الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "المنهل"

ابن خلدون

Share

تؤهله للقيام بهذه المهنة وتساعده عــــلى احتراف هذ الصناعة .

لقد انتهى ابن خلدون الى جملة توجيهات يمكن أن تنقسم الى قسمين :

النوع الاول : ما يجب تطبيقه :

١ - التدرج من السهل الى الصعب .

٢ - معرفة المعلم بمراحل نمو العقـــل البشرى .

٣ - الرحلة في طلب العلم .

النوع الثانى : ما يجب عدمه والابتعــاد عنــــه :

١ - عدم الخلط بين علمين .

٢ - عدم الاختصار والحفظ والتطويل . ٣ - عدم استخدام الشدة على المتعلمين .

٤ - عدم الاقتراب من السياسة .

ان ابن خلدون ، بهذه الآراء التربويــــة العظيمة يبدع كابداعه في دراســـة الظواهر الاجتماعية .

ان ابن خلدون فيلسوف اجتماعى وضع أسس علم الاجتماع ( علم العمران والاجتماع الانسانى ) . وموجه تربوى مــــــن الطراز الاول ( ٣ )

يصف الباحث الانــــــكليزى روبرت فيلنت  Fiint  النظريات الاقتصادية الت قال بها مونتسكو             Montesquieu في روح القوانين .         L' esprit des Lois بأنها بعيدة عن الصواب ومملوءة بالاغلاط ، ثم يردف قائلا : ومع كل هذا ، لا يمكن لأى منصف كان أن يمتنع عن التسليم لمونتسكيو بهذا الشرف العظيم : انه كان أول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ . وأول من أشرك هذين العلمين فى أمر تفسير المحادثــــــات الاجتماعية وتحليلها .

ويعقب هنا الاستاذ أبو خلدون ساطـــع الحصرى ( ٤ ) حيث يقول :

(( اننى لا أشك في أن روبرت فيلنت كتب ما كتبه ، في هذا الصدد ، قبل أن يطلـــــــع على مقدمة ابن خلدون ولولا ذلك لما ســوغ فى مقدمه ابن حندون ولو د ذات سون لنفسه أن يقول : (( ان مونتسكيو ، كان أول من أدخل عنصر الاقتصاد في التاريخ ، وأول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ ، لأن ابن خلدون كان قد فعل ذلك قبل مونتسكيــــو بمدة تناهز أربعة قرون ( ٥ )

أن اهتمام ابن خلدون بعنصر الاقتصـــاد في تعليل الوقائع التاريخية ، يظهر للعيان أولا من عنوان الكتاب الاول نفسه مـــــن المقدمة : (( الكسب والمعاش والصنائـــــــع )) تحتل منزلة خطيرة وصريحة في هذا العنوان :

(( الكتاب الاول - في طبيعة العمــــران في الخليقة ، وما يعرض لها في البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع ونحوها وما لذلك من العلل والاسباب ( ٦ ) ويبـــــدأ هذا الكتاب بالقول :

(( أعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ نفسه خير من الكفاح الانسانى الذى هو عمــــران العالم ، وما يعرض لطبيعة العمران مــــن الاحوال . . وما ينتحله البشر بأعمالهـــــم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعـــــــــلوم والصنائع . . ))

لقد خصص ابن خلدون بابا كبيرا مـــــــن أبواب المقدمة الستة لأمور المعاش ( وهــو الباب الخامس بفصوله الثلاثة والثلاثين ( ٧ ) كما خصص عددا غير قليل من فصول الابواب الأخرى ( ولا سيما الثالث والرابع ) أيضا لمسائل الاقتصاد .

ومن غريب الاتفاق ، أن مسائل الجباية والتجارة والنقود والنفوس - التى تكـــــــون القسم الاقتصادى من روح القوانين - قـــد اشتملت عليها أبحاث وفصول هامة في مقدمة ابن خلدون أيضا .

