( مصر )
عصر ابن رشيق : ظهر ابن رشيق فى عصر ازدهار الأدب فى المغرب ، فبعد انحسار العبيديين - أو الفاطميين - عن المغرب ، ظهر الصنهاجيون كقوة جديدة فى البلاد ، وعملوا على خلق شخصية متميزة لهم بعيدا عن تأثير المشرق ، وبخاصة بعد أن أحكم انفصالهم عن الفاطميين فى مصر ، وقد تم هذا بوساطة فرعى الصناهاجيين : بني زيري فى المغرب الأدنى 262 - 543 ه وبنى حماد فى المغرب الاوسط 404 - 547 ه ، فقد تبع هذا انتصار أهل السنة الذين كانوا يرتكزون على مذهب الامام مالك ، الى حد القول بأن خروج الفاطميين من افريقية كان هر با من الامام مالك ، فقد كان مذهبه يعتبر " النظرية الكاملة " مما يمكن القول معه بوجود ما يمكن ان يسمى " بالقومية المالكية " .
فبعد خروج الفاطميين الى مصر يكون قد تكون أول حكم وطنى بعد دخول الاسلام الى البلاد ، ويكون المالكيون قد عادوا الى سابق نفوذهم ، ويكون قد أحكم الأمر لهم على يد المعز بن باديس الذي كان تلميذا مخلصا للوزير أبى الحسن على بن أبى الرجال الذي كان مالكيا محضا يميل عن الشيعة ، وقد ترتب على هذا فى عام 440 ه قطع الخطبة عن الامام الشيعى واعلانها باسم الخليفة العباسى ، ورفع شعار " السواد " وقد غضب لهذا الفاطميون ، وطال تفكيرهم فى هذا الأمر ، وكان أن استقدم المستنصر بالله الفاطمي رؤساء بنى هلال وحلفاءهم ، ثم قال لهم : قد أذنت لكم في جواز النيل ، وأوليتكم ما يملك ابن باديس العبد الآبق ، وكان أن وصلوا فى حملة تخريبية - على نحو ما يذكر ابن خلدون وابن شرف - الى القيروان ، مما اضطر المعز بن باديس الى الفرار الى وانحصار دولة بني زيري بعد ذلك فى منطقة ضيقة من الساحل تحيط بمدينة المهدية ، ولقد ساعد على هذا مد أوربى منظم على جزائر البليار ، وسردينية ، وصقلية ، والسواحل التونسية ، وبعض الثغور حتى لقد وصل الامر الى اخلاء مدينة المهدية (1) .
وما يهمنا من هذه الدولة ان ابن رشيق عاش فى ظلالها ، وانها شجعت على العلم والادب ، واهتمت باستقدام العلماء ، والكتب والمترجمين من كافة الرقعة الاسلامية ، وما وراءها ، ولقد كانت الدولة فى رخاء اقتصادى ، وكان القائمون على أمرها صفوة من الذين لهم مشاركة جادة فى العلم والادب .. وهكذا أصبحت " القيروان " يستشرف اليها كما يستشرف الى القاهرة وبغداد ودمشق والكوفة والبصرة ، وأصبح من المتعارف عليه ان الرجل اذا انتسب الى القيروان عرف أنه ينتمى الى صميم العلم والادب وصار بيت الحكمة القيروانى يذكر بسميه القديم فى بغداد ، وحق للبعض أن يذكر أن بعض البلاد حين أصابها الضعف الحضارى " كطرابلس " كان وراءه بعدها عن " الحضرة " (2) والمقصود بالحضرة هنا تونس ، وهكذا أصبحت القيروان كما قيل أحد الاركان ، وارقى من نيسابور ، وأكبر من دمشق ، وأجل من أصبهان مما ترتب عليه ازدهار النقد الادبي وبخاصة فى فترة الصنهاجيين (3)، ففى هذا المناخ ظهرت محاولة اثبات الذات ، ومنافسة المشارقة ، مما ترتب عليه التخفف الى حد ما من قيود اللغة والاشكال المتوازنة ، والاقتباس من فصحى العامية ، والتخفف من تراكم المحسنات ، واضافة أوزان الى الشعر وظهور ما يسمى " بالكلام المنظوم على وزن مخصوص " ، وما يسمى " بعروض البلد " بالاضافة الى العالم الثرى للموشحات .
ولقد عرفت الفترة التى ازدهرت فيها القيروان بجامعها الكبير عددا من كبار الكتاب والنقاد على حد ما نعرف من أبى اسحق الحصرى القيروانى ت 413 ، وابراهيم بن القاسم ت 425 ، وابن رشيق ت 456 ، وابن شرف ت 460 ، وقد كتب ابن رشيق كتابا بعنوان " أنموذج الزمان فى شعراء القيروان " وهذا شاهد على الثراء العقلي والوجدانى فى هذه الفترة .
