شخصية ابن خلدون الاجتماعية والفلسفية تناولها علماء المشرق والمغرب بالدرس والتمحيص وذهب الباحثون مذاهب شتى فى تقدير قيمة تفكيره ما بين منوه ومتحامل ومنصف وموجزوهسهب شان العظيم الذي يكثر الحديث حوله ويقتفى الناس خطوه ويعنون باثاره فى كل جيل وقبيل . وغنى عن الايضاح ان عبد الرحمان بن خلدون بهر المفكرين وسحرهم باساليبه الطريقة وطريقة تفكير الجديدة بالنسبة للعصر الذى كان يعيش فيه وهو العهد الذى اخذت تتقلص فيه المعرفة من بين الشعوب العربية والاسلامية وتبزغ شمسها المتالقة في آفاق غير افاقهم بدليل ان الناطقين بالضاد لم ينتفعوا باراء ابن خلدون فى قليل ولا كثير حتى فى التعليم واساليبه التى سبق بها فطاحل المربين واائمة الصناعة البيداغوجية ومازال الكثير من فلسفته التربوية واساليبه الصناعية محترما ومعمولا به لهذا العهد الذى تقدمت فيه الصناعة تقدما بعيد المدى عميق الاثر وعلى كل فقد عد تفكير ابن خلدون من ارقى ما وصل اليه التفكير الانسانى فى ذلك العهد . وعلى كثرة من تناول شخصية ابن خلدون فلم اظفر بمفك درس ) شخصية ابن خلدون الادبية ( التى لم ينازع فيها جاحد او معتدل منصف او غامط فابن خلدون كما انه مجدد في علم التاريخ وفي اسلوبه الجديد فيها مجدد للادب العربى الذى فقد الروح على عهده واستهام ادباء العربية بالتنمية اللفظى والزخرفة الكلامية واكبوا على المحسنات البديعية وولعوا بالقوالب الخلابة والتعابير المنمقه على غير جدوى . وقد يقضى الاديب سواد الليل كل فى الظفر بسجعة يزين بها كلامه او مقابلة يطرب لها او مطابقة يهتز لها ا جناس يقوم له ويقعد وظل الادباء يتسكعون فى بيداء الوهم ويخبطون في عمشواء من التعسف والعسلطة الفارغة التى لا جدوى من ورائها . ومما يؤ من سخافات بعضهم انه وقفت له سجعة فى بعض الليالي وكان رئيسا فعزل له احد القضاة ونصها أيها القاضي ب " قم ( قد عزلناك فقم ٠٠ ؟ فلم يسع القاضي التعييس الا العزل ؟ من جراء سجعة ظفر بها رئيسه . . المولع بالسجع بل ول ادى الى خلل فى نظام الدولة وموظفيها . . وقد نعى ابن خلدون على ادب
الالفاظ صنيعهم هذا ونقدهم اشد النقد فقال فى معرض الحديث عن المخاطبات السلطانية ما يلى المحمود فى المخاطبات السلطانية الترسل وهو اطلاق الكلام وارساله من غير تسجيع الا فى الاقل النادر وحيث ترسل الملكة ارسالا من غير تكلف له ثم اعطاء الكلام حقه فى مطابقته لمقتضى الحال فان المقامات مختلفة ولكل مقام اسلوب يخصه من اطناب الخ . ويقول عن ادباء العربية انذاك انهم عجزوا عن الكلام المرسل لبعد امده فى البلاغة وانفساح خطوبه وولعوا بهذا السجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه ويجرونه بذلك القدر من التزين بالاسجاع والالقاب البديعية ويغفلون عما سوى ذلك . واكثر من اخذ بهذا الفن وبالغ فيه فى سائر انحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد حتى انهم ليخلون بالاعراب فى الكلمات والتصريف اذا اخلت لهم فى تحسين او مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التحسين ويدعون الاعراب الخ ا ه
ويشير ابن خلدون بهذا النقد الى جناية ادباء المحسنات اللفظية على كيان اللغة نفسها فلا يتورعون عن تحريف اللفظ عن وضعه الاصلى مادام تغييره وتبديله يؤدى الى سجعة او تورية او جناس او سجع وما الى ذلك من المصطلحات البديعية . وياليتهم وقفوا عند هذا الحد بل انهم جعلوا المعانى التى خلقت الالفاظ لخدمتها وتاديتها وابرازها خدما للالفاظ . والعبرة عندهم بجمال اللفظ وزخرفة التركيب والتانق فى التعبير بصرف النظر عن ( المعنى ) وان كان سخيفا لا يؤبه له .
