" مثلما أن الساعة تتقدم دون أن تسرع بثقة ، يمكنها التهام السنوات فالأيام عناقيد عنب ، صغيرة وعابرة والشهور المنسلخة عن الزمان تفقد الوانها والدقيقة ، ترحل نحو الوراء ، تطلقها أكثر المدفعية صمودا
وفجأة ، لم يعد يتبقى لرحيلنا إلا سنة شهر ، يوم ، ويطاول الموت التقويم " " بابونيرودا "
لقد مضي على استئجارى البيت أكثر من شهر . وانا غريب ، تقريبا عن كل سكان البناية ، إلا عن طالبة جامعية ، موظفة فى مؤسسة الكهرباء حيث يعمل ثلاثة من أخوالى هناك . عرفتها وعقدت معها صداقة جيدة فأصبح اليوم لا يمضي قبل أن أراها .
اليوم ، ذهبت إلى المؤسسة الكهرباء لأرى جارتي ، فوجئت بخالي الكبير على باب المؤسسة ، كأنه ينتظرني ، لما رآني ابتسم ، فظهرت أسنانه مبعثرة في فمه ، إنها من كل الألوان تقريبا ، صفر ، وسود ، بعضها
فارغة وأسلاك معدنية نافذة من بين بعضها الآخر . إنه ودود جدا ، أو يكن لى مودة خاصة . استوقفني ، وراح يشرح لي كيف وقع من السلم أثناء تركيب عدادات الكهرباء ، اخبرنى بانه نجح بالحصول على استراحة لمدة أسوع ، إنه يتكلم كثيرا تخلصت منه عندما أطلت جارتى من مكتبها ، أخبرتنى ان انتظرها أمام الجمعية التعاونية ، إنها غير بعيدة عن مبنى المؤسسة .
تلقيت اليوم رسالة من والدى ، رسالة عتاب ، عاتبني فيها على أشياء لا علاقة لي بها مطلقا ، وطلب مني أن أقطع علاقتى بجارتى ، وصفها بانها علاقة مخزية ، من أخبره بذلك ؟ !.. لست أدرى . لقد أساء فهمى ، وظلمني .. شئ جميل حقا .. أن تشعر بأنك مظلوم فهو أجمل من شعورك بالنشوة وانت تظلم غيرك ، بالرغم مما ينتابك من ضيق واضطراب ، فهو شئ جميل .
وقفت أمام باب الجمعية أنتظر جارتى ، قال والدى أن أقطع علاقتى بها - من المزعج أن يتدخل أحد فى شؤونك الخاصة ، حتى ولو كان اقرب الناس إليك - جاءت ، حيتني ، دخلنا الجمعية ، اشترت سجادة بالتقسيم - كان لي شرف حملها ما يقرب عشر دقائق . جاء (التاكسي) ركبنا ، دفعت جارتى .. نزلت فى منتصف الطريق لقضاء عمل اخترعته من عندي ، والحقيقة آني فعلت ذلك تحاشيا لكلام جارتى التى تسكن امامي ، تماما ، إنها حولاء ولا تكف عن مراقبة الجيران ، كلهم ، ونقل اخبارهم إلى كل البيوت . (أظنها أصيبت بالحول لكثرة تثبيت إحدى عينيها على منظار الباب ، لمدة طويلة ، ومراقبة الجيران ) وجارة من هذا النوع تبعث في النفس الإشمئزاز .
اخبار الدراسة سيئة جدا . بعد أن انتهيت من دراسة (قانون التعاون) انتقلت إلى (القانون الدستورى) كأنها وجبة غداء وانت مجبر على تناول كل الطعام ، ومن كل الأصناف بدون استثناء ، تصور حالتك بعد ذلك .
قرأت من القانون الدستورى ما يقرب الثلاثين صفحة وعندما انتهيت منها تبين لى أنني كنت أقرأ المقدمة ، والذي أغاظني أكثر ، هو اننى تعذبت كثيرا في حفظها . لقد أعدت قراءتها أربع مرات ، وبدون فائدة ، تصور .
