الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

إلى القارئ ، الرهان على الانسان

Share

لعل أبرز ظاهرة نشهدها منذ الحرب العالمية الثانية بالخصوص ، كلما حاولنا تبين خصائص الحضارات الكبرى ، فى العالم المتقدم وفى البلدان المتخلفة التى كثيرا ما تحاكيه نخبتها المكيفة بثقافته فتتبنى همومه ومآسيه شك الإنسان فى نفسه ، وشعوره بالحقارة والانسحاق والعجز ، ويأسه من  السيطرة على العالم وتقرير مصيره الذاتى والجماعي

ويتسابق المسرح والسنما وشتى فنون الأدب الى تصوير عبث الوجود والتأكيد على  استحالة الاتصال الإنسانى الصميمى  Incommniclife والإغراق فى وصف حس الافراد والجماعات بالظلم الكونى المسلط على الانسان ، حتى اصبحت قيمة الخلق الأدبي والفنى تقاس بالقدرة على تشخيص الجانب الغريزي ، والمادي ، للبشر والبراعة في الدعوة الى التحرر من " العقد والجمالية المألوفة والإنهماك في الملذات والنزوات الفردية ، والهروب من تبعات الحياة وتعبها بواسطة الافيون والعنف وحتى الانتحار

وقد يكون الذي مهد إلى شهرة شيخ الوجودية ج . ب . سارتر ، ما ذهب اليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية من أن الانسان نذل ) salved اساسا لا تورث معاشرته الا الغثيان la nausee، وبالرغم عن أنه القى بعد ذلك محاضرته  الوجودية مذهب إنساني اكد فيها حرية الانسان ، كأنه أراد أن يكفر عن قصته " الغثيان "  فان جهنم - بالنسبة للفرد - أى فرد - تتمثل فى الآخرين حسب قولته الشهيرة .

وهذا احد دعاة الهيكلية ، م . فوكو يدعى أن الأبحاث المتمثلة فى العلوم الإنسانية لم تقض فقط على تصورنا الكلاسيكى للانسان والمذهب الانسانى ، بوصفه مرجعا لكل حضارة ، بل هى تنزع الى التأكيد على لا جدوى معنى الانسان ، بالنسبة للبحث والتفكير . . "

وهكذا تقضى العلوم الانسانية على الانسان أو تجهله على الأقل بدعوى الموضوعية والحيطة من الذاتية ، بل إن بعض العلماء أو مبسطى العلم لا يترددون - تظرفا طبعا ! - فى إتحاف بعض الجرائد والمحلات بمقالات تحاول هتك هالة  القداسة التى ظلت تحوط الانسان قرونا طوالا .  وقد سبق ان ذكرنا بعض الأمثلة على ذلك ، ( 1 ) وخاصة النظرية القائلة بأن عناصر " البلاسما " ( الدم ) الكيمياوية هي التى " تلهم " الانسان الذكاء وحس الألم وملكة الجمال وقابلية التدين . . وانه بالتأثير على تلك العناصر يمكن تكييف الحب والحقد والحماسة والفرح . . . . فى ذات الانسان .

وهذا طبيب انقليزى يدعى " لوسون " نشر اخيرا " دراسة " عن المواد الأولية التى يتألف منها جسم الانسان ( 2 ) فيفيدنا بالأرقام التالية : 45 لترا  من الماء ، مواد دهنية كافية لصنع سبعة ألواح من الصابون ، فحم يكفى لصنع تسعة آلاف رصاصة قلم ، فوسفور لعمل رؤوس 2200 عود كبريت ، حديد يسكب فى مسمار كبير ، كلس كاف لتمليط سقف غرفة مربعة عادية ، كبريت ينظف كلبا من البراغيث ، ماغنزيوم  يضئ لحظة واحدة . .

وكذلك العالم " بنفلد " فقد بين فى كتابه " اللغة وميكانيزم الأدمغة " ( 3 ) انه بمجرد الضغط على زر مربوط بسلك كهربائى متصل بنقط معلومة من الدماغ يمكن اثارة المشاعر اللطيفة العميقة التى تفنن " بروسط " مثلا في تصويرها فى صفحات له خالدة .

