الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "المنهل"

إيران فى عهد الدولة القاجارية

Share

عهد ناصر الدين شاه ( ١٢٦٤ - ١٣١٣ ه ) :      عندما توفي محمد شاه القاجارى كان ابنه وولي عهده ناصر الدين ميرزا يقيم فى تبريز مع مربيه الميرزا تقى خان الفراهانى وزير الحربية ، وحينما وصل نعي محمد شاه الى تبريز تولى الميرزا تقى خان أخذ البيعة بالملك لناصر الدين ميرزا ، وأخذ يستعد لتتويج سيده على عرش ايران ، فى وسط ذلك الجو المضطرب المليء بالفوضى التى سببتها حروب خراسان . وقام تقى خان بالسفر فى معية الملك الشاب الى طهران وكان السفير الروسى والبريطانى كعادتهما فى الموكب الملكى ، بعد أن قدما الى تبريز بعد وفاة محمد شاه لتعزية الامير ناصر الدين وتهنئته . وحرصا من الميرزا تقى خان على حفظ الأمن فى مدينة تبريز حتى لا تقوم العناصر المخربة بالاخلال بالأمن فى آذربيجان بعد سفر ناصر الدين الى طهران فقد قام بابعاد العناصر المشكوك فى ولائها للعهد الجديد من الحكام المحليين في منطقة آذربيجان ، وعين محلهم حكاما آخرين يتصفون بالولاء للملك الشاب .

    وفى الحادى والعشرين من شهر ذى القعدة سنة ١٢٦٤ ه وصل الموكب الملكى الى طهران ، وفى اليوم التالى أعلن ناصر الدين شاه بن محمد شاه القاجارى ملكا على ايران . ونظرا لما كان يمتاز به مربيه الميرزا تقى خان من الكفاءة والاخلاص والخبرة بالشؤون العسكرية والادارية فقد عينه ناصر الدين شاه رئيسا للوزراء ومنحه لقب الاتابك الاعظم ، ثم لقب الامير الكبير ، كما عين الميرزا نصرالله خان نورى الشهير بميرزا آقا خان حاكم كاشان نائبا لرئيس الوزراء ولقبه باعتماد الدولة .

الامير الكبير :     لقد كان من حسن طالع ناصر الدين شاه أن وجد فى عهده وزير مدبر وادارى حازم كالميرزا تقى خان الفراهانى الأمير الكبير ، فقد استطاع هذا الرجل أن يقود سفينة الدولة القاجارية وسط أمواج متلاطمة من الفتن والدسائس ، وان كان هو نفسه قد ذهب ضحية تلك الدسائس فيما بعد .

والامير الكبير من قرية هزاوة من قرى فراهان ، واسم والده كربلائى محمدقربان،

وكان والده يعمل طاهيا لدى الميرزا أبو القاسم ، القائم مقام الفراهانى ، رئيس وزراء ايران فى عهد محمد شاه القاجارى والذى تحدثنا عن نهايته الأليمة على يد محمد شاه فى فصول سابقة .

ولد الامير الكبير فى حدود سنة ١٢١٠ه وقيل ١٢١٤ ه ، ونشأ فى بيت القائم مقام فى تبريز حيث كان يعمل والده ، وقد بدا عليه النبوغ فى سن مبكرة عندما كان يعاون والده فى مطابخ القائم مقام وقد لفت ذكاؤه المبكر انتباه الميرزا ابى القاسم القائم مقام فتعهده بالتربية والتعليم مع بقية أبنائه .

استطاع الامير أن يلم بجانب كبير من علوم زمانه وهو بعد فى ميعة الصبا ويتضح ذلك مما قاله له الميرزا ابو القاسم يوما : ( أي بني ، انى اتنبأ لك بمستقبل لامع وسوف تشغل مناصب خطيرة فى الدولة القاجارية وربما استطعت قيادة سفينة هذه الامة الى شاطىء النجاة اذا سلمت من السنة الحساد وكيد الكائدين ) .