ولعل ابن خلدون هو الاديب الفذ فى القرن الثامن الهجرى الذى حرر الادب العربى من ربقة البيان اللفظى واعتقه من اغلال السجع وخلصه من سلاسل الاستعباد القاسية التى كادت تودى بحياته وتصيره تحفة تحفظ فى دور الآثار يتذكر بها الناس الادب العربى فى عهود برقشته وزخرفته . وهكذا تمكن هذا الرجل بقلمه السيال وقوته المفكرة من النهوض بالادب وجعله حرا يضطلع برسالته فى روعة وابداع وصير جمال اللفظ وطلاوة التراكيب فى خدمة المعاني المقصودة التى يدور عليها محور الافادة ودقة التصوير فى كل ادب حى واقعى يساير الحياة ويندمج فيها . وبهذا الاعتبار يعد ابن خلدون محررا للادب ومنقذا له من براثن العجمة وعسلطة الكلام فكتب الكلام المرسل فى اسلوب رائق طلى ولغة حصيفة متينة وانسجام عجيب على الاسلوب الذى يكتب به الناس بحوثهم واراءهم لهذا العهد . بيد ان براعة ابن خلدون النثرية اثرت فى شعره الضعف وصيرته تقليديا ضئيلا وصدى للشعر العربى القديم
ويتعذر عليك ان تلمس فى آثار ابن خلدون الشعرية ما تجده فى نثره من ابتكار او حيوية او طريقة عذراء ومنهاجا خاصا ولم يفت ابن خلدون ان يعرف من نفسه هذا الضعف فى فن الشعر وهو الناثر البليغ الذى لا يشق له غبار فاخذ يتساءل فى قرارة نفسه عن اسباب جمود طبعه فى اجواء الشعر وقصوره عن السلاسة والسهولة وانحطاطه عن الاجادة وتمرد الشعر عليه اذا اراد اقتناص شوارده وتقييد اوابده وجموحه عنه عند حاجته اليه ومازال قلقا من ذلك مرتمضا الى ان كاشف المبرزين من رجال الادب فى عصره بعد ان ظفر بالاسباب الصارفة له حسبما لاح له . قال ابن خلدون : ذاكرت يوما صاحبنا ابا عبد الله ابن الخطيب وزير الملوك بالاندلس من بنى الاحمر وكان الصدر المقدم فى الشعر والكتابة فقلت له : اجد استصعابا على فى نظم الشعر متى رمته مع بصرى به وحفظى للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وان كان محفوظى قليلا وانما اوتيت والله اعلم من قبل ما حصل فى حفظى من الاشعار العلمية والقوانين التاليفية فانى حفظت قصيدني الشاطبى الكبرى والصغرى فى القراءات وتدارست كتابى ابن الحاحب فى الفقه والاصول وجمل الخونجى فى المنطق وبعض كتب التسهيل وكثيرا من قوانين التعليم فى المجالس فامتلا محفوظى من ذلك وخدش وجه الملكة التى استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب فعاق القريحة عن بلوغها فنظر الى ساعة معجبا ثم قال لله انت وهل يقول هذا الا مثلك ؟
والعجيب من ابن خلدون كيف يقول هذا ؟ بعد ان عقد فصلا فى مقدمته تحت عنوان لا تتفق الاجادة فى فنى المنظوم والمنثور معا الا للاقل ؟ خصوصا وقد برهن على اجادته للمنثور بالرغم عن خدش ملكته بالاساليب الفقهية والقوانين العلمية حسب دعواه ولعله يحاول ان يجيد الملكتين لينتظم فى سلك الاقل .. فتعذر عليه ذلك . ولتمام الفائدة اضع بين يدى القارىء القصيد الذى رفعه ابن خلدون لابى العباس احمد الحفصى بتونس يذكر سيره وفتوحاته ويعتذر اليه عن انتحال الشعر ويستعطفه بهدية تاليفه ( العبر وكتاب المبتدا والخبر )
قال ابن خلدون يخاطب ابا العباس احمد الحفصى
هل غير بابك للغريب مؤمل او عن جنابك للامانى معدل
هى همة بعثت اليك على النوى عزما كما شحذ الحسام الصقيل
متبوا الدنيا ومنتجع المنى والغيث حيث العارص المتهلل
حيث القصور الزاهرات منيفة تعنى بها زهر النجوم وتحفل
حيث الخيام البيض يرفع للعلا والمكرمات طرافها المتعدل
حيث الحمى للعز فى ساحاته ظل افاءته الوشيح الذبل
حيث الكرام يثوب عن نار القرى عرف الكياء بحبهم والمندل
حيث الجياد اهلهن بنو الوغى مما اطالوا فى المغار واوغلوا
حيث الرماح يكاد يورق عودها مما تعل من الدماء وتنهل
حيث الوجوه الغر قنعها الحيا والبشر فى صفحاتها يتهلل
حيث الملوك الصيد والنفر الالى عز الجوار لديهم والمنزل
من شيعة المهدى بل من شيعة التوحيد جاء به الكتاب يفصل
بل شيعة الرحمن القى حبهم فى خلقه فسموا بذلك وفضلوا
شادوا على التقوى مبانى عزهم لله ما شادوا بذاك واثلوا
قوم ابو حفص اب لهم وما ادراك والفاروق جداول
هذا والقصيد طويل اطول من ليالى الشتاء البارده وقد يكبو الجواد ولنذكر منها الابيات التى قدم بها كتابه ( العبر وديوان المبتدأ والخبر )
ونكتفى بذلك
واليك من سير الزمان واهله عبرا يدين بفضلها من يعدل
صحفا تترجم عن احاديث الالى غبروا فتجمل عنهم وتفصل
تبدى التتابع والعمالق سرها وثمود قبلهم وعاد الاول
والقائمون بملة الاسلام من مضر وبربرهم اذا ما حصلوا
لخصت كتب الاولين لجمعها واتيت اولها بما قد اغفلوا
والنت حوشى للكلام كانما شرد اللغات بها لنطقى ذلك
اهديت منه الى علاك جواهرا مكنونة وكواكبا لا تافل
وجعلته لصوان ملكك مفخرا ببارى الندى به ويزهو المحفل
والله ما اسرفت فيما قلته شيئا ولا الاسراف مما يجمل
ولا انت ارسخ فى المعارف رتبة من ان يموه عنده متطفل

