1 - تقديم :
يهدف هذا البحث الى المساهمة فى ضبط طبيعة التشكيلة الاجتماعية - الاقتصادية ( 1 ) المغربية خلال القرون السابقة للعدوان الاستعماري الذي امتد بداية من اوائل القرن التاسع عشر .
ان اهمية المسألة لا تحتاج الى بيان ذلك انه لا يمكن فهم الظاهرة الحالية لانتقال الاطراف (2) نحو الراسمالية دون بلورة الافكار المتعلقة ببني ( 3) التشكيلية ما قبل الرأسمالية ابان ادماجها الاممي . هذا وتجدر الاشارة الى ان الدراسات المرتبة الخاصة بهاته الجهة قليلة ان لم تكن معدومة علاوة عل كون المسألة لا تبدو قريبة من الفصل حاليا.
ولن نغفل عن التعرض ، ولو بايجاز الى مختلف ما وقع التعبير عنه من اقوال فى الموضوع.
ويفضى تحليل التشكيلات الاجتماعية الذي يتمثل فى فض مشكلات خلق فائض (4) تلك التشكيلة وتداوله الى القاء السؤالين الاتبين :
- من يسند وسائل الانتاج والمنتوج ؟ - كيف يقع هذا الاسناد ؟
والجواب عن هذين السؤالين بخصوص مجتمع ما يبرز علاقات الانتاج وبالتالى انماط هذا الاخير مما يسمح بتعريف طبقات ومجموعات ذلك المجتمع . لكن ذلك لا يكفي لتخصيص البنى الاجتماعية اذ لا بد من الاهتداء الى نمط الانتاج المهيمن وارتباط بقية الانماط به . كما ان تدقيق العلائق الموجودة بين البناء التحتي ( المحفل الاقتصادى ( ) 5 ) والبناء الفوقي ( المحفل السياسي - المذهبى ) ضرورة لاستحالة قصر المجتمع على بنائه التحتى اى على قاعدته المادية .
بيد انه لا يجب ان يغيب عن الناظر ان القاعدة المادية تحدد فى نهاية المطاف أوجه الحياة الاجتماعية الاخرى وبخاصة تقدم الحضارة حسبما يكيفه حجم الفائض النسبي ، وهو ما يدفع الدارس الى بذل عناية خاصة قصد تحديد مستوى نماء القوى الانتاجية ( 6 ) فى ذلك المجتمع .
2 - الاختلافات الراهنة فى النظر
ذهب عدة مؤلفين من ذوى التكوين الاكاديمي ( 7 ) الى الحديث عن الاقطاعية بخصوص العالم الاسلامي في العصر الوسيط ولا يعتمد هذا المذهب الماركسى لنمط الانتاج وانما سببه بعض من المجانسات الظاهرية المتعلقة بالبناء الفوقى مع العصر الوسيط الاوربى . ولا يختلف عن هذا الراي " مختصر الاقتصاد السياسي " ( 8 ) الذي يعرف الطقوس الماركسيه الستالينية فى الاتحاد السوفياتي وفي البلدان التى اتبعت القيادة السوفياتية اذ تراه يرجع العالم الاسلامي الكلاسيكى بوضوح الى نمط
الانتاج الاقطاعى ولو مع اقرار بعض الخصوصيات ، ومنشأ وجهة النظر هذه الاطروحة القائلة بان القنية (9) هو نمط الانتاج الاساسى الذي يخلف العبودية ( 10 ) ويسبق الرأسمالية وجوبا . ولا يخفى ابتعاد هذا الفهم عن الجدلية لانبثاقه من نظرة للتطور افرطت في اضفاء الصبغة الخطية والميكانية عليه ومخالفته لوقائع التاريخ
