فقد اشتغلت بالاذاعة سنتين لم أوفق فى خلالها الى ارضاء أى مستمع كان ، ولم أكلف نفس عناء معرفة الأسباب، وأما معرفة الفشل ذاته فقد شاهدته بمعنى رأسي في مناسبات عديدة، ولم اعترف به الا الآن ، وذلك لأن الاعتراف بالحق فضيلة .
وهل أفشل من أن المستمع المواطن لا يزال يقفل مفتاح الجهاز ليستكت حنجرتى، وهي معددة أطوال الموجات لمحطته المحلية المحبوبة ولهذا فالفشل محقق ، واما أسبابه فسأقدرها وعساني أوفق فى التقدير لأتلافى ما يمكن تلافيه قبل أن يزمن معي الفشل فنسود سمعة الاذاعة لسببى.
ان حضرة المستمع الكريم يملا أذنيه طوال الليل وأطراف النهار باصداء المحطات الكبرى التى أسست قبل عام الفيل ، ثم يتفضل متثاقلا الى الاستماع الى هذه المحطة فيتراءى له أو يخيل اليه ان ما يتسرب الى أذنيه منها لا يتجاوز همس طفل عى بدأ بلفظ كلمات متقطعة فيتركها ساخطا ليعود الى تلك الأصداء القوية، ولا يبعد ان يكيل للمحطة والقائمين عليها - التحيات المباركات - جزافا ، ثم يشير الى خياله فى حركة جنونية قائلا: هل هذه محطة ؟ اقفلوها وأريحونا، لأن فى هذه الاصداء القوية الكفاية ، وأما هذه الأصداء الخافتة فلا حاجة لنا بها، فلنستمع الى هذه الأصداء وما فيها من أنغام ومرفهات وأشياء مسلية ، أما الأشياء الدسمة وما تحويه من أحاديث وأقاصيص وطرائف وملح فلا حاجة لنا بها إذ لا نقوى على هضمها ما دامت موجات الأثير تحمل الينا الغذاء الخفيف والملطف بالبهورات والتوابل المستساغة ، وانى كمذيع استمع الى كل هذا من أغلب المستمعين وأعرف أنهم على حق، ولكنى لم احاول قط أن أتصرف في المادة الدسمة التى لدى فالطفها بما يتفق وقوة هذه المعدة الضعيفة ، لأن وقتي لا يتسع لهذا من جهة وليست لدى الحاسة التى تحاول ان ترضى هذه الأغلبية من جهة اخرى.
فانا أعمل فى الاذاعة كموظف "كل عيش" وبس . والاذاعة تريد منى ان أشتغل فيها "هاوى" أى شمعة تذوب لحساب الآخرين .. وأنا أتمسك بأن مهمتى فى التعقيب والتقديم وفتح المحطة وقفلها ابتداء من "السلام عليكم" صباحا الى "وأتمنى لكم ليلة سعيدة" .
والاذاعة تريد من أن أداب ليل نهار في ابتكار البرامج التي ترضى الأغلب اذا لم أوفق لأرضاء الجميع ، والجميع هذا يريد مني أن أقفز إلى مستوى المحطات الأخرى دفعة واحدة ولو أدى الأمر الى أنى أسقط على أم رأسي ...
متجاهلا - هذا الجميع - أن الاذاعة عندنا شئ وليد والوليد عادة يمشى "تاتي تاتى" بعد ان يحبو ثم يمشى مستقيما فى تثاقل وقد يسرع اذا كان من سلالة السليك أو السلكة ... أو شيبوب ؛ ناسيا - هذا الجميع - ان الطفرة محال ولكل انسان طاقة محدودة وكفاية معلومة.
والمنصف من المستمعين الكرام من يقول ان وجود هذا الوليد فى مثل ظروفنا ووسطنا سبق للزمن وطفرة نحمد الله عليها ونرجولها البقاء وطول العمر.
فهي قد وجدت ارتجالا لم يسبقها إرهاصات ومشت كما اتفق ، ولكنها لا تزال فى طريق النجاح وان كان مشيها وئيدا متعثرا مضطربا ، وان بعض تبعة هذا تقع على أنا المذيع والبعض يقع على أداة الارسال نفسها ، ولو لا انها خرساء لما تجرأت على تحميلها هذا البعض من التبعة فكلانا قد تضافر عليها واننا فيما بيننا نتلاحى ونتعاتب فهي تريد أن تحملني التبعة كاملة غير منقوصة ؛ وانا بدورى أحاول أن أوجه المسئولية على أجهزتها المحدودة القوى وآلاتها التى لا تبعث صوتى الا خافتا ولا ترسله الى بعيد ، وقد يكون لها بعد العذر من جهة أخرى ؛ لأن أذن المستمع مكتوب على طيلتها :
تريد النفس أن تأكل مطبق ويأبى الله إلا فول مدمس
فالمطبق عندها هى الأغاني المنحلة وما الى ذلك، والفول المدمس عندى هى الأحاديث الدينية القوية المحاربة للانحلال. والمهذبة للاخلاق، والمفتقة للاذهان، والصاقلة للعقول . فكيف السبيل الى هذه الأذن .