وزيادة ، على كل ذلك ، فقد عالجت مقدمة ابن خلدون في فصولها ، المختلفة ، عــــدة مسائل اقتصادية اجتماعية أخرى ، مثــــــل مستوى المعيشة ، وأسعار الاشياء وعلاقــة العمران بوسائل المعيشة .

وفي جميع هذه الفصول والأبحاث يظهــر ابن خلدون العلائق القويــــــــة التى تربط

الاحوال الاجتماعية بالحياة الاقتصاديــة ويعبر عن هذا الارتباط بأصرح العبارات

يبدأ الفصل الاول من الباب الثــــــــانى بتقرير المبدأ التالى ( ٨ ) : (( اعلم أن اختلاف الاجيال في أموالهم انما هو باختلاف نحلتهم من المعاش فان اجتماعهم انما هو للتعـــاون على تحصيله )) ( ٩ )

يشرح ابن خلدون هذه القضية الاساسية ويبرهن عليها في فصول عديدة ، كما أنـــه يقرر أهمية العوامل الاقتصادية في تطويــر الدول واستفحال الحضارة أيضا ، بعبــــارة صريحة جدا ( ١٠ ) حيث يعطى للمال قـــوة تساعد على استمرار الدول ، ثم يسترسل ابن خلدون في ابراز جوانب الاقتصاد وأثره في حدوث الهرم للدول نتيجة الترف الــــذى يؤدى الى زيادة نفقات الناس ، حينئذ ( لا يفى دخلهم بخرجهم ، نفقاتهم ، فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ) ( ١١ )

ان هذه الاحوال الاقتصادية تؤثـــــر في في الاخلاق ، أيضا ، لان استفحال الحضارة والترف يقترن بوجه عام بارتفاع أسعــــار

الحاجيات ، وهذا الارتفاع يزيد من مشاكل المعيشة ، وتلك المشاكل تؤدى الى انحطاط الاخلاق :

(( ان المصر الكثير السكان ، يختص بالغلاء ارتفاع مستوى الاسعار ، في أسواقه وأسعار حاجاته ثم تزيدها المكوس ، الضرائـــــــب والرسوم ، غلاء . . فتعظم نفقات أهـــــل الحضارة ويخرج عن القصد الى الاسراف . . وتذهب مكاسبهم ، دخولهم ، كلهــــــــا في النفقات ( ١٢ ) ويتتابعون في الاملاق ( ١٣ )

ان مقدمة ابن خلدون مملوءة ، بمثــــــل هذه الأراء والملاحظات التى تقرر علاقــــة الاقتصاديات بطبائع الامم وأطوار الدول .    لذلك يعود الاستاذ أبو خلدون ساطــع الحصرى الى القول بأنه يعتقد اعتقادا جازما بأن القول (( بشرف ادخال عنصر الاقتصاد في علم التاريخ يعود الى مونتسكيو ، ها هو الا افتئات صريح على الحقيقة والواقع ، ويجزم بلا تردد بأن هذا الشرف يعود إلى ابن خلدون الذى سبق مونتسكيو في هذا المضمار مدة تناهز أربعة قرون )) ( ١٤ )

ان ابن خلدون لا يمتاز على مونتسكيو - في هذه القضية - من جراء سبقه الى فهــــم ( علاقة التاريخ بالاقتصاد ) سبقا زمانيا ، فحسب ، بل انه يمتاز عليه في عمق التفكير ودقة النظر في هذا المضمار الى حدود لـــــم يصل اليها مونتسكيو أبدا .