فالقرن الخامس الهجرى كان يذكر بثرائه وتفتحه الى حد ما بالقرن الرابع فى المشرق ، رجالا ، وطموحا ، ونضجا ، كما انه فى الوقت نفسه عرف باسم عصر الدويلات العربية ، لأن التمزق السياسى ساد البلاد .
ابن رشيق : ولد ابن رشيق فى المحمدية وقيل فى المسيلة - عام 390 ه (I) على أوثق الروايات ، واسمه كما يقول القفطى : الحسن بن رشيق الافريقي المعروف بالقيروانى ، أبوه رشيق مملوك رومى لرجل من أهل المحمدية من الازد ، وقد تعلم من أبيه حرفة " الصياغة " وتلقى تعليمه الأولى فى المحمدية ثم كانت رحلته الى القيروان وهو فى السادسة عشرة من عمره ، ومن شعره يستدل على أن زوجه كانت احدى هبات المعز بن باديس اليه ، أوانه دفع له صداقها ، أو أن صداقها كان من عطايا الامير المتتابعة له ، وقد رزق منها بنتا ، كما فى قوله :
أتتنى أنثى يعلم الله اننى
سررت بها اذ أمها من هباتك
ولقد عرف فى القيروان كيف يشق طريقه ، وكيف يوسع مداركه فقد كانت القيروان ممتلئة بعدد من الاساتذة ذوى الاتجاهات الواسعة المتنوعة : منهم من اشتهر باللغة، ومنهم من غلب عليه النقد ، ومنهم من غلب عليه الشعر ، ومنهم من غلبت عليه الكتابة (2) ، ولقد تفتحت أمامه الآفاق حين اتصل بالرجل الذى رفع اليه كتاب العمدة بقوله : " .. حسنة الدنيا ، وعلم العليا ، وبانى المكارم ، وآبى المظالم ، رجل الخطب ، وفارس الكتب ، أبى الحسن على بن أبى الرجال ، زعيم الكرم ، وواحد الفهم الذى نال الرياسة ، وحاز السياسة الخ (3) " وهو الرجل الذى كان له دور فى انعاش مذهب الامام مالك ، ولعل هذا وراء القول الذي يقول ان ابن رشيق كان ممن شرحوا الموطا للامام مالك ، اللهم أنه ألحقه بديوان الانشاء حين كان رئيسا له ، ثم ظل بقربه من المعز باديس حتى أصبح فى دائرة الضوء ، وقد انتقل مع المعز الى
المهدية حين ضاعت منه القيروان تحت الهجمات الهلالية ، ولكن الامير قلاه كما يروى ابن بسام لانه لم يكن موفقا حين دخل على المعز بعد هجوم اسطول الروم على المهدية قائلا :
تثبت لا يخامرك اضطراب
فقد خضعت لعزتك الرقاب
فكان ان قال له : مه ! متى عهدتنى لا أتثبت ؟ إذا لم تجئنا الا بمثل هذا فمالك لا تسكت عنا ؟ ثم أمر بالقصيدة فمزقت ، وقد قيل ان المعز فى هذه الفترة كان متوترا يسئ بالناس الظنون ، وكان أن سار الى صقليه كارها " مع انها لم تكن أحسن حالا من إفريقية " (1) وقد أراد التخلص من مقام بالذهاب الى الاندلس لمقابلة الامير عباد ، ومناه أحد التجار ، ولكن حين سمحت الرياح وامكن في ميدان البحر المراح كما يقول ابن بسام - ذهب وخلاه مع احزانه وأشواقه ، ومن ثم ظل مقيما بقرية " مازر " بالجزيرة الى أن كانت وفاته عام 456 (2) وقيل الغالب عام 463 (3) .
ومن المؤلفات التى كتبت عنه يتأكد لنا أنه كان طموحا فى غير اسراف ، وانه عاش فى مناخ المالكية وعمل على ازهار هذا المناخ بما قيل عن شرحه للموطأ وانه يدعو الشاعر للمسالمة كقوله معلقا على قتل الشاعر سديف وما للشاعر والتعرض للحتوف وانما هو طالب فضل ؟ فلم يضيع رأس ماله . وكل شئ حتمل الا الطعن فى الدول " وكقوله والشاعر أولى من كف منطقه وأقال عمرات اللسان " (4) ، وقد ظل ولاؤه للقائمين بالامر والذين اخذوا بيده على الطريق ، وقد كان يهم ويعزم ولا ينفذ على نحو ما نعرف من رغبته فى الذهاب الى الاندلس فقد كان يكره المغامرة ، وقد استهول ركوب البحر فى أكثر من قصيدة ، وفضل الشيب على الشباب ، وله شعر فى القناعة ، وهو القائل :
يا رب لا أقوى دفع الاذى
وبك استعنت على الضعيف الموذى
مالى بعثت الى ألف بعوضة
وبعثت واحدة الى النمروذ
ومن شعره نعرفه أحول العينين ،، ظريفا ، ماجنا بحذر وفيا لمن انتفع بعلمهم وجاههم كالنهشلى ، والقزاز ، وعلى بن ابى الرجال ، والحصرى ، بل انه يبالغ فى هذا الوفاء ، أما دوره الحقيقي فيظهر في كتبه التى وصل بها البعض الى ثلاثة وثلاثين كتابا ، تدور حول الشعر والشعراء واللغة ، والتاريخ ، والحديث ، والادب ، وبعض جوانب الحياة ، والثابت ان بعض اسماء كتب ليست الا فصولا وابوابا من كتبه (1) على انه يجيء فى مقدمتها جميعا : العمدة فى صناعة الشعر ونقده ، وقراضة الذهب ، فقد اعطى الشعر طاقته وابداعه ، والقارئ له يحس أنه استوعب بصفة خاصة التراث النقدى والبلاغى لابن سلام وابن قتيبة وابن طباطبا ، وقدامة ، والامدى ، والقاضى الجرجانى ، والرمانى وفى ضوء هذا يكون قد جعل للمغاربة دورا حاسما فى هذا المجال ، بعد ان كان اسهامهم قبل ذلك مجرد تاريق ، وتلفت نحو المشارقة خاصة وانه - كما ذكر أحمد أمين - قد حول الشعر من نقد شاعر بعينه او شعراء بأعيانهم الى نقد الشعر بصفة عامة ، ولعل هذا كان فى ذهن ابن خلدون وهو يذكر انه أعطى صناعة الشعر حقها ولم يكتب أحد فيها قبله ولا بعده مثله .
