معينة فى طريقة تدريسها . ولذلك وجب على المعلم مراعاة مدى امكان استعداد كل تلميذ لتقبل العلوم ومدى فهمه واستيعابه لها . اذ أن هناك اختلافا بين شخص وآخر فى القدرات العقلية ووجود فروق فردية ، كما انه يجب على المعلم أن يحبب المادة الى نفوس المتعلمين حتى يتكون عندهم ميل لها فيستغل هذا الميل وبستعين به للاقبال على المادة وفهمها ، لذا يجب مراعاة الاهمية واستغلال ميل الطفل للمادة لتيسير فهمه لها (١٧) .
وهكذا خط لنا ، ابن خلدون . طريقا سويا أصبح بموجبه على المعلم بموجبه أن يأخذ بنظر الاعتبار مراحل نمو العقل البشرى لأن لكل سن مرحلة استعداد ، ولكل علم متطلبات لفهمه واستيعابه وبهذا استطاع ابن خلدون أن يسبق علماء النفس والمربين المحدثين بعدة قرون .
٣ - الرحلة في طلب العلم : لقد تنقل ابن خلدون بين بلاد كثيرة (١٨) وكسب ، من ذلك ، اطلاعا فزادت خبرته ، وعظمت معارفه ، وذلك لأن ابن خلدون آمن واقعيا بأن الرحلة فى طلب العلم واجبة للمتعلم ، وهى من مكملات الثقافة ، لأن العلوم ، انما تكثر فى المناطق التى تكون فيها الحضارة متقدمة وفى ذلك يقول :
« ومن تشوف بفطرته الى العلم ممن نشأ فى القرى والأمصار غير المتمدنة ، فلا يجد منها التعليم الذى هو صناعى لفقدان الصنائع فى أهل البدور . فلا بد له من الرحلة فى طلبه فى الامصار المستبحرة (١٩).
وابن خلدون يحدد هذه الرحلة فيقول : « فلقد أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده
تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم انها انحاء تعلم وطرق توصيل وتنهض قواه الى الرسوخ والاستحكام فى المكان وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم . وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية ، فالرحلة لا بد منها فى طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال ، والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم » (٢٠) .
هكذا ، نجد ابن خلدون لم يقنع بالوصول الى العلوم عن طريق الكتب وحدها ، بل يجب أن يرتشف الطالب، العلم مباشرة من المنبع حيث يدرس المتعلم الكتاب على مؤلفه ، وهذا يتطلب معرفة بلغة ذلك الكتاب خاصة اذا تيسر للشخص هذا السفر فى سبيل ارتشاف العلم ، فى أى بلد كان ، وهذه أفضل طريقة فى تعلم اللغات الاجنبية حيث يحتك الشخص بأهل تلك اللغة ولو ان ابن خلدون لم يخرج خارج الوطن العربى وانما يستفاد من
اطلاق القول بالحث على الرحلة فى طلب العلم واللغات هى جزء من العلوم ، بل هى مفتاح الاطلاع على العلوم الاجنبية .
النوع الثاني من التوجيهات : « ما يجب عدمه والابتعاد عنه » :
١ - عدم الخلط بين علمين : « لا ينبغى للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم فيه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله الى آخره » (٢١) .
ويعلل ابن خلدون ذلك ، حيث يقول :
« واذا خلط عليه الامر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس منه التحصيل وهجر العلم والتعليم » (٢١) .
ان ابن خلدون ، وهو الخبير التربوى يحدد لنا هذا الطريق السوي بحيث لا تخلط مسائل الكتاب الواحد بغيره حتى يعيه من أوله الى آخره وحتى يطمئن الى كمال الفهم وكامل الادراك بعكس ما هو الحال الآن من أن نحشو كثيرا من العلوم فى مناهجنا ، فالمتخصص فى الجغرافية تراه ، ببعض الكليات ، يعطى كل شىء وقد لا يصيب من تخصصه فيها الا نسبة محدودة قد لا تصل الى ٥٠ ٪ ونعتقد انه اذا كان هناك ضرورة فى توسيع مدارك المتعلم فيجب أن تكون الدروس الثقافية والمكملة فى السنتين الاولى والثانية وأن تكون مواد التخصص كلها شاغلة مواد السنتين الثالثة والرابعة بحيث نحصل على كامل التخصص ، على الاقل ، فى السنتين الاخيرتين وألا يؤدى هذا الى ارتباك
نفسى يولده هذا الخلط بين علمين أو أكثر بحيث ، يجعل المتعلم ، يائسا من التحصيل ثم يهجر العلم والتعليم .
٢ - عدم الاختصار والحفظ والتطويل : يحث ابن خلدون على تجنب الاختصار فى العلوم بحيث يؤدى ذلك الى التزام الحفظ الذى يضع المتعلم فى قالب جامد بحيث يأخذ أقل ما يمكن ويحفظه ثم يتبخر ، بعد ذلك ، فيصبح المتعلم وكأنه لم يتعلم ، يقول ابن خلدون :
« ذهب كثير من المتأخرين الى اختصار الطرق والانحاء فى العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا فى كل علم، وصار ذلك مخلا بالبلاغة وعسرا على الفهم لانهم يعمدون الى الكتب فيختصروها تقريبا للحفظ كما فعل ابن مالك (٢٢) فى ألفيته لحفظ قواعد اللغة العربية .
