من أهم القضايا التى طرحت على الدورة التاسعة عشرة للمؤتمر العام لليونسكو الذى انهى أشغاله فى أواخر نوفمبر المنصرم بباريس ، نمو التربية وتطورها وخطورة المشاكل الناجمة عن هذا التطور بالذات ومسؤولية الدول الكبيرة تجاه الدول الصغيرة ، على ضوء التقرير الضافى الذى أعدته لجنة من كبار الإخصائيين الدوليين يتقدمهم السيد ( إدغارفور )، الوزير السابق للتربية فى فرنسا .
ولئن بذلت كل البلدان - سواء كانت متقدمة أو متخلفة - مجهودات جبارة فى سبيل نشر التعليم ورفع مستواه ، ورصدت من أجل هذه الغاية طيلة العشرية المنقرضة أضعاف أضعاف ما رصدته أثناء العقود الكثيرة السابقة واصبحت تعانى جميعها - رغم ذلك - أزمات خطيرة فى الميدان التربوى زالت معها الطمأنينة واندكت بسببها أركان اخلاقية وحضارية صمدت القرود تلو القرون وارتجت هياكل اجتماعية عرفت طول الاستقرار ونعمت بشمول اليقين ، فان الواقع التربوى فى البلاد النامية يشكو اختلال توازن مريعا فى الكم والكيف ويفرض على المسؤولين اسئلة مصيرية تتجاوز آفاق التربية الى حقيقة الكيان وخبايا المآل .
واذا نحن اعتبرنا الكم لاحظنا أنه رغم الخطوات الجبارة التى قطعت والاموال الطائلة التى انفقت - ناهيك أن نسبتها زادت بما قدره 150 % فى ثمانية أعوام فقط إذ كانت 54 مليار دولار في 1960 فأصبحت 135 مليار دولار فى 1968 - فان عدد الاطفال المحرومين من الدراسة فى تزايد مطرد ويتوقع الاخصائيون انه سيبلغ 230 مليون سنة 1980 ، كما يقدرون أن يبلغ عدد الأميين فى نفس السنة 820 مليون نسمة أى بنسبة 29 % من سكان المعمورة ، وينتسبون كلهم - طبعا - الى العالم الثالث .
أما ظاهرة الانقطاع عن التعليم فهى خطيرة ومثيرة فى آن واحد إذ نصف تلامذة التعليم الابتدائى لا ينهون تعلمهم فى نصف بلدان العالم . وغنى عن البيان أن ظاهرة الانقطاع عن الدراسة والأمية المتفاقمة رغم الاموال المرصودة والتضحيات المقدمة من خصائص البلدان الفقيرة التى تنهك
قواها وتجهد اقتصادها وتسرع الخطى للحاق بالبلدان المتقدمة ، وما هى ببالغة هدفها ، بل إن البون يزداد عمقا والتفاوت يتسع خرقه على الراقع
ذلك ان البلدان المصنعة لا يزيد مجموع سكانها عن ثلث سكان المعمورة ولا يتجاوز عدد شبانها ربع شبان العالم - ( إن عدد من هم دون الخامسة عشر يقدر بـ 22 % في البلاد الغنية وبـ 78 % في البلاد النامية ) - ومع ذلك فقد انفقت فى شؤون التعليم والتربية 120 مليار دولار سنة 1968 بينما لم تنفق البلاد المتخلفة فى نفس السنة إلا 12 مليار دولار أى أنه يرصد اليوم في سبيل ربع شباب العالم عشرة أضعاف ما يرصد لبقية (( إخوانهم )) فى الانسانية والمنزلة والمصير
وإذا اردنا ان ندرك بالارقام ما لا يزال يفصل بين البلدان من حيث المستوى . الاقتصادى ، بل ما لا يزال يباعد بينها ويزيد فى عمق الهوة ، قلنا إن عدد طلبة التعليم العالى الجمل فى امريكا الشمالية واوروبا يتجاوز عدد الطلبة فى بقية بلدان العالم جميعا !! وبينما نجد فى الولايات المتحدة وكندا متعلما من بين ثمانية يزاول دروسه فى الجامعة ، واحدا على 20 في اوروبا فان هذه النسبة تنحدر فى آسيا الى واحد من 38 وفي البلاد العربية الى 1 من 45 وفى دول امريكا اللاطينية واحد من 49 وفي افريقيا 1 من 90