وحاول عدد من المفكرين الماركسيين الاقتراب من الواقع ومن الفكر الماركسى ذاته باحلال " نمط الانتاج الآسيوى " الوارد عند ماركس في شتى المناسبات والمتصل بالمجموعات القروية الهندية محل " الاقطاعية الشرقية" والسؤال المطروح هو :
هل فى الامكان الحديث عن " تشكيلة اجتماعية - اقتصادية اسيوية " لتخصيص العالم الاسلامى ؟
ان بعض كتابات ماركس تبدو وكأنها تفضى لهذا المفهوم الذى حاول ابرازه غودلييه لكن ماكسيم رودنسن يخالف هذا الرأى ( 11 ) فهو وان اقر امكانية الكشف عن نظم انتاج من جنس مجموعات المساواة الانعزالية الفلاحية الهندية يقترح تسميتها " بنمط انتاج المجموعات البدائية " الا انه يرى ان تشكيلة يتمثل كنهها فى احتجاز جزء من فائض الانتاج " فى هاته المجموعات من قبل مجموعة عليا " هي الدولة التى تتولى في مقابل ذلك تأمين اسباب معلومة للانتاج ( اشغال كبرى ، دفاع ) انما هي تصور يكاد لا يفيد التخصيص لانتمائه الى فصيلة التعميمات المفرطة فى الشمول
ويذهب رودنسن الى حد استحالة تعيين نمط الانتاج المهيمن في التشكيلات الاجتماعية اذا ما استثنينا من هاته الاخيرة التى تسيطر فيها انماط العبودية والاقطاعية والراسمالية
ومحصل القول عندئذ ان لاوجود لتشكيلات اجتماعية مستقرة فيما عدا مواطن العبودية والاقطاعية والرأسمالية اى فيما عدا اوربا واليابان . اما
النظام الاقتصادى الذى انبنى عليه المجتمع الاسلامى فى العصر الوسيط فقد "تغير تبعا لللازمنة والامكنة " بحسب الجهات وبحسب الارياف والمدن ويبدو هذا الموقف قليل الجدلية لتقاعسه عن تفسير تلك الفروق الجغرافية والفروق فى التطور الزمنى
ومهما يكن من امر فان العديد من المؤلفين مثل ايف لاكوست يرون ان نمط الانتاج الاسبوى ذا الطابع الخراجى ( 12 ) كان حسب كل احتمال النمط المهيمن في كل انحاء العالم تقريبا فيما عدا اوربا واليابان . غير ان اخرين مع عدم القدح بصفة اساسية فى وجهة النظر هذه لم يستصيغوا التسمية وفضلوا كسمير امين عن "تشكيلات شرقية وافريقية " مع اضفاء محتوى عام للعبارة لهذا الصنف كما يتبادر للناظر
3 - الاطار الفضائى والزمنى :
يتعين قبل التوغل في الموضوع الاجابة بادىء ذى بدء عن السؤال التالي : هل يجوز الحديث عن "تشكيلة اجتماعية مغربية فى عهد ما قبل الاستعمار " ؟ وان كان الرد بالايجاب ففي اية حقبة من حقب التاريخ ؟
تجدر الاشارة اولا الى ان الحدود السياسية الراهنة حديثة نسبيا وهي لا لا تمت على كل حال الى اى تميز اجتماعى - اقتصادى اساسى سواء اكان ذلك متعلقا بالاراضى الخاضعة للاتراك العثمانيين ( طرابلس ، تونس ، قسنطينة ، الجزائر ) او للعلوبين حيث تغلب فيها على اختلاف الاجناس نفس البني الاجتماعية الاصلية المقامة على القبيلة وما تمثله فى اذهان اعضائها من عصبية فى حدود القرابة الدموية .