نمت الليلة الماضية نوما شبه هادىء ، لم أتقلب فى الفراش كثيرا ، حوالى ساعة أو أقل ، ولكن بعد ذلك استسلمت لنوم جميل ، ما اجمل النوم بعد أرق طويل .. تحفر بئرا وتحصل أخيرا على ما تريد . ساستيقظ فى الصباح وأحضر المحاضرة الأولى .. إنها هامة وتبدأ فى الثامنة . فى الصباح استيقظت ، نظرت في ساعتى كانت تشير إلى الثامنة والنصف ، أسرعت ، غسلت وجهى كان الماء باردا لبست ثيابي بسرعة وخرجت من البيت - الجو قاتم - لابد أنه يوم غائم ، ربما ماطر ايضا .. على درجات السلم ، تعثرت وقع الكتاب من يدى ، انحنيت القتطه ، نظرت في ساعتى بعفوية رأيتها السادسة إلا خمس دقائق ، غير معقول !! تأكدت منها ، كانت السادسة إلا خمس والشمس بدأت تظهر من خلف العمارة المقابلة .. لقد خدعني عقرب الدقائق عدت ادراجى .. استلقيت على السرير بكامل ثيابي ، وبدأت الحفر من جديد ، ولكن أين ؟ فى صخر صلب ، قاس لا يعرف الإستكانة .
لا بد لى من كتابة رسالة ، أرد بها على والدى ، أدفع الظلم بها عن نفسى أحضرت ورقة جميلة ، لأحفر من الكتابة - إننى لا احب كتابه الرسائل وإذا أردت أن أكتب فلا بد من توفر الهدوء .. الهدوء التام ، هدوء المقابر ، وإلا .. فلن استطيع الكتابة بدأت أذرع الغرفة جيئة وذهابا .. إنني أفكر ..
لمحت من خلال زجاج النافذة ، على الشرفة المقابلة ، الفتاة البدينة ، انها ليست بدينة تماما ، لكن .. لا بأس بها كبرميل .. إنها تبقى على الشرفة طوال فترة وجودى فى غرفتي .. طوال النهار وهي تمشط شعرها على الشرفة ، حييتها - لست أدرى ما الذي دفعني لذلك - ردت لي التحية ،
اشرت لها بالحضور ! إلي ، أبدت نوعا من الرفض وأمام إصرارى ، وافقت .
ولكن .. الرسالة ؟ .. لا بأس ، سأعود لكتابتها فيما بعد . رتبت الغرفة ، السرير ، الآزهار الصناعية ، استعدادا لقدومها بعد دقائق ، قرع الباب ، انقبض قلبي ، اجتاحنى خوف رهيب .. ماذا فعلت ؟ .. لن افتح لها .. حبست أنفاسى ، تسارعت دقات قلبي .. إني أسمع ضجيج خفقاته بوضوح ، عاودت الطرق من جديد . لن أفتح لها ولو كسرت الباب .. أنفاسى تتلاحق خفت أن يداهمني السعال فتعرف أني بالداخل حينئذ ستصر على أن أفتح لها الباب مرت اللحظات ، طويلة ، بطيئة ، قاتلة . بعد قليل .. سمعت خفق نعالها على السلم وهي تبتعد . تنفست الصعداء ، الحمد لله .. سألت نفسي : لماذا ..؟ ..لم أجد الاجابة .. إنني غبي حقا .. ماذا حصل لي ؟ !..
عدت إلى الرسالة ، كتبتها بعصبية ، بحثت عن المغلف ، ولما وجدته كتبت العنوان عليه وأقفلته . لقد أزحت عن صدري عبئا ثقبلا . بعد ساعة اكتشفت بأني أقفلت المغلف خاليا ونسيت الرسالة على الطاولة . بدأت البحث عن مغلف جديد .. من أين لي المغلف الجديد ؟
حتى الان ، اخبار الدراسة سيئة ، بل سيئة للغاية . الآيام ، تمضي سراعا وأوراق التقويم تتساقط ورقة تلو الاخرى ، والامتحان يقترب لا بد من فعل شئ ... سأبدأ من جديد .
استيقظت هذا الصباح نشطا ، تناولت طعام الفطور ، وجلست الى طاولة الدراسة . شعرت بارتياح وأنا أدرس بجد ، وكلما ازدادت ساعات العمل امام كتبى إزداد شعورى بالارتياح ، رغبت في التهام المزيد من المعلومات ، والصفحات . لا بأس لقد قطعت شوطا أحسد عليه نفسى . فلنجرب الآن مدى فهمى للمواد .