ويلاحظ فى العصر الحديث ان بعض المعلمين يقومون فى تدريس الجغرافية والتاريخ والقواعد والأدب والبلاغة وعلم النفس والمنطق ويعطون ملخصات حيث تذكر فيها الحقائق بايجاز ، فتصبح المادة جافة صعبة ، ويشجع المتعلمين على حفظ هذه الملخصات عن ظهر قلب ، للانتفاع بها فى الامتحان . وبهذه الوسيلة تترك الكتب الدراسية ، وتبدل بكتب تسمى ملخصات فى كل مادة من المواد تسرد فيها الحقائق سردا بطريقة جافة ويحمل المتعلمين على شرائها وحفظها .
ان هذه الطريقة تنفر المتعلمين من البحث والتنقيب للوصول الى الأدب والعلم
والحكمة وتزهدهم فى القراءة والاطلاع فى أوقات الفراغ فى المدرسة وخارجها(٢٣)
ان المختصرات ، بالإضافة إلى ما تقدم ، تضيع المادة الأساسية وبلاغتها وضغط المادة يؤدى الى وجود مستوى منخفض فى التأليف والبحث ، لأن المختصرات لا تتطلب تحليلا وتوضيحا للمادة بل هى مادة محدودة قابلة للحفظ بجهد بسيط ولهذا نجد ، ابن خلدون يقرر عدم موافقته على الحفظ كوسيلة للتعليم ، اذ يقول :
« وان الملكة العلمية لا تحصل بمجرد حفظ مباحث العلم .. وانما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة فى مواضيع العلم ... » (٢٤)
ان ابن خلدون ينتقد هذه الأوضاع العلمية والتربوية غير الصحيحة ، وكأنه يعيش الآن معنا فى نهاية القرن العشرين ، حيث الملخصات والحفظ الذى يرتشفه المتعلمون فى كثير من أوطاننا وفى داخل مدارسنا .
ولم يكتف ابن خلدون بهذا ، بل من ناحية أخرى ، اشترط أن نمتنع عن التطويل فى الجلسات والقاء الدروس لأن ذلك يؤدى الى النسيان وانقطاع مسائل الفن والعلم عن بعضها لأن الملكات تحصل بتتابع الفصل وتكراره وهذا أيسر للمعرفة (٢٥) .
وابن خلدون ينصح بالاعتدال فى توزيع جلسات العلم ( جدول الدروس ) بحيث لا تباعد بينها حتى لا ينسى المتعلم فى موعد الجلسة التالية ما كان قد تعلمه فى الجلسة السابقة. ان عدم تراكم دروس المادة الواحدة يساعد المتعلم على هضم ما تعلمه من تلك الدروس (٢٦) .
٣ - عدم استخدام الشدة على المتعلمين : ان المربين ، فى العصر الحديث ، ينادون بعدم استخدام العقوبة فى التعليم لأن هذا يؤدى الى نفور الطلاب والابتعاد عن العلم، ويقولون : انه اذا كان الغرض من العقاب الاصلاح ، فالضرب ليس بوسيلة للاصلاح. انه ينبغى أن لا تكون هناك قسوة وشدة فى تعليم الاطفال . وهم يقولون : انه، بدلا من حملهم على كراهية المعلم لقسوته فيرتعدون عند دخوله الفصل ويتمنون غيابه ، يجب أن يعمل بحيث يرتقبون مجيئه بلهفة ومحبة ويشعرون بالسرور حينما يرونه . وبدلا من أن يجعل المعلم المدرسة جحيما فى نظر المتعلم يجب أن يرغبه فيها حتى يولع بالذهاب اليها .
لقد أدت الشدة فى التربية الى مشكلات اجتماعية يئن منها المجتمع الانسانى ، لذا فقد كان العلامة ابن خلدون على حق عندما طالب بالابتعاد عن الشدة على المتعلمين وخاصة الصغار منهم حيث انها تخلف عندهم عقدا ، وانحرافات نفسية وخلقية وتحمل على الكسل والخمول واتباع الكذب والخبث اتقاءا للعقوبة ، وفى ذلك ، يقول ابن خلدون :
« وذلك ان ارهاق الحد بالتعليم مضر
بالمتعلم سيما أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة . » (٢٧)
ان استخدام القوة والقسوة يؤثر على الاخلاق ليس فقط بالنسبة للمتعلم بل للجميع فتضيع شخصية المتعلم الذى هو أساس المجتمع فيكون كما قال ابن خلدون ( عيلا على غيره ) حيث ان الذى يعامل بالقهر والقسوة يصبح عالة على غيره ، لأنه عاجز عن الذود عن شرفه وأسرته لخلوه من الحماسة والحمية فى حين يقصد اكتساب الفضائل والخلق الجميل (٢٨) .
