وبعد فلئن ظفرت شخصية أبى حيان التوحيدى ومؤلفاته - بعد طول غبنها عصرها - باهتمام الدراسات الحديثة والدارسين شرقا وغربا (1) فانها تظل محل اختلاف يصل إلى حد التحامل على المؤلف واقتراح حذفه من الشخصيات الادبية المدرجة فى برامج التعليم (2)
وتعتمد هذه النظرة حججا متنوعة أهمها أن أبا حيان رمز للاديب البكاء الشكاء الذي لا يورث الدارسين من النشء الا شعورا بالغصه والهزيمة ورثاء لحاله فى ظروف يحتاج فيها الشباب الى معانى القوة والطموح والاندفاع والتمرد . .
أما حجتهم الثانية فهي تورط المؤلف في علاقات صداقة لرجال السياسة فى عصره وهذا ما جعله يتبنى آراءهم ومواقفهم بصرف النظر عن عدلها او ظلمها طلبا للجاه والمراتب ، وتقربا للكبراء وتكسبا بأدبه وتسخيرا لمواهبه فى خدمة أغراض الطبقة الحاكمة . فليس جديرا باهتمامنا من وظف مواهبه لخدمة مصالحه الذاتية ورغبات طبقة خاصة .
وقد يلتمس المتحاملون على أبى حيان حجة ثالثة أدبية وهي تقليده لاسلوب الجاحظ الادبي موضوعات وروحا فلم ينفرد بطريقة متميزة بل ظل المقلد الوفي لامام النثر العربي أبى عثمان الجاحظ مصنفا فيه - نتيجة اعجابه بأدبه - رسالة فى التقريظ .
فما هو نصيب هذه الحجج من الصحة ؟ وهل تدعم مؤلفات التوحيدى ومنعرجات حياته المادية والباطنية هذه المزاعم ؟ أو ما هى الفوائد المرجوة من دراسة أبى حيان وتدريس مؤلفاته الادبية والفكرية ؟
ان الدارس الموضوعي لاحدى مؤلفات التوحيدى المعروفة فى أوساط المثقفين وهو كتاب الامتاع يكتشف - إذا برئ من سذاجة الحمقى وبله المغفلين - أن أبا حيان وعي عصره وشؤون معاصريه عميق الوعى فدعا الى الاصلاح ورفع المظالم وتصحيح الاحكام محققا بذلك دور المثقف الحق أى الملتزم بقضايا العصر المتبنى لشؤون الكادحين والمظلومين والمعذبين فى الارض نعم ان من يقرأ كتاب " الامتاع والمؤانسة " - وهو الاثر الادبى المدرج حاليا فى برامج السنة السابعة آداب بالتعليم الثانوى - يلاحظ دون عناء انه استنكر على السلاطين فساد سيرتهم بطريقة غير مباشرة تروى موقف أبى سليمان من كسرى أنو شروان حين ملك وعكف على الصبوح والغبوق(3) كما انكر على الوزراء تسلطهم وتحيزهم فقال عن الصاحب بن عباد(4)"والذى غلطه فى نفسه وحمله على الاعجاب برأيه انه لم يجبه قط بتخطئة .." واستنكر صمت العامة والخاصة ازاء فساد سلوك بعض الكبراء نتيجة انتشار النفاق(5) " وللكبراء وذوى القدرة زلات فاحشة وفعلات موحشة ، ولكن ليس لهم عليها معير للخوف منهم "
كما ابان فى كتاب " مثالب الوزيرين " (6) خطر التواطؤ والصمت عن فساد الاحوال " ونعوذ بالله من جنون موصول بانقياد الامور وطاعة الرجال " معلنا ان الحكم المثالي يتم فى الزمن الخالي من الآفات اى " أن يكون الدين طريا والدولة مقبلة والخصب عاما والعلم مطلوبا . . " (7)
ولم يتردد أبو حيان فى المطالبة بالاصلاح وفق هذه النظرة السلفية اى المعتبرة للدين أساس الاخلاق والعلاقات بين الافراد والجماعات بطريقة مباشرة حينا اذ طلب من الوزير ابن سعدان الاعتبار بسيرة الصالحين من السلف والاعتبار بأخلاقهم ومعاملاتهم اذ " ليس فى أبواب السياسة شئ أجدى وانفع وانفى للفساد وأقمع من الاعتبار الموقظ للنفس الباعث على أخذ العزم وتجريد العزم .. " (8)
وقد ضرب للوزير أمثلة لمن لم ينتصح من الكبراء منهم أبو الفضل العباس بن الحسين ومحمد بن بقية ، وذو الكفايتين ، الذين لم ينتصحوا فساءت عاقبتهم منهيا رسالته بمجموعة من الاوامر لا يصدع بها الا مصلح جرىء . ومثقف حق " آخر ما أقول أيها الوزير : مر بالصدقات فانها مجلبة السلامات . . واهجر الشراب ، وأدم النظر في المصحف وافزع الى الله . . ولا تبخل على نفسك برأى غيرك " (9) .
