الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

أمثالنا الشعبية، وأثرها في حياتنا

Share

تحدثت في الجزء الفائت من مجلة المنهل الغراء عن " الشعر الشعبى وصلته بالفصحى " وأتحدث اليوم عن أمثالنا الشعبية وأثرها فى مختلف شؤون الحياة على الصعيد المحلى . . فان البيئة الشعبية نبع ثر في تكوين هذه الأمثال . وقد حاول بعض المؤلفين جمعها في كتاب ومنهم الاستاذ عبد الكريم الجهيمان في كتابه " الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية " ولكنها كانت من الكثرة بحيث لا يستطيع أى مؤلف أن يتتبع أو يستقصى جميع الأمثال الشعبية الدارجة على السنة العوام . لأن لكل اقليم بل لكل مدينة وقرية أمثالها الخاصة التى لا تتعدى أسوارها فضلا عن الأمثال الشعبية الكثيرة المشتركة والتي قدر لها أن تتجاوز حدود منشئها الى مستوى الوطن كله بل الى ما هو أوسع من ذلك مثل : " كل شارب له مقص " يقول عوام العراق : " كل لحية لها مقص " وهو نظير المثل العربى الفصيح " لكل مقام مقال " .

ومن الأمثال العامية التى لا تعترف بحدود ولا تقتصر على شعب دون آخر ما ذكره

الدكتور صفاء خلوصى من دراسته " لعلم الأمثال المقارن " أنه وجد ان بعض الأمثال تنتقل بين البلاد بلا جواز سفر - على حد تعبيره - وضرب لذلك بالمثل العربى : " كذب المنجمون ولو صدقوا " فذكر أن الانكليز يقولون : " الكذاب لا يصدق وان صدق " . والاسبان يقولون : " سيقان الكذب قصيرة " . والسويسريون يقولون : " لا سيقان للكذب " . ويقول المثل الشعبى عندنا : " الكذب زمالة ردية " أى مطية ضعيفة والمعنى فى جميع هذه الامثال واحد وهو أن الكذب لا بد أن يتكشف فى يوم ما ولا بد أن يظهر الكذاب على حقيقته وان حاول أن يخفيها .

والأمثال الشعبية تنشأ عادة ومصادفة من حادثة وقعت ، أو نقد لموقف من المواقف . . أو تحسر على أمر من الامور أو تنصل من مسؤولية ، أو حض على فضيلة ، أو تحذير من رذيلة ، أو لاى أمر آخر من الامور والاحداث الكثيرة التى تحدث للكثيرين منا في حياتهم اليومية على مستويات مختلفة . هذه الاحداث قد تترك أثرا وعبرة فى حياة

الافراد والجماعات وتعبر عنها - على سبيل التذكير والموعظة - بجملة تعبيرية موجزة ، فتصبح تلك الجملة علما على تلك الحادثة المؤثرة وتضرب لكل حالة مشابهة لتلك الحالة مما قد يقع مستقبلا . وهكذا تتوالد الامثال الشعبية . والرجل - العامي - لا تظهر براعته في الحديث وقدرته على الاقناع الا بقدر ما يحفظ من هذه الامثال وبقدر تمكنه من استعمالها عند الحاجة . والمناسبات أو الاحداث المؤثرة - كما قلنا - هى التى تولد الامثال . والرواة والاخباريون هم الذين يتناقلونها ويشيعونها بين الناس . وكلما كانت المناسبة التى قيل فيها المثل ذات معنى بارز فى حياة الناس كتمجيد بطولة أو استهجان هزيمة كان المثل أكثر رواجا واستعمالا ورواية .

وأختتم هذا البحث القصير بمثل من هذه الامثال والمناسبات التى قيل فيها ، لما فيها من طرافة ممتعة .

هذا المثل يقول : " ما عند ناير خبر " . والناير هو المنهزم من المعركة أى ان المنهزم لا ينبغي أن تصدق أخباره . وكنت أسمع بهذا المثل ولا أعرف المناسبة التى قيل فيها حتى قدر لى فى النهاية أن أسمعها من أحد شيوخ البلد وهذه هى القصة :

قيل : ان بصرى الوضيحى " وكان شاعرا بهي الطلعة جميل الصورة الا انه يعتبر من قبيلة " الصلبة " وهي قبيلة تمتهن بعض الحرف اليدوية كعمل المناجل والملاقط والسكاكين وغيرها . . ولا تربطها صلة بالقبائل الاخرى من قربى او نسب ولذلك

فهي تعتبر في حكم المنبوذة ولا يسمح لافرادها بالاقامة طويلا بين القبائل الاصيلة بل يعاملون كما يعامل الفجر فى بعض البلدان الاوروبية .