ان آراء ابن خلدون بهذا الصدد آراء ذات أسس مستقلة بعيدة عن غيرها خلافا لما ذهب اليه بعضهم من أنها تقربه كثيرا من مبادئ المذهب الاقتصادى الاجتماعى الحديث والذى عرف فيما بعد باسم (( المادية )) التاريخيـــة                          Matèrialisme Historique

منذ عهـــــــد كارل ماركس    Karl Marx ( ١٨١٨-١٨٨٣ ( ) ١٥ ( في النصف الثانى من القرن التاسع عشر

ان مقارنة ( روح القوانين ) لمنتســـــــكيو بـــ (( مقدمة )) ابن خلدون ، من وجهة المباحث الاقتصادية تبرهن على ذلك برهنة قطعية . يضاف إلى ذلك أن مقدمة ابن خلدون تفوق روح القوانين من وجهة السمو فوق مستوى العصر (( الذى عاش فيه كل منهما )) وان كفة المقدمة ترجح رجحانا كبيرا عــــلى روح القوانين لمونتسكيو .

واذا كانت المقارنة بين الكتابين ، مـــــن حيث نوع المسائل الاقتصادية التى اشتركا في بحثهما فاننا نتوصل بكل تأكيد واصرار الى أن مقدمة ابن خلدون قد قدمت لنا درسا في المحادثات الاجتماعية مفصلة ودقيقة كمن يدرس مرضا من الامراض فيبحث عن أسباب تولده وبسررد التحويلات التى تطرأ عــــــلى البدن من جرائه ويتتبع أعراض المرض وسيره وأدواره ، ويفعل كل ذلك بنظر شامــــــــل مدقق ومتعمق .

ان أقباسا من مقدمة ابن خلدون لتطغى على أفكار مونتسكيو بل تتعداها باعتــــراف كل باحث منصف ، بحيث تجعلــــه ينحنى احتراما واحلالا لعبقرية ابن خلدون الــــذى سما على عبقرية مونتسكيو في المسائـــــل والابحاث الاقتصادية وعلى الرغم من قــــدم العصر الذى عاش فيه ، بل وعلى الرغم من

انحطاط البيئة العربية التى نشأ فيها ابن خلدون ( ١٦ )

اذن ، كان ابن خلدون أول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ ، وأول عن أشرك هذين العلمين فى أمر تفســــــير الحادثـــــات الاجتماعية ، لا كما اعتقد روبرت فيلنت .

ان ابن خلدون ، بالإضافة الى ذلــــك ، يعتبر أول من حاول كشف البواعث والعوامل ذات الطابع الاقتصادى التى يخضع لهـــــا السلوك الاقتصادى للافراد والجماعات ( ١٧ )

لقد اعترف الدكتور محمد لبيب شقـــير بفضل ابن خلدون في الجوانب الاقتصاديـــة فقد وضع ابن خلدون الحياة الاقتصاديــــــة في اطار العمل والصنائع وحدد هذه الصنائع متمثلة في الفلاحة والزرع وتربية الحيوان ، وفي الصناعة لأجل الارتزاق كالحياكـــــة والخياطة والتجارة وفي الصناعة الفكريـــة المتمثلة بعمل الوراقين والغناء وتلحين الاشعار وصناعة الشعر وتعليم العلم والصناعــــــــات التى تخص السياسة كالجند ثم في التجارة .

ان أفكار ابن خلدون سابقة لجميـــــــع المدارس الاقتصادية التى وجدت بعده بعدة قرون :

١ - المذهب التجارى :

يعتمد التجارة بالسعي للحصول عـــلى فائض في ميزان المدفوعات وهو وسيـــــــلة التجارة والنشاط الاقتصادى .

ان أفضل سياسة يسير عليها الشعــب لا تختلف عما ينتجه التاجر الفردى الــذى يسعى الى أن يزيد ثمن مبيعاته عن ثمـــن مشترياته ، وبذلك يتمكن من تكوين ثـــروة المؤسسة التى يملكها ( ١٨ )  

٢ - المذهب الطبيعى :

يعتمد الزراعة وحدها كعمل منتج وأمــا غيرها من الاعمال فهى أعمال عقيمة .