ولم يظل أبو حيان المثقف الانانى بل تبنى حالة المثقفين المحرومين فى عصره والادباء الفقراء والمتصوفين الادنياء الغرباء طالبا من الوزير مساعدتهم (10) " فلو لحظت هؤلاء كلهم بفضلك وأدنيتهم بسعة ذرعك وأصغيت الى مقالتهم بسمعك وقابلتهم بملء عينيك كان فى ذلك بقاء النعمة عليك وصيت فاش بذكرك . . "
كما انه صحيح كثيرا من المفاهيم المنحرفة الرائجة فى عصره والمتعلقة بالتفاضل بين الامم ، وبين المنطق اليونانى والنحو العربى وبين الحساب والبلاغة وبين النظم والنثر .
على أن أبا حيان لم يخف أمله فى الجدوى بواسطة الكتابة بل اعترف بأنه وظفها احيانا لذكر مناقب الوزير ونشر فضائله تماشيا مع روح العصر .
ولم يكن أبو حيان المثقف الواعي بمشكلات عصره المطالب بالاصلاح الناقد لسير العامة والخاصة فقط بل مثل بكتاباته الواقع التاريخي والحضارى والديني والاقتصادى للعصر البويهى بالعراق وصور فساد العصر " الخالي
من الديانين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم " (12) حيث انتشرت الزندقة وفشا التعصب الديني وكثرت الفتن الداخلية " وصارت العامة مع جهلها تجد قوة من خاصتها مع علمها فسفكت الدماء واستبيح الحريم . . " فانهارت القيم الاخلاقية والاجتماعية وسادت الفوضى وعمت الشكوى الادباء وحتى الوزراء . فكم من فاسق تسلق سلم المجتمع ونال رفيع المراتب فى السلطة والقضاء والفكر كالداركى وابن يوسف وأسود الزبد ، مما جعل التوحيدى يلح على صديقه أبى الوفاء المهندس الذي أهدى رسالة الامتاع فى أن تكون " مصونة عن عيون الحاسدين العيابين بعيدة عن تناول أيدى المفسدين المنافسين فليس كل قائل يسلم ولا كل سامع ينصف " (13)
وفي هذا العصر كان المؤلف شاهدا على ازدهار حركة الفكر والابداع رغم ما يكابده المفكرون غير المحظوظين - وهم كثيرون فى كل زمان - من تعاسة واضطهاد تكفى حالة ابى سليمان المنطقي - أستاذ أبى حيان - دليلا عليها ألم يكن محتاجا إلى " رغيف وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه .. " (14)
ألم يعترف المؤلف بمرارة الحالة حيث لا يصل الاديب الى مستوى الكرامة والاكتفاء المادى " الا ببيع الدين وإخلاق المروءة واراقة ماء الوجه " ؟ وبأنه أمام هذا الوضع " لا بد من فتى يعين على الدهر ويغنى عن كرام الناس فضلا عن لئامهم ؟
ألا نجد فى الامتاع مثلا صورة حية لأحوال الفئات الاجتماعية اقتصاديا وعقائديا وسياسيا ؟ فهنا تضج العامة أمام ارتفاع الاسعار ، وهناك تقوم فتنة العيارين ببغداد وعلى الحدود تغزو الروم بلاد المسلمين ، وفي الداخل لا تلحظ الا التعصب الدينى بين الحنابلة والطبريين " فخرجوا الى التكفير والتفسيق واباحة الدم والمال ورد الشهادة واطلاق اللسان بالجرح والقذع والتهاجر والتقاطع . . " (15)
