لئن تسمى الحزب الحر الدستورى التونسي الاشتراكى الدستورى " فى مؤتمر بنزرت وأقر المؤتمرون بالاجماع - حينذاك - الاشتراكية مذهبا فان المؤتمر السابع للحزب " لم يكتف بتبنى الشعار بل تجاوزه الى التحليل والضبط بحيث تخدم الاشتراكية الانسان التونسى وتبقى طريقة ونظام عمل يوفران الازدهار وأسباب الكرامة من دون ضغط ولا مسخ مجاني فيكون الانسان هدفا وتبقى الاشتراكية وسيلة " .
هذا ما أكدناه في هذه المجلة منذ سبع سنوات بالضبط غداة " مؤتمر المصير " ) غرة نوفمبر 1964 ( وهذا ما اثبتته الاحدات والتجارب فى تونس وفي كثير من البلدان وخاصة فى تلك التى تمسكت بالعقائدية الجامدة والواحدية الفكرية المتحجرة واعتبرت الاشتراكية منظومة محنطة من المعاني الجاهزة والشعارات البراقة فأصبح الناس فيها لا يفكرون بقدر ما يتغرغرون بالفراغ ولا يعتبرون الواقع بقدر اعتبارهم للنظريات ويهملون فى اخر المطاف - وباسم العلمانية - التقيد بأدنى ما يفرضه الروح العلمي من التجرد والدقة والضبط والتزام نواميس الطبيعة وطبائع البشر
لذلك يسرنا - عند التمعن في ميثاق الحزب - ان نسجل غداة المؤتمر الثامن المنعقد بالمنستير من 11 الى 15 اكتوبر 1971 وفاء القوى الحية فى البلاد لأنبل ما تنشده الاشتراكية وهو كرامة المواطن التى لن تكون إلا إذا توفر له حد أدنى من الاستقلال الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والتعادل فى الحظوظ والتعليم والثقافة والصحة وكان جزاؤه على قدر عمله وإنتاجه ، ووفاؤها كذلك وبالخصوص الى أعز ما تقضيته حرمة الانسان وهو الحرية التى من دونها لا
تكون المسؤولية ولا الانسانية ولا الحياة الحق ، بل إن تحرر الانسان الاقتصادى ورفاهيته الاجتماعية ووقايته من الاستغلال والاحتكار والضيم . كلها وسائل تمهد الى أن يبلغ الانسان أعلى مراتب الرفعة المعنوية ويحقق انسانيته . وهو مطلب الحزب يسعى اليه منذ ان أسسه الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1934 ، لم يثنه فوزه باستقلال البلاد عن مواصلة السير بل ضاعف ذلك طاقته وجدد رسالته وأضفى على قيادته ابعادا أخرى ليس اقلها شأنا ولا دونها قيمة إبداع المستقبل والتصادى مع أحلام الأحيال وأمل الجماهير .
وإن المستقبل الذي تصبو إليه الجماهير وتحلم به الاجيال الصاعدة لا يكون - من حيث القيم الروحية والمنزع المذهبى - إلا تونسيا وعربيا اسلاميا بحيث يضمن لهذه الأمة المناعة ويحفظ لها ملامحها ومقوماتها الاساسية من دون أن يعنى ذلك انزواء ولا انغلاقا ، بل إن التنمية الاقتصادية والحضارية الشاملة تقتضى النهضة العلمية والتكنولوجية الاخذ بأسبابها .وإنما الذى يجب الحرص عليه والاحتياط من الاغفال عنه ، وسط طوفان النظريات ، هو ان تبقى لهذه الأمة هويتها المتميزة وكيانها الراسخ وطرافتها الذاتية بحيث تقدر على هضم خير ما تجود به الحضارات العصرية والعلوم والتقنيات الحديثة وامتصاص الوارد او المستورد سواء من الغرب او من الشرق ، ثم هضمه وتحويله الى غذاء مستساغ وطاقة ايجابية خلاقة .