٤ - عدم الاقتراب من السياسة لقد نادى « أوغست كومت » فى القرن التاسع عشر ، بفصل السياسة عن العلم ، اذ يجب أن يكون المتعلمون بعيدين عن الحياة السياسية والمشاركة فى الاحزاب التى تعود النفاق وتثير الخصومات بالاضافة الى انها لا تتفق فى مراميها واتجاهاتها مع ما يتطلبه العلم من حرية وموضوعية .
هذا هو ، بالضبط ، ما طالب به ابن خلدون قبل « كومت » بخمسة قرون (٢٩) حيث أورد فصلا خاصا بذلك عنوانه « فى ان العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها (٣٨) ويؤكد ان العلماء لو انتهجوا طريق السياسة لأصابهم الضرر .
والحقيقة ان ابن خلدون لم يخص المتعلمين بالابتعاد عن السياسة وانه من باب أولي ان يكونوا من ضمنهم لسهولة انزلاقهم فى مزالق السياسة وذلك لأنهم ضد حساسية من غيرهم كما انهم لم يصلوا مرحلة النضج التى تميز لهم
الاهداف والغايات بحيث يبتعدون عن مواطن الزلل .
هذه أقباس تربوية من مقدمة ابن خلدون تمثلت بكون الانسان متميزا عن الحيوان بالفكر ، وهذا الفكر أوجد العلوم التى انتشرت فى أنحاء المعمورة واعتبر العلم والتعليم من الظواهر الاجتماعية والطبعية فى العمران البشرى .
لقد اتجه ابن خلدون فى دراساته المختلفة اتجاها واقعيا حيث اعتبر العلم صناعة يمتهنها المعلم وهى من جملة الصنائع التى توجد فى المجتمع وهى من الكماليات تنتشر فى الحضر .
ثم قسم العلوم الى نقلية يتناولها الخلف عن السلف ، وعلوم عقلية يهتدى الانسان بمداركه الى موضوعاتها ومسائلها ووجوه تعليمها . كما ان هناك علوما آلية وهى بمثابة وسائل الى فهم العلوم المقصودة لذاتها ثم العلوم المقصودة وهى التى يسعى المتعلم للحصول عليها عن طريق العلوم الآلية .
ان لابن خلدون آراء وتوجيهات فى طرق التعليم وملاحظات على كثير من المعلمين،ولذا
فهو يضع شروطا خاصة للعلم منها الكفاية والقدرة حتى يكون المعلم صانعا ماهرا وعليه أن يتبع التدرج من البسيط الى المعقد وأن يدرك مراحل نمو العقل البشرى لأن لكل مستوى قدرة ولكل عمر تجربة . وابن خلدون يوصي عدم الخلط بين كتابين وعلمين بحيث لا يلجأ المعلم الى التطويل وأن تكون الحصص متقاربة حتى لا تضيع المادة بالنسيان وان تتابع الفصول وتتكرر وأن يتخللها مناقشة ومحاورة ومناظرة فى مسائل العلم . ثم ينادى بتجنب الملخصات التى تؤدى الى الحفظ دون الفهم ويطلب استعمال التفكير فى كل شىء يسترعى الانتباه .
وابن خلدون يحث على الرحلة فى طلب العلم ومقابلة الشيوخ والعلماء والأخذ عنهم فان هذا يؤدى الى فوائد كثيرة منها الفهم الجيد والحصول على الأخلاق الحميدة والفضائل ، كما أنه يفضل ان يدرس المتعلم الكتاب أو العلم على مؤلفه مباشرة ، ثم ينادى بأن السياسة تعود على النفاق وتثير الخصومات بالاضافة الى انها لا توفر ما يتطلبه العلم من حرية وموضوعية فلذلك فان العلماء هم أبعد عنها لأنهم معتادون على النظر والتجرد الفكرى بدون مراعاة لأي من المبادىء السياسية فكأنه بذلك يطلب منهم الابتعاد وعدم التدخل فى السياسة ومن باب اولي ، فالمتعلمون يجب ان يبتعدوا هم ، أيضا عن السياسة، لانها تؤدى الى التحزب والتصارع مما يؤدى الى الضرر والبعد عن التعلم وانتهال العلم .
هكذا ، نجد ابن خلدون يبدع وهو يضع لنا هذه الآراء التربوية مقتبسة من مقدمته ، وبها يستحق اعتباره موجها تربويا ، فهو لا يقل بآرائه عن أفضل المربيين فى العصر الحديث ، فهو
لا يكتفي بالملاحظة والادراك ثم الفهم . بل يسعى للامتلاك والسيطرة وتوجيه الانتقادات لما هو غير سليم ثم التشجيع على الاهتمام بالجيد من الأساليب والطرق التربوية .
اذن ، ابن خلدون ابدع فى الجوانب التربوية كابداعه فى دراسة الظواهر الاجتماعية فهو فيلسوف اجتماعى وموجه تربوى من الطراز الاول . ( للبحث صلة )
اقرأ فى الفصل التالى : « آراء ابن خلدون الاقتصادية»
كلية التربية - مكة المكرمة
منتدب من كلية الآداب - جامعة بغداد
