السيارة تجرى ، تطوى المسافات وتوغل فى إبعادى وهذه أفكارى تحطم الحواجز والموانع الكبيرة التى تقف كالجدار المتين أمامى وأمامك ، وتأبى إلا أن تطوقك بذراعيها . هذا الليل يزحف بطيئا ، رتيبا كأيامى وهذه السماء ضبابية رمادية كأحلامى وأنا هنا تضمنى هذه السيارة ، أنا السجينة التى ستعاد الى سجنها. هذا السجن الابدى الذى منذ دخلته لا تعرف متى تحين ساعة الافراج عنها لتغادره نهائيا ودون رجعة .
لقد تحملت أتعاب السفر إلى العاصمة فى هذا البرد الشديد والجو الماطر لكى أشارك فى مناظرة ، هكذا كانوا يعتقدون ، آه لو يعرفون الحقيقة ، لو يعرفون أن المناظرة ليست غايتى ولكنها وسيلة للوصول الى أشياء أخرى .. آه لو يعرفون أننى سافرت لكى أراك ... ! بالامس كنت طوال المسافة شاردة استعرض شريط مكالماتنا الهاتفية على شاشة الذكريات وكان صدى صوتك ينساب كالينبوع فى أذنى كنت تتحدث كثيرا وتضحك كثيرا ولا تترك لى مجالا للحديث الا نادرا . وكنت أتساءل عن السر فى ذلك : أيمكن أن تكون مرحا بهذا الشكل وأنت تكلمنى عبر أسلاك الهاتف ؟ ! ثم وأنت مع الناس ومع نفسك ، حين يضمك الليل فى أحضانه وتزحف مشاكل الحياة الى ذهنك مشاكل قلبك ومشاكل عقلك . أتكون مرحا ايضا ؟ أم تراك تعرف الحزن والكآبة مثل كل الناس وتعرف الارق والحيرة اللانهائية ويعذبك الحرف لكى يولد ويصبح فى قالب قصيد ؟ ها هو ذا شريط الذكريات يتوقف ليستقر عند آخر مكالمة دارت بيننا قبل السفر . كنت مرحا كعادتك ، تحدثت عن رخصة السياقة ، عن الشعر وعن أحلامك الذبيحة وطموحاتى الكبيرة . . و .
- طريف أن تربطنا علاقة متينة هاتفيا دون أن يعرف أحدنا الاخر . ألم تحاول أن تتخيلى صورتى ، قامتى ، لون بشرتى ؟
- .......... - أنا مثلك أتخيلك وأعتقد أنك ناعمة وعذبة كصوتك الحنون الرقيق . - بصراحة لا أستطيع أن أتخيلك ، لا استطيع أن أرسم لك صورة فى ذهنى ، أريد أن أعيش فى واقع ملموس لأننى حلقت كثيرا فى الاجواء و كل مرة كنت أنزل فيها الى أرض الواقع تتلاشى كل أحلامى واصطدم بخطا كل تصوراتى ، إننى قادمة فى هذا الاسبوع وقد أزورك وأتعرف عليك .
- سأنتظرك يوم الاحد على الساعة الثالثة فى مقر الجريدة . - سؤال شخصى ، هل تسمح ؟ - تكلمى ولا تخشى شيئا ، نحن اتفقنا على الصراحة . - متى ستتزوج ؟
وفجأة تبدلت نبرات صوتك وزال مرحك المعهود لتحل محله كآبة قاتمة . أحسست بخطئى الفادح وبأننى حركت جرحا نازفا بأعماق قلبك وأدركت أن وراء ذلك ، المرح مأساة كبيرة وصراع نفسى شديد .
- ليس الآن . إنه مأزق كبير أوقعتنى فيه أمى ولا أدرى كيف سأخرج منه . - لماذا ؟ هل الزواج مأزق ! ألست تحبها ؟ ! - إنها فتاة من العائلة اختارتها أمى ، غير مثقفة ولا أظنها قد تفهمنى ذات يوم . لقد فرضت علي فرضا .
- عملية انتحارية ! كيف تسمح لنفسك بهاته المهزلة الرجل المثقف والواعى لا يفرض عليه أى شئ أبدا .
- صحيح ، إننى حائر الى حد الآن كيف وافقت فى تلك اللحظة ... إنه القدر .