لا يسعنى الا ان اقول ارفعوا عن الأذان هذه "اللافئات" لتستمعوا الى العلماء والأدباء والشعراء فى احاديثهم وموضوعاتهم الشيقة، انها وايم الحق تكلف جهدا ومادة اكثر مما تكلفه الطقاطق والمنلوجات والأغاني والمسليات والبهورات، والتوابل .. التى تريدونها وانها لتهدف الى أسمى مما تهدف اليها تلك لكم فقط ان تنقدوا المحدث اذا أسف ، والمتكلم اذا قال هراء ، والمذيع اذا لم يغركم ويهيئ لكم الجو الملائم لاستماع هذه الأحاديث . لاننا فى حاجة الى ثقافة ورياضة روحية والوقت لا يفيض للنسية الا عند المترف المتخوم.
ولكم أيضا أن تقولوا لحضرات الادباء: إن المناصب الكبيرة والمشغوليات لا تحول دون المساهمة فى النهوض بالمستوى العلى والثقافى والتربوى ، وهبوا ان الاذاعة ليس لديها الحوافز المغربة ..! فانها ترجو ان تكون لديكم التضحيات المرفقة لان في نفس مسئولياتكم ومشغولياتكم العظيمة مادة وغذاء للارواح والانفس، وداعية كبرى للوطن .
فالعالم حولنا يعرف عن ماضينا الشئ الكثير وهو لذلك يريد ان يلتهم أكبر كمية من المعلومات عن حاضرنا . لأن صدى ما تصطخب به بلادنا من حيوات ذهب الى بعيد .. والاذاعة وحدها هى التى تستطيع أن توزع هذا الصدى خاليا من التلفيق لتجعله مسموعا على حقيقته .
ولهذا لم توجد هذه الاذاعة اداة للتسيلة وليس من اهدافها ذلك وانما وجدت لتنقلنا على حقيقتنا إلى أطراف العالم الخارجي في دقائق معلومات وثوان معدودات .
فجملة - هنا مكة ، وحدها تكفى لان تسترعى اننباه أربعمائة مليون مسلم . ومن بينهم آذان كثيرة لم يكتب على طيلتها "اللافتات" الخبيئة التى سبق أن أشرنا اليها.
فانا - اذن مذيع فاشل عند من يريدون ان أقدم لهم طقطوقة : باليالي ملاح ، وأغنية : يا تمر حنا . وأخواتها ، وفي سبيل النجاح محاولا جاهدا عند من يدركون ان المهمة شاقة والسبيل شائك ، والخطى ونيدة تساير الكفاية والطاقة.
وليست لدى الشجاعة الكافية لأقول للحدث: أحسنت أو أسأت لئلا يطبق فى حقى المثل العامى الدارج: "من أول غزاتو كسر عصاتو" ولكنى استطيع ان أقول للمستمع: قل ماذا تستسيغ لارضيك وأقدم لك من الاحاديث والموضوعات ما يتفق وذوقك مهما كلفني هذا من عناء ، اللهم الا الأحاديث الصحية فانى أقدمها لك فى حد ضيق ولك أن تشتكى على حضرة صاحب السمو الملك وزير الصحة اذا أردت ، لأني أقول لك هما انى كمذيع متخوم من يختلف الموضوعات الشيقة الا الموضوعات الصحية ، وأعود فاقول بصوت أخفت من الهمس : ان المرض يحارب بالصحة ودور الصحة المستشفيات ورجال الانسانية - الاطباء - والاذاعة أوسع مدى للمعركة ميدان ينهزم فيه المرضى ؛ ويخفف الضغط عن أبواب المستشفيات وكراسى العيادات ونوافذ الصيدليات ، فبحديث واحد مثلا تستطيع ان تفيد عشرات وتعالج مئات .. ولكن أين هو الحديث الصحي . ؟
انى لأخجل من الجواب ولكنى مع هذا ساقدم المتيسر وأمرى لله فاذا لم تقبل وكنت حريصا على محاربة المرض فاحتج على الاطباء وطالبهم بالمساهمة فى الاذاعة فان اصروا على السلبية ؛ فاؤكد اعتذارى اليك.
وفى اليوم الذى أرضى فيه بان أكون شمعة تذوب لحساب الآخرين وأحترف الاشتغال بالاذاعة احترافا ساثر غمك على الاستماع الى برامجى الخاصة التى تلمس فيها الابتكار على ما فيها من دسم يثقل هضمه . وعلى العموم فالخطوة "تاتي تتى" والطريق طويلة ونحن فى أولها وحتى تحقق لك ما تريد نتمنى ان نوفق الى اغتصاب رضاك.