كما ان الوسائل الفنية هي عينها وكذلك الامر بالنسبة لطرق الزراعة ولانظمة الاستغلال ولتنظيم الحرف . فيؤول بنا القول عندئذ الى تلك الوحدة العميقة للمجتمع المغربي الممتد جغرافيا على اراضى دول ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا الحالية . ليست هاته الوحدة ظاهرة حديثة العهد فالمجتمع المغربي عموما كما قال مصطفى كريم " مقام على بنى دائمة
اكل عليها الدهر وشرب " ( 13 ) الا اننا سنترك فترة ما قبل الاسلام جانبا لسببين على الاقل وهما : الدور الاساسى الذى لعبه نمط الانتاج العبودى فى كنف الامبراطورية الرومانية والتجديد الاسلامى لمذهب المجتمع
وسيكون ما سنتقدم به صالحا وقتئذ للقرون التى تلت تمكن الفتح الاسلامى مع اعتنائنا بشكل اخص بالفترة الموالية للمد الهلالى فى القرن الحادى عشر للمسيح ونريد الاشارة فى هذا الصدد الى اننا نشاطر تماما اطروحة لاكوست القائلة بان " الغزو العربي " مجرد وهم اختلق للدلالة على هجرة بني هلال وبني سليم واندماجهم في المجتمع المغربي فالقبائل العربية لا تختلف اختلافا جذريا عن مثيلاتها الرحل البربرية
وبالرغم من التخريب الحاصل منها فان قدومها يمكن اعتباره حسب كل احتمال بمثابة غنم بشرى ذى بال بالنظر الى حالة نمو القوى الانتاجية وقتئذ
ولا تفوتنا الملاحظة بان المؤلف لم يكتسب تكوين المؤرخين وانما ديدنه ببساطة انتهاج المادية الجدلية التى تبدو له اكثر المناهج اعانة على ادراك بنى المجتمع الحالى وحركيته وهو فى ذلك سيحاول استغلال مصدر مباشر تركه لنا احد من أشد المعاصرين نفوذا الى اللب الا وهو عبد الرحمان ابن خلدون .
ان قيمة الاسهام الخلدونى لا تحتاج الى دليل حتى ان سمير امين ذهب الى القول بان الكثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع العرب المعاصرين لهم ان يحسدوا ابن خلدون على ما بلغه تحليله لطبيعة التشكيلات الاجتماعية المغربية فى العصر الوسيط من ذكاء ودقة . وابرز ايف لاكوست من ناحيتة العديد من التحاليل ذات الطابع المادي الجدلى عند ابن خلدون . ويديهى انه يتعذر على ابن خلدون ان يكون ماديا جدليا فى عصره لكن تحاليل لحقائق زمانه كانت ثاقبة لدرجة انه فى الامكان القيام بقراءة مادية جدلية لاثاره وبخاصة المقدمة دونما تحريف لفكر المؤلف
4 - ملكية الارض :
نبقى الارض فيما عدا الارباح التجارية المصدر الرئيسى للفائض فى كل انماط الانتاج ما قيل الرأسمالية وبالتالى ما قبل الصناعية لذلك فمن الضرورى تحديد علاقة ملكية الارض التى تخص النظام الاقتصادى
الارض في الشريعة القرآنية ارض الله فى المقام الاول وارض الامة الاسلامية فى المقام الثانى وامير المؤمنين بصفته رئيسا لهاته الامة يمارس تبعا لذلك حق الملكية الاسمى على كل ارض فى بلاد الاسلام كما اتت الشريعة بمبدا آخر يرجع الارض لمن يحييها
وبديهى ان هذا الاحياء رهين الظروف الايكولوجية ووسائل الانتاج غير الارض وحوالة الامور السياسية والعسكرية الخ.... فرى الاراضى بواسطة المياه النهرية أو العيون الارتوازية يفضى الى احياء اعمر من اراضى الحبوب والسباسب نصف القاحلة فتكون حقوق الاستغلال فى الحالة الاولى اوسع مما هي فى الحالة الثانية
ومهما يكن من أمر فحتى ملكية الاراضى في مناطق الرى أو حول المدن تكسب حقوقا لا يجوز اعتبارها قرينة حقوق الخرقة المنجرة عن الملكية فى التشريع الروماني اضف الى ذلك ان مناطق الملكية الفردية محدودة جغرافيا وليست لها الا مكانة هامشية .
فما هى اكثر انماط تملك الارض شيوعا ؟ فى الامكان حصرها فى ثلاث :
1 ) أراضي الامير ( او السلطان) عادة ما يتولى مباشرتها خماسون وهم الذين يتلقون من الدولة ادوات لزرع وبذوره وينركون لها اربعة اخماس المحصول بحيث لا يحتفظون الا بالضرورى من القوت عموما ( وهو الخمس ) وتحمل القبائل المجاورة بشكل نادر على السخرة والنتيجة ان الدولة هى التى تسند وسائل الانتاج وتتصرف فى كلية المنتوج الصافى او جله فى الاقل
ب ) اراضى الاقطاع : يمكن للامير بوصفه المالك السامى للارض كما تقدم ان يقطع اراضى الى كبار دولته فيزرعونها بواسطة فلاحين يستزبنونهم :
الى لزامين افراد مقابل عائدات فى شكل بضاعة فى عموم الحالات .