وعندما صار الميرزا أبو القاسم القائم مقام رئيسا للوزراء فى عهد محمد شاه شغله المنصب الخطير عن الاشراف على تربية الامير الكبير ، بعثه الى ابن اخ له يسمى الميرزا اسحق وأوصاه به خيرا وكان مما كتبه لابن أخيه بشأن الامير : ( بسم الله الرحمن الرحيم فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ، الحق ان قوة قدرة هذا الشاب يكاد يضىء زيتها ، وانى لأرجو له كل خير ، وسيقوم باسداء أكبر الخدمات لوطنه يوما ما ، ترقب حتى يطلع صبح اقباله . )

وفى رسالة أخرى كتبها القائم مقام الى صديقه الفاضل الشاعر الفارسى فاضل

حسن الكروسى ، وكان من كبار موظفى ديوان الرسائل فى عهد فتح شاه القاجارى كتب بشأن الامير عندما سافر فى معية الامير خسرو ميرزا الى سانت بطرس بيرغ سنة ١٢٤٤ ه يقول :

( لقد استطاع محمد تقى خان أن يفوز بقصب السبق على كل اقرانه في محافل موسكو وسانت بطرس بيرغ ، لقد كان متفوقا تفوقا كبيرا في المحادثات التى أجراها الجانب الايرانى مع الجانب الروسى، وكان قوي الحجة بحيث استطاع أن ينتزع لنفسه مكانة ملحوظة فى نفوس محادثيه ، لقد كان باختصار متحدثا لببقا ومجادلا عنيفا مصمما ، وذا بيان ساحر أخاذ ) .

ما كاد الميرزا تقى خان يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره حتى كان قد تدرج فى أكبر المناصب فى بلاط ولي العهد الامير عباس ميرزا ، وكان ذا ذكاء خارق مما جعله موضع احترام العام والخاص واجلالهما ، وأصبح أحد أمناء سر الميرزا أبو القاسم القائم مقام ومن أخلص أصدقائه والمقربين اليه ، مما جعل القائم مقام يعينه كاتبا لدى وزير الحربية الميرزا محمد خان زنكنه، ثم أصبح سكرتيره الخاص وموضع ثقته وقد أهلته لباقته وذكاؤه ودمائه ومعرفته لآداب المعاشرة أن يكون أحد أعضاء البعثة السياسية الايرانية التى أرسلها فتح علي شاه القاجارى الى روسيا للتفاوض بشأن مشاكل الحدود المشتركة بين ايران وروسيا .

ولقد استفاد تقى خان من سفره الى روسيا واشتراكه فى المفاوضات السياسية التى جرت بين روسيا وايران فائدة كبيرة ، ومرن على أساليب ادارة المحاورات

السياسية ، لذلك فقد رشح ليكون رئيسا للوفد الايرانى الذى ذهب لمقابلة الامبراطور الروسى نيكولاي الاول ، عندما جاء الى يروان فى عهد محمد شاه القاجارى فى معية ولي العهد ناصر الدين ميرزا ، وحينما عين ناصر الدين ميرزا حاكما عاما لأذربيجان وقائدا أعلى للقوات الايرانية في الجبهة الشمالية خلفا لوالده محمد شاه الذى جلس على عرش ايران كانت القيادة الفعلية للقوات الايرانية فى يد محمد تقى خان .

ومن أبرز المهام السياسية التى أسندت الى تقى لخان فى عهد محمد شاه وابنه ناصر الدين شاه ، اشتراكه فى المفاوضات العثمانية - الايرانية بشأن مشاكل الحدود بين ايران وتركيا ، فقد ذهب مرتين الى أرض الروم بشأن تلك المفاوضات .

كانت سياسة الامير الكبير عندما أصبح رئيسا للوزراء والحاكم الفعلى لايران تقوم على القضاء على النفوذ الذى كان يتمتع به رجال البلاط، كما عمل على قطع المخصصات الضخمة التى كانت تدخل الى جيوب الحاشية ورجال البلاط وأعادها الى خزانة الدولة الخاوية ، كما كان مهتما بالقضاء على نظام الادارة المركزية والحد من تركيز كل شىء فى طهران ، فقد كانت العاصمة تستأثر بكل شىء حينما تكاد بقية المدن تفتقد كل شىء ، كذلك عمل على موازنة واردات الدولة ومخارجها لمعالجة الميزانية العامة التى كانت تشكو عجزا دائما ،

وحرص على تكوين جيش ايرانى مدرب منظم ، والقضاء على نفوذ ملوك الطوائف وسلطة رؤساء العشائر ، ونشر الثقافة الحديثة والاقتباس من آخر ما توصلت اليه أوربا فى المعرفة . هكذا كانت سياسة الامير الداخلية .

أما سياسته الخارجية فكانت ترتكز على الأسس الآتية :

١ - ابرام اتفاقيات صداقة تقوم على الاحترام المتبادل بين ايران والدول الاجنبية .