المهم من هذا أن بصرى الوضيحى نزل ضيفا على امير من امراء بادية الشمال وكان من عادة تلك القبائل أن لا يسألوا الضيف عن اسمه أو هويته . وكان بصرى المذكور يجيد العزف على الربابة بالاضافة الى قرض الشعر ، وفي ذات مساء اجتمع وجوه القبيلة فى مجلس الامير للحديث والسمر فتناول بصرى الوضيحى " الربابة " وانشد :

أبا تمنى والمنا ، بو ، بهانى

مثل الهوى مع كل ريع يضيع

ابا تمنى كان هى بالتمانى

صفرا صهات اللون قبا طليع

باغ ليا الحق الطلب له عوانى

والخيل معها مجول والدريعي

أردها لعيون صافى الثمانى

صخاف البطون مهلكات الرضيع

لكن قطع لحيها فى العنان

قطيع هرش مقتف له قطيع

ولما فرغ من انشاده أكبروا فيه هذه الشجاعة وبالغوا في اكرامه ظنا منهم انه احد مشايخ العرب وابطالهم المعدودين

وحدث بعد ذلك أن وصل خبر الى القبيلة بأن قبيلة أخرى معادية قد أغارت على نعمها فقفز الامير مسرعا ومن ورائه رجال قبيلته فأخذوا عدتهم وسلاحهم وامتطوا خيلهم لصد المغيرين ، وحتى لا يصفوا بصرى الوضيحى بالجبن أصر على ان يشترك معهم

في صد الغارة ، فاعطوه فرسا أصيلا لاحد شجعان القبيلة لم يكن حاضرا اثناء الغارة ، تنطبق اوصافها على تلك الفرس التى تمناها فى قصيدته الآنف ذكرها .

ولكن الوضيحى ما لبث - بعد أن التحم القتال بين الفريقين - أن لوى عنان جواده وعاد الى المضارب هاربا من هول المعركة . ولم يكن قد بقى فى مضارب القبيلة غير الشيوخ والنساء والاطفال فالتفوا حوله يسألونه عن نتيجة المعركة فى لهفة زائدة . وكلما سألوه عن رجل من شجعان قومهم اجابهم بانه قتل حتى ان احدى العجائز ذعرت وتأوهت وقالت : " يا الله يا مجافى المحن " فقال الوضيحى : ومجافى المحن قتل ايضا وهو يظن انه اسم لاحد رجال القبيلة - وكان احد الشيوخ يستمع الى هذه الاقوال فطلب من النساء والشيوخ أن يكفوا عن الاسئلة وقال مثله الشهير : " هذا ناير ولا عند ناير خبر " . وبعد فترة وجيزة عاد جميع رجال القبيلة منتصرين . ولما علموا بأمر ضيفهم أمروه ان يذهب بالجواد وأن يغسل مكان ركوبه منه لانه ليس بكفء له . ولما انعقد مجلس الامر والتام شمل القبيلة أخذ الوضيحى الربابة وانشد :

يا ليتنى نداف قطن وأبيعه

متحضر ما فاتنى سوق راوى

أشوف غزلان يردن الشريعة

ملبوسهن البزرقان الفناوى

راعي الكريشة ريف قلبي ربيعه

عليه بيبان الضماير تهاوى

وكان بالمصادفة يوجد رجل اسير من قبيلة اخرى يعيش فى بيت الامير فلما سمع عزف الوضيحى وانشاده عرفه وطلب من الامير أن يسمح له بالربابة فسمح له بها فعزف عليها وانشد :

تسعين للوضيحى نفيعه

مع مثلهن يبسط بهن سوق راوى

ثلث يصادق به وثلث يبيعه

والثلث الآخر فوق رأسه غطاوى

ما قالها فى البندرى الرفيعه

بنت الذى ذباح خيل عداوى

وكانت البندرى ابنة ذلك الامين تسمع عزف وانشاد الاسير فطلبت من والدها أن يفك اسره مكافاة له على مديحه وكشفه عن شخصية الوضيحى . فاجابها والدها الى طلبها واطلق الاسير وحمله الى أهله .

ولا يفوتني فى نهاية هذه القصة الطريفة الممتعة الا ان اتقدم بالشكر الى ذلك الرجل الذي دلني على أصل هذا المثل فكانت هذه القصة التى أرجو أن تكون كافية لاعطاء صورة واضحة لقراء الادب الشعبى العربى عن اصالة العربى وتمجيده للبطولة والفداء والتضحية . وفي نفس الوقت استخفافه بالبطولة المزيفة التى لا تثبتها التجربة .

اشترك في نشرتنا البريدية