أما إذا اعتبرنا الكيف فان الخبراء يكادون يجمعون على أن تكوين المتخرجين من المدارس ليس مناسبا فى كثير من الحالات لحاجات سوق الشغل وان عدد البطالين من حاملى الشهادات المتوسطة والعليا فى تزايد ، الامر الذي يورث فى الشباب القلق والحيرة والشعور بالضياع ويحملهم على التمرد ويدفع بهم احيانا الى الانتحار او الانغماس فى النسيان بواسطة المخدرات ، ويكادون بجمعون ايضا على أن مناهج التعليم الحالية تنفر من الاعمال اليدوية والاشغال التطبيقية ، وتدعم التفكير النظرى المجرد وحتى الاجوف ، المنفصل عن الواقع ، وأخيرا - لا آخرا - تجتث الشباب من بيئته الطبيعية وتراثه القومى وتفرض عليه مقولات ومقومات وقيما ونماذج حضارية لا تساعده على التلاؤم مع بيئته ولا تؤهله الى الاعتزاز بنفسه وبقومه وبالتابع لا تمهد الى ازدهار الثقافات وحوار الحضارات وتكامل الإنسانية وهى جميعا أساس الوئام والسلم والاخاء البشرى .
تلك هي المسألة ! ومما يضاعف حيرة المسؤولين والمربين والمفكرين فى هذا الصدد ما أصبح الآن متأكدا من قرب إطلاق عدد من التوابع الصناعية Satellites artificiels فى الفضاء لبث البرامج الاذاعية والتلفزية فى مختلف جهات القارة بحيث يستطيع كل فرد أن يلتقطها من دون عناء .
وبالرغم من ان هذا العمل يضفى على الاتصالات بين الدول والشعوب بعدا جديدا ويساهم في تعزيز التعارف ونشر العلوم والمعارف وان الذبذبات اللاسلكية مورد طبيعى محدود تملكه - نظريا - كل الامم وان استخدامها لا يكون الا فى نطاق الانفاقات الدولية للمواصلات السلكية واللاسلكية فانه من الغباء ان نجهل انه لا يوجد فى الواقع إلا دولتان أو ثلاث فى مقدورها استخدام هذه الوسائل العجيبة وفرض ثقافتها وفنها وأخبارها وإعلاناتها الاشهارية . . على كافة الشعوب - أحبت أم كرهت - مما يخشى معه سيطرة نموذج حضارى بعينه وبسط الدول القليلة الموغلة فى الثروة والرفاه المتقدمة أشواطا بعيدة فى التكنولوجيا ، على ما دونها من الامم سلطانا اين منه سلطان الاستعمار والامبريالية فى صيغتهما المألوفة والمكشوفة .
وهو ما أدركته الوفود المشاركة فى مؤتمر اليونسكو مما جعل اللجنة المختصة تؤكد بأغلبية ساحقة على ضرورة مراعاة حرمة الامم والتفاوض مسبقا قبل اذاعة هذه البرامج بواسطة الاقمار الصناعية . . ولكنها توصية اخرى تضاف الى توصيات افلاطونية كثيرة صدرت من قبلها سواء فى الامم المتحدة او غيرها من المؤسسات الدولية . ولا تزال مثاليتنا ونزعتنا الانسانية تحجبان عنا احيانا حقيقة مرة وهى ان القانون ليس إلا تعبيرا أمينا عن توازن القوى المتقابلة
وليست القوى التى نعنيها فى هذا المقام القوة المادية والعسكرية بل هى - قبل كل شئ - القوة التى تتفرع عنها كل الامكانيات الاخرى بما فيها القوة العسكرية ، وأعنى بها الاقتصادية والتكنولوجية