٢ - ازالة القيود التى كانت تكبل ايران بسبب المعاهدات الغاشمة الظالمة التى فرضت عليها فرضا تحت ضغط ظروف لم يكن فى وسع ايران أن تقاومها .

٣ - اعادة النظر فى وضع السفارات الايرانية فى الخارج حتى تتمكن من اداء رسالتها على خير وجه .

٤ - القضاء على كل أشكال التدخل الاجنبى والجاسوسية والعمالة للأجانب فى ايران .

وقد أراد الامير الكبير أن يستغل ثقة الملك الشاب ناصر الدين شاه ، فيه ، معتمدا على الله ثم على عزيمته التى لا تعرف الكلل لتنفيذ سياسته الداخلية والخارجية .

وبعد موافقة ناصر الدين شاه بدأ الامير فى تنفيذ مخططه السياسى المرسوم بدقة وعناية ، فعمل على انهاء تمرد حاكم خراسان السالار ، وقضى على حركة أنصار علي محمد البابى ( البهائية فيما بعد ) وأخمد ثورة قبائل النجتيارى فى جنوب ايران تلك الثورة التى كانت تغذيها الاطماع البريطانية .

قمع تمرد حاكم خراسان :      رأينا كيف ان حمزة ميرزا حشمة الدولة قائد القوات الايرانية لم يستطع القضاء على تمرد السالار فى خراسان بسبب موت محمد شاه القاجارى وعودته الى طهران ليعين فيما

بعد حاكما لأذربيجان . بعد فشل حمزة ميرزا فى القضاء على تمرد السالار ، أراد الامير الكبير أن يعين رجلا آخر للقضاء على السالار بأسرع ما يمكن ، فعين سلطان مراد ميرزا الملقب بحسام الدولة عم ناصر الدين شاه وأرسله الى خراسان .

أراد الأمير أن يفجأ السالار بضربة قاضية ، لذلك لجأ الى المكيدة والخداع فأرسل أحد خاصته المقربين ويدعى جراغ علي خان كلهر ، وحمله رسالة الى السالار يدعوه فيها الى الصلح ويمنيه الامانى ان هو عاد الى ولاء القاجاريين ، بينما أرسل رسالة أخرى الى كبار علماء مشهد يطلب منهم فيها تأييد ناصر الدين شاه والوقوف الى جانبه كملك شرعى للبلاد ، ونجحت حيلة الامير فى الايقاع بالسالار ، فبينما كان يفكر فيما جاء فى رسالة الامير ويقدم رجلا ويؤخر أخرى باغتت القوات المركزية مدينة مشهد وألقي القبض على السالار ، فأمر ناصر الدين شاه به وبابنه الامير أصلان خان ، فقتلا فى جمادى الآخرة سنة ١٢٦٥ ه ، وعين حسام السلطنة قائد القوات المركزية التى قضت على تمرد السالار حاكما عاما لخراسان .

الاصلاحات التى قام بها الامير الكبير :      كان الوضع الاجتماعى فى ايران فى عهد ناصر الدين شاه القاجارى مهيأ للتأثر بالحياة الاجتماعية السائدة فى الامم المجاورة لايران . فقد أصبحت بعض أجزاء ايران الشمالية تابعة لروسيا ، وكان النفوذ البريطانى فى الجنوب يلون الحياة الاجتماعية بلونه ، ومن تحصيل الحاصل القول بأن الحضارة الاوربية والروسية قد تركتا أثرا بل آثارا فى الحياة الايرانية ،

فقد بدأ الناس فى ايران يسافرون الى روسيا وأوربا للتحصيل والاستشفاء والسياحة ، وأخذت الوفود والبعثات المختلفة من الشرق والغرب تفد الى ايران ، كل هذا جعل الشعب الايرانى فى هذا العهد على استعداد لقبول بعض العادات والتقاليد والسنن والآداب الاجتماعية الوافدة عليه ، ولكن هذا العهد ككل العهود يحتاج فى كل أمة الى رواد يتمتعون بمعرفة الصالح من الطالح الى جانب الجرأة لتهيئة مجتمعاتهم لتقبل النظم وأنماط الحياة الجديدة عليهم . ورغم ان ناصر الدين شاه القاجارى كان من المعجبين بالحضارة الاوربية ، وقد أخذ ببعض أسبابهما فى حياته الداخلية ، وكان يحبذ ادخال بعض تلك النظم فى الحياة العسكرية والمدنية فى بلاده ، ولكنه لم يكن أو لم يرد التصريح بميله هذا ، فقد كان يرى ان الاحتفاظ بالوضع القائم فى بلاده يحقق له الكثير الذى ربما فقده لو سعى الى تغييره .