٣ - المذهب الرأسمالى :

يعتقد أن عناصر الانتاج هى الطبيعــــة والعمل ورأس المال ولكن العمل في رأيهــم هو العنصر الرئيسى الذى يحتل المـــــــكان الاساسى بين تلك العناصر .

ان ابن خلدون لم يعتمد أن العمل الناتج من التجارة وحده هو الاساس في المعاش ، كما يرى أصحاب المذهب التجارى ، بل أنه لم يثق بالزراعة - كالطبيعيين - حيـــــــث خصوها بالعمل المنتج . . انه يعطى للزراعــة أهمية ويعتبرها أول عمل قام به الانســان ولكنه يضع التجارة مع الصناعة والزراعــة لتكون كلها الجانب الاقتصادى للمعــــــاش والحيـــــــاة .

واذا كان الرأسماليون قد اعتقدوا أن الدور الفعال للعمل في جميع أوجه الحياة : صناعية وتجارية زراعى ، فاننــــــــــا نجد أن ابـــــــــــن خلدون قد سبقهم في هذا الاعتقاد منذ أربعة قرون ( ١٩ )

لقد أمكن ابراز ما يلى من جوانب اقتصادية عالية كأقباس من مقدمته الرائعة في هـــــذا المجال وهي :

١ - تقسم السلع الى ضرورية وكمالية

يقسم ابن خلدون السلع الضرورية مثل الغذاء ( من الحنطة وما يشبهها ) وكمالية مثل ( الماعون والمراكب ) .

لقد بين ابن خلدون أن طلب هذه السلع يتوقف على درجة العمران والتقدم ، كما بين كذلك نسبية هذا التقسيم ، فالبلد الكثـــير العمران يكثر فيه الترف فتنقلب السلــــــع الكمالية الى سلع ضرورية ( ٢٠ )

ان ما يعتبر من الكماليات بالنسبــــــــــة للسواد الأعظم من الناس قد يصبح مـــــن الضروريات بالنسبة الى بعض الناس ، كما أن ما يعد من الكماليات في بعض المدن ، قد يكون من الضروريات في المدن الأخرى ، لان ازدياد العمران واستفحال الترف يحــــــــول الكماليات الى حاجيات .

(( ان المصر الكثير العمران يكثر ترفــه ، وتكثر حاجيات مساكنه من أجل التــرف ، وتعتاد تلك الحاجات فتنقلب الى ضرورات ، وتصير فيه الاعمال كلها مع ذلك عزيــــزة ، والمرافق عالية ، بازدحام الاغراض عليهــــا من أجل الترف ( ٢١ )

٢ - تقلبات العرض والطلب ومستوى الاسعار

لقد أدرك ابن خلدون جيدا تأثير العرض والطلب وظروفهما المختلفة في تحديد أثمـــان السلع وفي تقلبات تلك الاثمان . ولم يقتصر في دراسة هذه النقطة على بحث أثر الطلب والعرض على ثمن كل سلعة على حدة ، بل بحث كذلك أثر اختلاف الثروة بين البـــــــــلاد المختلفة في كل منها على أنواع السلع المختلفة وفي عرضها ، وأثر كل ذلك على مـــا يسمى اليوم ( بالمستوى العام للاسعار ) وقد فسر بذلك اختلاف أسعار نفس السلع في البلاد المختلفة ، ثم استطرد في بحث أثر اختلاف ثروة البلاد على فروع الانتاج . فالصناعات :

(( انما تستجاد وتكثر اذا كثر طالبها ))

والسبب في ذلك ظاهر وهو أن الانسان لا يسمح بعمله أن يقع مجانا لأنه كسبــــه

ومنه معاشه . . وأن كانت الصناعة مطلوبة وتوجه اليها النفاق كانت حينئذ الصناعـــة بمثابة السلعة التى تنفق سوقها وتجـــــلب للبيع فتجتهد المدينة لتعلم تلك الصناعــــة ليكون منها معاشهم واذا لم تكن الصناعــة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجه قصد الى تعلمها فاختصت بالترك وفقدها للاهمال ( ٢٢ )