أمسكت كراس الأسئلة ، طرحت واحدا منها على نفسى . فوجئت بأني لا أعرف الإجابة ، طرحت واحدا اخر ، لم اعرف جابته .. لم أفقه شيئا مما قرأت .
نهضت ألف في غرفتي ، كالمسعور ، ياالله .. ماذا أفعل ؟ .. الامتحان يقترب ...
سأبدأ من جديد . أدركت الآن سبب فشلى ، إنني أحشو المواد فى رأسى كقطن فى وسادة . لابد من التروى للفهم والاستيعاب . سابحث الان عن مغلف للرسالة . سؤال يلح على : - هل أنا غبي ؟ .. أم أني أتغابى ؟ ولماذا ؟
حول الصباح ، قمت بنزهة صغيرة ، حول الحقول القريبة ، ربما يتيح لي ذلك أن أدرس بشكل أفضل ، لكن ماحدث كان عكس ذلك رأيت رجلا مسنا وطفلا تحت عجلات شاحنة كبيرة ، بقع الدم تلتمع تحت اشعه الشمس ورأس الطفل لا أثر له أبدا . شئ يبعث فى النفس الاسى والتفزز بآن واحد سخيفة هذه الحياة . تبدأ دون إنذار ، وتنتهي دون إندار - إنني أكره المفاجآت ، المفاجأة تخيفني - حقيرة هي الحياة .
ها أنا أقلب صفحات الكتاب ، الضيق يملأ كل خلية من جسدى .. والصداء ، يتغلغل في رأسي كأنه نار تآكل تلافيف دماغي ... أحسست بأن الكون صغير ضيق جدا .. شعرت بتفاهتى فى هذا الكون . وجودى أو عدم وجودى سواء . أنا أحب الرسم والفنون والطبيعة ، ووالدى ينتظرنى محاميا ناجحا . يتدخل في شؤوني (ابتعد عن الفتيات ، إحذر الناس ، اقطع علاقتك بهذه ، لا تضع وقتك ..) لقد سئمت من كل شئ .. . -
حتى من والدى . يخيل إلي بأنى اكرهه .. لا .. بل آكره رسائله .. نصائحه إني اكره نفسي . اشعر باني عاجز عن كل شىء . عن الدراسة ، عن العطاء ، عن الحب كل ما فعلته كان جدارا من سراب . الصداع يأكل رأسى جمجمتى تكاد تتحطم ، تنفجر ، صورة الرجل تحت العجلات تلاحقنى - تناولت كل اقراص الآسبرين الموجودة عندى ، دفعة واحدة .
طنين شديد يتسلل إلى أذني ، لم أعد أسمع شيئا سوى الطنين . صوتى أضحى ضعيفا أنا لا أسمعه إذا صرخت .. ضعف شديد يحتل حجمي واطرافى باردة ، كالجليد ، نظرت في المرآة كان لوني يزداد اصفرارا - كالرجل الذي تحت العجلات - أنفاسي تتلاحق في دهاليز ضيقة ، اكاد أختنق . لمعت صورة جارتى الصبية أمامي ، أسرعت إليها طرقت الباب ... و ...
فتحت عينى ، لاجد جارتى الصبية - صديقتي - تجلس جانب سريري ، كلمتني ، لم أسمع شيئا مما قالت . كان الاضطراب باديا عليها . فى الجهة الأخرى من السرير كانت جارتنا (الحولاء) وكالة الأنباء كانت تقف وتراقبنا معا ، ابتسمت .. ابتسامتها الصفراء تثيرني حتى الإقياء ، قلت لها شيئا ، تململت وقالت شيئا لم آفهمه أيضا ثم .. خرجت غاضبة .
نظرت فى عينى جارتى ، لأول مرة ، رأيتهما جميلتين .. كأن فيهما عمق لا قرار له . وكلما غصت فيهما ، كنت أقرأ أشياء جديدة . أشياء لم اعرفها من قبل ولا أفهمها الان . متثاقلا جلست في السرير ، سألتها عن مغلف رسالة تعيرنى إياه .. ضحكت .. سألتني عن سبب فعلتى هذه قالت بأنى كدت أقتل نفسي . ماذا أجيب ؟ .. أنا لا أعرف لماذا فعلت ذلك ؟.. فالحياة جميلة .. مشرقة .. لماذا ؟ .. ترى هل أنا غبي ؟ ... أم أنى فاشل فقط ؟ .. لست أدرى .. ماذا أقول ؟! ..