والذى لاحظناه فى ميدان التعليم يمكن تشخيصه فى صيغة اخرى أشد على النفس ولكنها ابلغ فى الوصف والتعبير وأدعى الى التأمل والتفكير ذلك أن 25 % من مجموع سكان العالم يتمتعون بدخل معدله 2400 دولا - أي 1200 دينار - بينما لا يتجاوز دخل ال 75 % الباقين 180 دولارا ! والأدهى والأمر هو أن الهوة الفاصلة بين الشعوب الغنية والشعوب الفقيرة فى اتساع مستمر رغم كل المجهودات والمخططات والمساعدات ٠٠ إذ آفادت الدراسات ان ربع البشرية يكون دخلها سنة 3600،1980 دولار بالنسبة لكل فرد بينما لا يبلغ دخل الفرد بالنسبة لثلاثة ارباع العالم الباقية سوى 280 دولارا ! فهل يواصل العالم سيره في هذا الاتجاه الرهيب فيصبح عدد سكانه ستة مليارات سنة 2000 ويكون الثلاثان عبارة عن حشود من الحشرات على حد تعبير أحد المفكرين ؟ وهل يتفاقم اختلال التوازن ويستشرى تفاوت القوى ويعم اليأس وتشتد الأزمة وتزول اسباب السلم والوئام ؟ تلك هى مسألة المسائل وذلك هو السؤال الملح التى أخذ يفرض نفسه
على كافة المسؤولين ، يزيد من حدته ما اصبح يهدد حياة الناس من تلوث الهواء والماء وتناقص الطاقة والمواد الغذائية . . . ولسنا من المتشائمين الذين ينادون بالويل والثبور ، لأننا لم نيأس قط من ذكاء الانسان وقدرته العجيبة على مغالبة الدهر والتكيف مع الاحداث والتلاؤم مع الطبيعة والجنوح إلى الخير ولسنا كذلك من المتفائلين الغفل نترك زمام الأمور الى الطبيعة ونواميس الاشياء ، بل نحن نواجه منزلتنا وننظر الى واقعنا وجها لوجه .
ولا بد من أن نضع الدول الغنية أمام مسؤوليتها التاريخية ونحكم ضميرها وننبهها الى مصلحتها الآجلة ! إنها لن تعيش آمنة مطمئنة فى عالم تتوالى فيه الانتفاضات بسبب انتشار الجور والأنانية وجوع الملايين المادى وفاقتهم الروحية . فلا مناص من ان تراجع نظرتها الى العالم الثالث وتحدد علاقات تعاونية وثقافية جديدة مستندة الى التضامن الحى العادل الذكى الذي يجب أن يسود الربع الاخير من القرن العشرين .
إن أصواتا كثيرة تتصاعد تهيب بهذه الدول أن تخصص واحدا فى المائة من دخلها القومى لفائدة الشعوب النامية ! وإن نداءات متوالية - آخرها صدر عن السيد ( رونى ماهو ) المدير العام لليونسكو ، فى سبيل إقرار تعاون ثقافى حقيقى بين الامم منزه من نزعة الهيمنة الايدولوجية مبرإ من نوايا السيطرة الفكرية ، مستجيب لآمال الأجيال الصاعدة فى العزة والكرامة والتقدير المتبادل . فهل من مجيب وهل يكتب للعالم أن يحقق التحول الذات المصيرى من دون عنف وكوارث ؟
إن شعوب العالم الثالث مسؤولة هى أيضا على مآل هذا الصراع الرهيب ، لأنها تستطيع اذا ما آمنت بنفسها واهتدت الى الأنظمة التربوية الملائمة الموفقة بين ترسيخ الذات والتفتح على التقدم والعلم وأسباب القوة ، ونجحت فى تكوين إطارات قومية بحق ، عصرية عن جدارة ، قادرة على تفجير قوى الخلق فى نفسها وفى بيئتها وتغيير ما بها وبمجتمعاتها ، تستطيع أن تخضع الأحداث لمشيئتها وتفرض نفسها فتربح الرهان ، رهان النمو والتربية فالمناعة والسلم .
فهل يستيقظ ضمير الأغنياء ويرهف شعورهم بالتضامن ؟ وهل يستوى الفقراء على سوقهم ويجابهون الحياة ؟ هل تكون سنة 2000 المنعرج الحاسم فى مسيرة الانسان نحو السؤدد والرفعة أم تكون بداية النهاية ؟ تلك مسألة المسائل فى هذا الربع الاخير من القرن العشرين