لقد ربط ابن خلدون بهذه الصـــــــــورة مسائل العرض والطلب ، بالاحوال الاجتماعية العامة ( ٢٣ ) وبهذا وضع اثر العمران البشرى في الصناعات عامة وفي بعض أنواعها خاصة بحيث تزدهر صناعة بزيادة الطلب عليهــــــا وبالعكس تضمحل صناعة بالترك وتفقـــــــد بالاهمال لا تنصراف الناس عنها الى غيرهــــا من الصناعات .

هذه هي أسس ما يسمى بعلم الاجتماع الصناعى الذى لم يظهر الا في السنــــــوات الاخيرة حالما نجد ابن خلدون سبق الى هذا ومن عدة قرون .

٣ - صلة نفقات الانتاج بجودة الارض

لقد تعرض ابن خلدون لبحث بعض ما يؤثر في نفقة الانتاج للسلع وخاصة الحبوب ومن أدق ما لاحظه في هذا الصدد أن بعض البلاد ، اذا اضطرت الى زراعة أرض غـــــــير خصبة ، فان هذه الارض تحتاج ، على عكس الاراضى الأكثر خصوبة لنفقات خاصة لأنها تحتاج لعلاج : (( بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل - أسمدة - وغيره ، لها مؤونة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروهـــــــــا في سعرهم )) . .

لذلك فثمن السلعة يزيد لأن نفقـــــــــــات انتاجه ارتفعت ويلاحظ أن هذه النفقـــات تزداد كلما زاد العمران لاضطــــــرار الافراد الاتساع في زرع أراضى أقل جودة وخصبا وهــــــــكذا .

٤ - ظاهرة الريع

لاحظ ابن خلدون أنه عند وجود دولـــــة ضعيفة ومحدودة النشاط الاقتصادى ، تكون العقارات رخيصة الثمن ، ثم عندما تقـــوى الدولة ويزداد نشاطها الاقتصادى فتنتظم للبلــــــد :

(( أحوال رائعة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئــــذ ، فتعظم قيمتها ويكون لها خطر لم يـــــكن في الاول . . ويصبح مالكها من أغنى أهل مصر وليس ذلك بسعيه واكتسابه اذ كانت قدرته تعجز عن مثل ذلك )) ( ٢٢ )

فالريع : هو ثمن الفرق بين ثمن العقارات في البداية عند رخصها ، وقيمتها عندما يزيد العمران وترفع أثمان العقارات بسبب زيادة منفعة العقار وبالتالى زيادة ما يعطيه مــــــن دخل وهذا يزيد من شراء ملاك العقارات .

وعرفت باسم (( نظرية ريكاردو في الريع )) ، حيث عرف ريكاردو الريع بأنه ذلك الجزء الذى بدفع للمالك مقابل استعمال (( قوى الارض الذاتية الاصلية التى لا تهلك )) وان السبب الوحيد الذى من أجله ينشأ الريع هـــــــو اختلاف الارض من حيـــــــث الخصوبـــــــة والموقع ( ٢٣ )

٥ - وضح ابن خلدون أثر زيادة السكان على تقسيم العمل وأثر ذلك في زيادة الانتاج في المجتمع .

ان أهم ما قدمه ابن خلدون من بحـــــث اقتصادى هو نموذج تحليلى لتطور المجتمع وتقدمه الاقتصادى الذى بناه على عنصرين :

أ - تزايد السكان

ب - تقسيم العمل

لقد لاحظ ابن خلدون أن تقسيم العمـــل ضرورة لا مناص عنها لأن :

(( الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشاته ))

ومن هنا وجب أن يكون الافراد :

(( متعاونين جميعا في عمرانهم على ذلك )) ( ٢٤ ) ويقرر ابن خلدون أن كثرة الســــــكان في مجتمع يؤدى الى تقسيم العمل بينهم وكثرة أنواع الاعمال التى توجد في المجتمع .