على أن شيئا من ذلك لن يكون اذا لم توجه برامج التعليم والتربية والحركة الثقافية ونشاط الشباب فى البيئة الثالثة . . . الوجهة القومية السديدة لذلك كانت اللائحة الاجتماعية الصادرة عن المؤتمر الثامن للحزب من أوضح وأدق ما صدر فى هذا المعنى عن كافة المؤتمرات السابقة . فقد جاء فى مجال التربية بعد التعبير عن الاعتزاز بما حققته الحكومة التونسية منذ الإستقلال فى خصوص نشر التعليم وتعميمه والتمعن فى النتائج الكيفية . . " أن التعليم فى تونس لا يمكن إلا أن يكون قوميا فى الاسس الحضارية التى يستند اليها ، قوميا فى الاغراض الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التى يعمل على تيسير
إدراكها ، قوميا فى لسانه العربى ، وان يستمد اصالته من الحفاظ على مستنداته الحضارية ومن الاستفادة من الرقى الفكرى فى أشمل مظاهره . . ويذكر المؤتمر بأن العربية هي اللغة الرسمية للدولة والأمة حسبما نص عليه الدستور ويوصى الحكومة بأن تسن في أقرب الآجال عقب هذا المؤتمر خطة قومية عامة يقع تحقيقها على مراحل ميسورة ترمي الى جعل العربية لغة التعليم والإدارة والبيئة الثقافية والاجتماعية بالبلاد كما أكد المؤتمر أن الاستقرار المنشود فى التربية القومية إنما هو " استقرار فى اختياراتها وأغراضها وفى محتوياتها واساليبها .
اما فيما يتعلق بالثقافة فقد أكد المؤتمر الثقافة باعتبارها احدى الدعائم التى تقوم عليها عملية النهوض الشاملة لكل المقومات الاقتصادية والفكرية والروحية معا هي غاية فى حد ذاتها تعبر عن ذاتية الأمة ، وتربط حاضرها بماضيها ومستقبلها . . وأوصى خاصة " بمواصلة العمل للمحافظة على الأصالة وابراز الذاتية والشخصية القومية إحياء لحضارتنا العربية الاسلامية حتى تستطيع مواكبة العصر " . . . كما أوصى . . " بالسعي الى ابراز ثقافة قومية لها مقوماتها الاساسية وخصائصها المميزة ودعائمها المتينة " .
وكذلك فى خصوص الشباب فقد عبر المؤتمر عن ايمانه " بوجوب غرس جملة من القيم والخصال الاخلاقية السامية فى شبابنا الطالع حتى يكون ذخيرة ، والتبصر وقوة العزيمة والتجرد وتغذية عناصر الشباب بالاصالة القومية والمبادئ الحزبية والروح النضالية ليحتل المكانة الاولى ويقوم بدور المحرك الاساسي داخل المجتمع " . ويرى المؤتمر وجوب تقوية شخصية الشباب و " جعل هذه الشخصية منبثقة من قيمنا الروحية والحضارية ومتماشية وواقع بلادنا المتجدد " الامر الذي يكفل " تكوين شباب ملتزم متطور ومؤمن بمستقبل الأمة " .
وقد يرى بعض المنبهرين ببضاعة الاغيار أو المتأثرين الى درجة الانتماء
بالمذاهب الاجنبية شططا فى تأكيد القومية أو خطرا يهدد بالتحجر والانغلاق وانسداد الآفاق . ولا يسعنا إلا الاشفاق على هؤلاء المنبتين ، ضحايا الاستعمار ، وايتام الوطنية الصميمة ، والتأكيد لهم - ولغيرهم - بأن الأصالة كما وضحها المؤتمر عين ما تريده الأمة وينادى به الضمير القومى ويرنو اليه خيال شبابنا الطالع الذي يابي التفسخ ويرفض الاستهلاك السلبى ولا بريد شيئا كما يريد ان تكون له شخصيته المتميزة ولا يطمح الى شئ كما يطمح الى المساهمة فى تجديد القيم القومية ونمو الفكر التونسي وتجذره واشعاعه .