- القدر ! ..إنه ذريعة للشخصيات الضعيفة التى تديرها الايدى الآثمة كيفما شاءت وتأبى أن تعترف بأخطائها وهفواتها .
لقد احتقرتك فى تلك اللحظة وتهاوى هيكل العظمة الذى كنت تتصدر فوقه وبدأت تصغر فى نظرى شيئا فشيئا لتصبح شيئا تافها لا قيمه له . لم أكن أعتقد قبل ذلك الحين أنك رجل إنهزامى لا يمتلك زمام حياته ويضع مصيره لعبة فى يد الآخرين يتصرفون فيها حسب ميولاتهم وأهوائهم .
كانت السيارة تجرى ، تطوى المسافات . وكانت عيناى تجولان فى الفضاء الممتد أمامى تبحثان عن اللاشئ وكان محرك ذهنى يدور بقوة جنونية . إننى وعدتك بالزيارة وأريد أن أراك رغم كل ما عرفته عنك وعن حالتك الاجتماعية. كيف الوصول اليك وهذا أخى يلازمنى كظلى ، محرك السيارة يخفت دويه شيئا فشئا ، وتتوقف ويوقظنى صوت أخى من غفوتى الطويلة .
- الحمد لله وصلنا بالسلامة . هيا انزلى .
حدقت فى المكان لأجد نفسى أمام منزل عمى . تثاءبت وفتحت باب السيارة ونزلت وأنت لا تزال قابعا كالطفل الصغير فى أرجاء فكرى ، مرتسما كالحلم فى أهدابى وفكرة زيارتك تنخر فى قلبى وعقلى لتحفر هوة كبيرة لا أدرى كيف أسدها .
ترى أين أنت يا كامل ؟
هذا الصباح وفى قاعة الامتحان كنت معي ماسكا بزمام أفكارى لتخرج بها من حين لآخر من مواضيع الامتحان وتجرها بعيدا لتسافر بها كالسندباد فى مدن الاحلام الوردية . صدى صوتك يلاحقنى فى كل مكان " سانتطرك يوم الاحد " ويرن فى أذنى كأجراس كنيسة ، إنه اليوم يوم الاحد المنشود ، كيف سأفلت عن رقابة أخى المشددة . كيف ؟ وعبثا توغلت فى مدن الحيل أنشد حيلة تساعدنى على ذلك وعدت فى النهاية كسيرة الجناح ، أجر خيبتى وتلسعنى عقارب حيرتى ، ويشطر رأسى بين إثنين الصداع المقيت .
أين أنت يا كامل وكيف الوصول اليك ؟
خرجت من قاعة الامتحان لأجد أخى بانتظارى فى السيارة فصعدت الى جانبه وانطلقت بنا لتقلنا الى بيت عمي حيث ينتظروننا على الغداء .
دخلت أجر قدمي وحزن عميق قد قبع فى صدرى .. ومرارة قد تسمرت فى حلقى . كنت أجاهد نفسى لكى أرسم الابتسامة على صفحات وجهى وادارى عن الجميع ألمى المكبوت ودموعى المسجونة فى أحداقى . لم أجد ساعتها أى مبرر ولا سبب مقنع فى اطلاق سراحها لتجرى بحرية وتعدو بطلاقة فوق وجنتى . أسئلة كثيرة كانت توجه الى عن مواد الامتحان وعن - لماذا ؟ هل الزواج مأزق ! ألست تحبها ؟ !
إمكانية النجاح وكنت أرد عليها بأجوبة مختصرة : نعم أولا . كنت أريد أن أنهى الحديث لأعيش مع أفكارى وهواجسى . وعلى مائدة الطعام كانت يداى تمتدان فى ثقل غير معهود الى الاكل . كنت صامتة ، واجمة وكل شئ حولى فاقد لطعمه ولونه الحقيقى .