ويضم ابن خلدون هذين العنصرين معا ، فيقرر أن :

تزايد السكان يؤدى الى تقسيم العمل . وتقسيم العمل يؤدى الى زيادة الانتاج في المجتمع .

لذا تزيد المنتجات عما يشبع حاجاتهـــم الضرورية ، فيوجهون جزءا من نشاطهــــــم الانتاجي لانتاج السلع الترفيهية والكمالية ، وتؤدى تلك الزيادة في الانتاج الى زيـــــادة دخول الافراد فيزيد طلبهم على السلـــــــع الترفيهية فتنمو صناعات جديدة .

(( وتنفق أسواق الاعمال والصنائــــــــــع ويكثر دخل المصر وخرجه ، ويحصل اليسار لمنتحلى ذلك من قبل أعمالهـــــــم ، ومتى زاد العمران زادت الاعمال ثانية ثم زاد التـــــرف تبعا للكسب ))

ويستحق هذا النموذج التحليل الرائـــع التقدير من نواحى متعددة وهى :

١ - هو من أبرع صفحات التحليــــــــــل الاقتصادى التى خلفتها العصور الوســـطى فقد بين فيه ابن خلدون ما يترتب عــــــــلى تقسيم العمل من زيادة في الانتاج .

٢ - بين ابن خلدون الآثار المترتبة على زيادة ما يطلب من السلع في نشوء صناعات جديدة وزيادة انتاجها .

فهنا نظرة دقيقة لكيفية تكون الدخــــل وما يباشره من أثر على الاقتصاد عن طريق إنفاقه .

٣ - بين ابن خلدون كيف أن الانتــــــاج اذا زاد دخل البلد ، توجه جزء من الطلـــب نحو السلع الترفيهية ، فيزداد انتاجها ، ولا يقتصر الانتاج على مجرد انتاج السلـــــــع الضرورية مثل المواد الغذائية .

٤ - اتبع ابن خلدون في تحليله ما نسميه اليوم في العلوم الاقتصادية والاجتماعيـــــة ( بالطريقة الديناميكية Dynamic Method وتقوم هذه الطريقة على تحليل تتابــــــــع المؤثرات والآثار في الزمن .

ان هذه الطريقة لم تطبق بصورة علمية في دراسة التطور ( ٢٥ ) الاقتصادى الا منـــــــذ سنة ١٩٣٧ على يد الكتاب السويديين .

هذه هي بعض الجوانب الاقتصاديـــــــــة المهمة ( ٢٦ ) في مقدمة ابن خلدون وتفكـــيره أثبت بتحليله الاقتصادى وربطه بين العمران والاقتصاد انه كان عالما متقدمــــــا بهـــــــذه

الاقتصاديين أمثال آدم سميت وريــــــكاردو وحتى كينز والمدرسة السويدية الحديثة .

وبعد . فهكذا حاولنا أن نسلط الاضواء على بعض جوانب من مقدمة ابن خلدون الرائعة التى أثبتت أنه عالم لا يدانيـــــــــــه أى عالم أحاط بكل العلوم وأدلى دلوه في كل بئر حتى أننا لو درسنا مقدمته دراسة وافيـــــة وتعمـــق لتوصلنا الى علوم ما زالت الى الآن مجهولة . فعلينا نحن العرب أن ندرس هذه المقدمة وبالاحرى أن ندرسها للجيل الحاضر حتى يروا كيف كان الاجداد حملة مشاعل العلم ورواده . أما ما يصلنا بين الحين والآخر من الغرب فهو لج معظمه صناعة جديدة لمـــــادة أولية قديمة نمت وعاشــــــت في أرض العرب والاســـــــلام .

اشترك في نشرتنا البريدية