فاذا ما اتفقنا على الهدف البعيد وكانت لنا أرضية عقائدية ومذهبية مشتركة واتحدت مشاعرنا وتفطنا الى عوامل الضعف واخطار الزيف والزيغ واذا ما خرجنا من المؤتمر الثامن أوفر ثقة واعمق محبة وأكثر التفافا حول بورقيبة ، الرجل الذي خلق الحزب وأيقظ الجماهير ونظم صفوفها ومكنها من ان تحيا وتجاهد في سبيل مثل أعلى هو الاستقلال السياسي ثم الكرامة والحرية وإذا بقينا على إيماننا بالوحدة القومية وتجدد رسالة الحزب . . . وجب ان نقوي على الانضباط والانسجام والانقطاع للصالح العام ونجتنب كل ما من شأنه ان يخلخل القيادة ويمس بهيبة الدولة التى من دونها ومن دون اشعاع رجالها واستقامتهم ونظافة يدهم لا يستتب امن ولا يكون استقرار ولا حرية أو ديمقراطية .
لقد صادق المؤتمر بالاجماع على ميثاق يتعين علينا جميعا أن نتمسك به واقر برنامجا اقتصاديا واجتماعيا طويل النفس حدد معالمه وضبط محتواه السيد لوزير الاول في تقريره الضافي الى المؤتمرين فمن الواجب أن نعمل على تحقيقه ونوفر له اسباب النجاح ، وذكر المؤتمرين ، كل المؤتمرين بدون استثناء ، بالأصول الحضارية والقيم العليا التى يجب ان تلتزمها سياستنا التربوية والثقافية حتى تنشا الأجيال الصاعدة على الوفاء والتجدد فلا أقل من الاخلاص لما نادي به ضمير الامة والاقدام على ما لا بد منه اذا اردنا لوطننا المناعة والسؤدد على المدى البعيد .
وهكذا تبدو قضية الاشخاص ثانوية عرضية ؛ انها لا تمت الى الديمقراطية بأدنى سبب لأن الاحزاب تختلف باختلاف المذاهب وتتعدد بتعدد المنازع والنظرة الى الوجود . أما نحن فى تونس فكل شئ يجمعنا : الدين ، اللغة ، التاريخ ، وحدة النضال ، الآلام والآمال المشتركة ، التصور الواحد للكرامة الانسانية والاتفاق الشامل على ضرورة الوحدة القومية . . واذن فيجب أن تجتنب التعددية الفئوية التى لا تقوم على الاختلاف فى المبادئ بل تتفرع عن الانتماء للاشخاص والعصبية الطائفية او الجهوية والقبلية وهي شر من تعدد الإحزاب والنقابات لانها عين الجاهلية والتخلف ، وابعد ما تكون عن جوهر الديمقراطبة ، والحياة السياسية السليمة
وإذا كان الطموح الفردي - فى مجال السياسة خاصة - أمرا طبيعيا فعلى شرط ان يظل مدخلا لتحقيق غاية تتجاوز الافراد أنفسهم وإلا اصبح مطمعا ورذيلة وشتان بين المطامح التى تهدف الى ما وراء الذات الفردية والمطامع التى تحركها الأنانية !
وعلى ضوء ما سبق وجب ان نتذكر ما أوصى به الرئيس الحبيب بورقيبة فى افتتاح المؤتمر الثامن للحزب من وجوب التحلى بالاخلاق الفاضلة اذ السياسة طريق الى الخير وبذل ونكران ذات ؛ والسياسي الأصيل المخلص إذ يحلم بالمستقبل ويسعى الى مغالبة التخلف والسير بوطنه الى ما يحبه ويرضاه . . هو الذى يقدر على التمسك بالعقل وتسليطه على الهوى الذي هو آفته وجعله " متبوعا لا تابعا وزماما لا مزموما " كما قد يقول أبوبكر الرازي .
فعس أن يكون القادة في هستوي الامانة القومية الخالدة وعند حسن ظن الجماهير الواعية حتى تواصل الأمة مسيرتها نحو الكرامة والمناعة وعسى ان ينهض رحال الفكر والأدب برسالتهم الخطيرة فى مجتمعهم النامى التائق الى العزة والسؤدد والانسانية السليمة .