او الى قبائل تقبل تقديم شواهد الولاء للامير ومده بالعسكر وفى مقابل ذلك تطالب باداء جزء من المنتوج اخف مما تدفعه بقية القبائل .
وقد تنحصر هاته الاقطاعات على حق استخلاص الجباية لحساب الدولة مع مقابل بطبيعة الحال ويفقد المالك الاسمى فى اراضى الاقطاع ممارسة حق اسناد وسائل الانتاج والمنتوج لكنه بحكم عين ذلك الحق يحافظ على حقه بصفة تضعف حول المالكين الفعليين عند اسناد وسائل الانتاج اذ تتعذر احالتها مثلا .
وذهب بعض المؤلفين كبونسييه الى اعتبار هاته العلاقات من صنف علائق لانتاج الاقطاعية ولا بد من الاشارة فى هذا الصدد الى ان اطلاق كلمة اقطاعى على نمط الانتاج المعروف يعود الى مثل ما ذهب اليه بونسيه فى حين ان نفس هؤلاء المؤلفين يعترفون بكون هاته الاقطاعات شخصية ( فيما عدا القبائل ) ومعرضة للزوال والالغاء وتستدعى التجديد كلما تولى امير جديد فحقوق المنتفعين بالاقطاع تختلف عن حقوق المالك الخاص زيادة على حد حقوق المنتصبين لها . لذلك فليس من الصحيح التكلم عن علائق اقطاعية بالمعنى العصرى المتعارف للكلمة حتى مع اعتبار ظهور نزعات الى الاقطاعية ( فى معناها المتعارف ) فى فترات الوهن الواضح للحكم المركزي ولا يمنع ذلك كما سنرى اسناد وسائل الانتاج والمنتوج فى الحدود الت اسلفنا
ج ) الاراضى القبلية او القروية : يمكن ان نعرف القبيلة على غرار تعريف نوشى ( 14 ) " يشعر اعضاء القبيله بأنفسهم مشدودين الى بعضهم بعضا ذلك ان لهم ترابا معينا يشتركون فيه ويتولون القيام بانشطتهم داخلة من مرعى ومن فلح متجول
او ثابت ومن اعشاب دون تخطى حدود ذلك التراب اللهم عند الغزوات والحروب وما شاكلها من الاسباب الملحة "
واذ تمارس ملكية الارض بحسب الوسط الايكولوجى فانه من الجائز على وجه العموم اعتبار الملكية جماعية على مستوى اسناد وسائل الانتاج وعائلية على مستوى اسناد المنتوج . وليست هناك ملكية خاصة بتاتا لعدم حرمان العمال من وسائل الانتاج الا فيما ندر
وهكذا يكون التنظيم جماعيا انعزاليا او يكاد محتويا على الاغلبية الساحقة من السكان . قال ابن خلدون ( ص 643 ) :
ان المدن والامصار بافريقية والمغرب قليلة والسبب فى ذلك ان هذه الاقطار كانت للبربر منذ آلاف السنين قبل الاسلام وكان عمرانها كل بدويا ، ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل احوالها ، والدول التى ملكتهم من الافرنجة والعرب لم يظل امد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها ، فلم تزل عوائد البداوة وشؤونها فكانوا اليها اقرب فلم تكثر مبانيهم وأيضا فالصنائع بعيدة عن البربر لانهم اعرق فى البدو والصنائع من توابع الحضارة . وانما تتم المبانى بها فلا بد من الحذق فى تعلمها . فلما لم يكن للبربر انتحال لها ، لم يكن لهم تشوق الى المبانى فضلا عن المدن وايضا فهم اهل عصبيات وانساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم ، والانساب والعصبية اجنح الى البدو وانما يدعو الى المدن الدعة والسكون ويصير ساكنها عيالا على حاميتها . فتجد اهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة او الاقامة بها ، ولا يدعو الى ذلك الا الترف والغنى وقليل ما هو فى الناس فلذلك كان عمران افريقية والمغرب كله او اكثره بدويا واهل خيام وظواعن وقياطن " .
_ يتبع _