وخرجنا وها هى ذى السيارة تجرى ، تطوى المسافات لتعيدنى الى القلعة المحصنة ، هذه يد أخى تمتد لتجذب الورقة الموجودة فوق ركبتى ليقرأ سطورا كتبها قبل أن أروح فى رحلتى الخيالية هذه . جالت عيناى فى الافق الممتد أمامى هذا الجو الغائم وهذه السحب المتجولة فوق صفحة السماء كحرس المرور وكلاب الصيد وهذه الشمس الغائبة فى حجبها وهذا الصمت المقيت يلفنى بأجنحته . هذا الاطار الدرامى يضاعف حزنى ويزيد من وحشتى ويدق مسامير اليأس فى قلبى . هذا أنت البعيد وهذه أنا . أبتعد شيئا فشيئا عنك وعن مكان وجودك وهذه آمالى الكسيرة ومخططاتى الفاشلة ترافقنى الى القلعة المحصنة ، تزرع الشوك فى مواطئ أقدامى وتضرم النار فى صدرى تحرق جسدى الذابل وتمحق أفكارى وتسحق عقلى وتحوله الى علبة قصدير صدئة لا قيمة لها ، كيانى كله ينهد ويتحطم ويفقد كل مميزاته فى يوم واحد ، فى ساعات معدودات يضمحل ويفقد هويته .
قد تكون الآن جالسا فى مقر جريدتك تنتظرنى ، تستعجل عقارب ساعتك البطيئة ، عيناك متسمرتان على باب القاعة تتفحص كل الداخلين وتركز كل نظراتك على الشفاه المطبقة تنتظر أن تنطق باسمك : " كامل هناك آنسة تنتظرك فى قاعة الاستقبال " . ستنتظرنى كثيرا ويطول انتظارك ، ستضجر وستقلق على كثيرا وستلعن القدر . هذا القدر الذى يناصبك العداء ويفصل بينك وبين رغباتك وأهدافك بحصار من الاسلاك الشائكة . هذا القدر الذى اوقعك بالامس فى خطيبة لا تريدها واليوم يحول بينك وبين لقاء من سيطرت على عقلك واستحوذت على مشاعرك بكتاباتها وبأفكارها اللامعة وبصوتها المنساب رقة وحنانا . سيتحول نظرك تدريجيا بمرور الوقت ليستقر على تلك الآلة الجامدة الموضوعة أمامك على المكتب ، تنتظر أن تنفث فيها الروح وتنبض فيها الحياة وينبعث منها رنين ينتزعك من هواجسك وأفكارك . . وترفع السماعة لتجدنى على الخط المقابل أعتذر عن حضورى . لكننى لن آتى اليك
ولن أهتف اليك معتذرة عن المجئ هذا اليوم ، ربما فى يوم آخر ، لأننى الآن فى الطريق الى بلدتى النائية . لن نلتقى اليوم .. لن نلتقى وربما قد لا نلتقى أبدا .
ها هى ذى السيارة الآن تقترب من مشارف مدينتى الآثمة فى حقي وفى حق كل فتياتها .. مدينة العذاب والسياط والجلاد ، مدينتى التى ترهقنى وتكبل عواطفى وأفكارى بالأغلال الحديدية ، مدينتى التى لا تعرف سوى تعليب بناتها فى علب مصبرات الى أن يأتى الشارى الذى يدفع فيها أكبر ثمن ممكن وينقلها الى بيته وجبة دسمة وطعاما طازجا يثير شهيته فى الاكل حتى اذا ملها ومجها رماها فى المزبلة وعاد يبحث عن شئ جديد .
لن أكون سلعة تباع فى السوق السوداء . لن أكون حشرة تداس بالقدم ، لن أكون . فلست أنا التى تفرض عليها الاشياء فرضا لأننى عقل واع بحاضره ونفس حساسة وطموحة - لا ترضى بالضيم ولا تكتفى بالقليل - قبل أن أكون جسدا آدميا يتحرك على وجه الارض . وأنت يا كامل . أنت جسر العبور إلى حريتى وانعتاقى لأنك تناصرنى وتقف معى فى وجه مدينتى ومدينتك ، فى وجه مدينتنا التى تصادر الحب والاحلام ولا تعرف سوى إراقة الدموع والدماء على هيكل الشرف . هذا الهيكل الوهمى الذى تعلقه على جبين المرأة وتترك الرجل حرا وبراء من كل التهم التى تحطم هذا الهيكل وتمنحه شهادة حسن السلوك مسبقا وعلى أبد الدهور . أين العدالة الاجتماعية والمساواة ؟
أنت يا كامل ستكون معى لان طريقنا واحد . سنزرع بذور الحب والحرية والعدالة على وجه مدينتنا . غدا سنلتقى ، عند شروق الشمس وعند إطلالة يوم جديد . سنلتقى وتكون معا حتى النهاية .