ولم يبق المؤلف مجرد ملاحظ سلبى لاحوال عصره بل جادل المتكلمين والصوفية والكتاب والشعراء والاطباء والواعظين والزهاد ، وناضل من أجل العامة حين ارتفعت أسعار المعاش وهددها الوزير بالتعسف والاضطهاد ، وصور حالة الوراقين والمغنين والاعراب وسلوك الظرفاء واصحاب النوادر والسوقيين والكناسين والكساحين السائلين والطفيليين والمكدين والاساكفة والعطارين والجوارى والمخنثين ..
كما رسم عدم الانسجام بين حالة الانهيار الاقتصادى والسياسي والديني ومن الازدهار الادبي والفكرى اللذين عرفهما القرن الرابع لعهد البويهيين . ولم يظل أبو حيان بمعزل عن هذا المناخ بل أسهم فى ارساء هذه الثورة الثقافية والتجديد الادبي على مستواه الفردى لا على صعيد روح الكتابة وغرضها فقط بل على صعيد الموضوعات التى عالجها ايضا .
ولئن تبنى التوحيدى نظرية الجاحظ موضوعا للادب اى ان يكون محور الكتابة الانسان بمشاكله الاخلاقية والمادية والروحية ومشاغله الفكرية ، وغايتها تلقيح الفكر وتهذيب الروح والدعوة الى المعروف ، وأن تكون الطريقة مزجا بين الجد والهزل - وهو ما توخاه ابو حيان على مستوى كل ليلة في الامتاع فختمها بملحة الوداع ، حتى انفردت الليلة الثامنة عشرة بالهزل - وان تكون الكتابة بريئة من التكلف والتفيهق والحذلقة والتقعر فانه دعم نظرية الجاحظ وأضاف اليها عناصر شخصية لا تغادر سائر مؤلفاته تتمثل فيما أسميه بروح أبي حيان ذات المميزات الفريدة .
وبعد ألا تنطق آثار أبى حيان وخاصة الامتاع بأنه مصلح ملتزم ومثقف حق ، وشاهد واع ومؤرخ لفترة معينة فى العصر البويهى ، وحلقة جديدة في النثر الفني ؟ ألم يكن عصره جديرا بمن يرثيه أدبيا وأخلاقيا فقام بتلك الوظيفة وجسم ازمة المجتمع الاسلامي فكانت شكاته شكاة المثقف الحق عبر العصور ، ووقفته وقفة الواعي المدرك المتألم الساخط المرشد المصلح ؟ وهل نطلب من الادباء الحق غير هذه الوظائف ؟
ألا تكفى هذه القيم لتبوىء صاحبنا مكانة الشخصية الادبية الجديرة بالدراسة والتدريس فى أقسامنا النهائية للتعليم الثانوى ؟
" وفي انتظار ردود من ظلم أباحيان أو تجاهله أو ازدراه نفتح مرة أخرى الحوار حول التراث وقيمته وطريقة انتخاب أمثلة منه والقراءة الجديدة المسايرة لوضع البلاد العربية الراهن فى عصر التكتلات والتحديات . وندعو لهم بما دعا أبو حيان معاصرين فى مستهل رسائله وكتبه ،