اذن كان لا بد من رجل كالامير الكبير على درجة كبيرة من الفهم والادراك والجرأة ليدخل بعض تلك النظم الجديدة ويطعم بها مختلف نواحى الحياة فى ايران .

١ - اصلاح الوضع المالى :       ورث الامير الكبير من سلفه الحاج ميرزا آقاسى رئيس وزراء ايران فى عهد محمد شاه تركة مالية مضطربة . فقد كان الآقاسى كما رأينا يبعث أموال الدولة على قاصديه بتحويلهم على حكام الولايات الايرانية المختلفة ليحمد بما لا يفعل ، كذلك فان الهرج والمرج اللذين أعقبا وفاة محمد شاه وانفاق المبالغ الضخمة فى تهيئة الجيوش التى قامت

بقمع أنواع التمرد المختلفة ، كل ذلك جعل الامير يواجه خزانة مفلسفة عاجزة ، فقد كانت الميزانية تعانى عجزا قدره مليون تومان نتيجة تأخر حكام الولايات عن تسديد الضرائب الى الخزانة خلال الاشهر التى عاشتها ايران منذ وفاة محمد شاه الى جلوس ابنه ناصر الدين شاه على العرش. ولكي يضمن الامير استيفاء الضرائب المستحقة المتأخرة لدى حكام النواحى ، اضطر الى ارسال قوات عسكرية لتقوم بدور جباة الضرائب .

ولكى يصلح الوضع المالى اضطر الى الغاء المخصصات الشهرية والسنوية التى كان يتقاضاها رجال البلاط القاجارى ، وجعل التقشف أحد المبادىء الرئيسية التى يجب على الدولة أن تسير عليها فى الناحية المالية . وخفض حتى تلك المبالغ التى كانت تصرف على الملك وقصوره ، وبذلك استطاع أن يعيد التعادل بين موارد الدولة ومخارجها فى أقرب وقت . وكان ثمن هذا الاصلاح المالى من جانب الامير الحازم عداوة الاسرة القاجارية المالكة له  وعلى رأسها مهد عليا أم ناصر الدين شاه .

٢ - اصلاح الأوضاع العسكرية :     نظرا لأن الامير كان أحد كبار العاملين فى القوات الايرانية المسلحة تحت قيادة الامير عباس ميرزا . وقد صار سكرتيرا لوزير الحربية الايرانية الميرزا محمد خان زنكنه . واشترك فى الجلسات العسكرية التى كانت تعقدها البعثات العسكرية المختلفة أوربية وروسية مع القيادة العليا للقوات الايرانية . فقد اكتسب خبرة فى

الشؤون العسكرية قلما تتوافر لسواه ، وعندما آلت اليه مقاليد الامور فزع الى تلك الخبرة لتعينه على خلق الجندى الايرانى المثالى ، وكانت اصلاحاته فى المجال العسكرى تتلخص فى النقط الآتية :

١ - أنشأ مصانع للذخيرة الحربية فى مختلف أنحاء ايران .

٢ - وحد الزي العسكرى للجيش الايرانى ، وقد اختار زي القوات النمساوية، على أن يكون القماش الذى تتخذ منه البزات العسكرية من المنتجات الوطنية .

٣ - عين رواتب شهرية للضباط والجنود بدلا من المبالغ الغير منظمة التى كان يتقاضاها أفراد القوات فى الماضى تلك الأعطيات التى كانت أشبه ما تكون بالحسنة والصدقة منها بالمشاهرة وهو ما يخالف شرف وكرامة الجندية فى نظر الامير .

٤ - عمل على رفع الروح المعنوية للجنود ، وافهامهم مهمة الجندى وشرف الجندية ومنعهم من التعرض للناس بالنهب والسلب وظلم العامة .

٥ - أمر بتأليف لجنة للتأليف والترجمة ونشر الكتب المتعلقة بالنظم العسكرية فى كل أنحاء العالم ليكون فى اطلاع الجنود عليها رفعا لمستواهم الحربى والثقافى ومعرفتهم بأحدث النظم العسكرية المتبعة فى الدول الاخرى فى المجال العسكرى .

٦ - أمر بتقوية الاستحكامات الدفاعية فى العاصمة وكل الولايات ، وخاصة فى المناطق الاستراتيجية فى الحدود المشتركة بين ايران والدول المجاورة بصورة خاصة .

اشترك في نشرتنا البريدية