وتبنى " دلفادو " نفس النظرية إذ بين فى كتاب صدر له سنة 1969 (4) بعنوان ( مراقبة الفكر الطبيعية ) ان الطاقة الكهربائية المسلطة على الدماغ قادرة على جعل الانسان يشعر بالغضب والخوف والجوع والعطش . . من دون  أن يعرف أن ذلك من تأثير الكهرباء ...

وإن مثل هذه النظريات تحطم معنويات الشباب وتصرفه عن النضال والصمود وتحقره فى نفسه وتنقص له من شأنه فيفتر عزمه ويكل ، ويقصر عن مواجهة الحياة وطلب المعالي .

والواقع أن الانسان - منظورا اليه من وجهة علم التشريح أو الوظائف او بالمقارنة مع قوى الطبيعة ونواميس الاقتصاد . . . كائن ضعيف ، وأية صدمة بالطبيعة العمياء والقوة المادية الهوجاء . . قادرة على الفتك به والقضاء عليه ولكنه - على ضعفه المادي - يملك عقلا وشعورا ووعيا وعزما ، ويملك بالخصوص قدرة عجيبة على تجاوز منزلته الأرضية وأصفاده الاجتماعية وحدوده الحياتية ، فيبدع ويتحرر ويكيف نفسه ومجتمعه بما يراه خيرا وحقا وجمالا .

ورغم ما يقال عن الحتمية المادية والعبثية الوجودية والجبرية الماورائية فان بشرا صمدوا فى فترات كثيرة من تاريخ الانسان ، ولا يزالون ، وغيروا ما بهم وما حولهم ، وارتفعت بفضل جهودهم وتفانيهم منزلة البشرية  فاستشرفت آفاقا جديدة من الرفعة المعنوية والكرامة الحق .

ألم يصنع رجال رجال التاريخ ؟ الم يتمردوا على أوضاعهم ويسيطروا على اجسادهم ومشاعرهم وابوا أن يجثوا على أقدامهم أمام الطغاة رغم الاغراء والعذاب والجوع والوحدة وحتى الوسائل الكيمياوية وشتى الأساليب الجهنمية  المستعملة للتأثير على معنوياتهم ؟ فكانوا بذلك قدوة لغيرهم وضميرا لعصرهم الم يحدث افذاذ من الرجال ثورات على ما ألفه معاصروهم واعتبروه قضاء وقدرا قرونا طوالا ؟

لذلك لا نزال - رغم آنسياق الكثير مع ما يعتبرونه تجديدا أو واقعية - نراهن على الانسان الصغير العظيم ، الفاني الدائم ، المتحول الثابت ، ولا نزال نؤمن بأنه حر وان حياته ليست مأساة بل هي ملحمة رائعة وكسب متواصل وخلق ذاتى مستمر . ولا نزال - كذلك - ندعو الى ادب فحل تتجلى فيه كثافة عالم الانسان بكل ابعاده ، أدب يتلبس بإرادة الفرد يبنى مصيره  بعقله وقلبه وجوارحه ويعيش مغامرته الوجودية بكل أوساعها ، أدب يتحدى المادة ، وينشد الحرية الحق ويرفض الرفض . ومنذ أكثر من ثلاثة قرون قال باسكال : " ليس الانسان إلا قصبة ، وهو أضعف قصب الدنيا ، إلا أنه قصبة تفكر ولا تحتاج الدنيا إلى مزيد التسلح لمحقه بل قليل من البخار أو فطرة ماء تكفى للقضاء عليه . ولكن لو محقته الدنيا لبقى اشرف منها ، لأنه يعى موته وتفوق الدنيا ) المادي ( عليه ، أما الدنيا فلا تشعر بشئ من ذلك " بل تأمل فى قوله نيتشي : " كم فجر لم يلح نوره بعد " . tue d' quores qui n' pods encore lui ! )

تدرك أن الانسان لم يقل بعد كلمته الأخيرة في هذا الوجود ؛

اشترك في نشرتنا البريدية