دوره فى كتاب العمدة : يلاحظ انه بدأ كعادة أهل عصره باهداء فضفاص الى ابى الحسن على بن ابى الرجال المتوفى فى عام 425 ه ، ولعله كتبه وهو فى حدود الاربعين ، وهو غير محكم الترتيب ، وان كان ما يحكم الامر كله هو انه - بكل ابوابه فى الغالب - يدور حول قضية الشعر ، ثم نراه يكتب رسالة بعد ذلك تسمى " قراضة الذهب " .
وخطبة الكتاب تلقى اكثر من ضوء على الرجل وفهمه للشعر ، فهو يذكر متواضعا انه لم يعلق من العلم إلا بحاشية قبل اتصاله بأبى الحسن على بن الى الرجال " لسوء المكان ، وقلة الامكان وزمانة الزمان وحدوث الحدثان " ثم انها توضح لنا ان الرجل وهو أساسا متعصب للعرب قد أقبل على الشعر لانه اكبر علوم العرب ، وأوفر حظوظ الادب ، وأحرى أن تقبل شهادته وتمتثل
ارادته ، وهو كعادته ، وانطلاقا من موقفه السنى ، وتعاطفه المالكى ، نراه فى القضايا الكبيرة يشفع لها بالسنة النبوية ، وبمواقف الخلفاء بصفه خاصة ، فهو ينطلق من منطق محدد فى ذهنه ، ثم يبحث له عن عمد ، وقد يرى البعض فى هذا مجرد استطراد وثرثرة ولكن منهج الرجل وعصره يؤكد أن الرجل يلح على الحقيقة الواحدة ، ويبرزها فى أكثر من ضوء .
وقد هال الرجل أنه مع ما للشعر من مزية وشرف ، فان الناس قد اختلفوا حوله ، ولم يكن هذا عن قدرة عليه ولكن عن تخلف عن كثير منه ، فهم يقدمون فيه ويؤخرون ، ويقلون ويكثرون ، وفي الوقت نفسه يبوبونه ابوابا مبهمة ، ويلقبونه ألقابا متهمة ، وقد كان معنى هذا انه لم يكن هناك تصور عام للشعر ، ولعله كان وراء هذا ان الناس - وبخاصه النقاد قد شغلوا بالشعراء ولم يشغلوا بالشعر ، ومن هنا كان لا بد من كتاب فى " محاسن الشعر وآدابه "، وهو يؤكد انه لن يقف عند حدود النقل من الآخرين ، ولكنه وان كان سيستأنس بآرائهم الا انه فى أكثر ما سيقول سيقول على قريحته ، وعلى خاطره لئلا يكون هناك تكرار ، صحيح انه سيتكئ على الآخرين ولكن سيكون وراء هذا ما يتعلق بسرد الخبر وضبط الرواية ، وما يسنده الى أحد أو الى كتاب فسيكون وراءه أن ملكيته عامة وشائعة بين الناس أو انه رأى خاص به ، وهو لا ينسى أن يؤكد انه سيرد الاصول الى اصحابها حتى يكون كل شاعر أولى بشعره وما كان يعنيه فى المقام الاول هو ان يتعرف الناشئة على وجه الصواب فى الشعر ، ثم يضع لمسة تقول : ان صورة الانسان فضلة عن القلب واللسان. وان استحقاقه للفضل انما هو من جهة النطق والعقل .
- 2 - يؤصل ابن رشيق لقضاياه بالحديث عن العرب والتعصب الواضح لهم فهم افضل الامم وحكمتهم أشرف الحكم ، ثم يذكر نظمهم ونثرهم ، وان لكل منها ثلاث طبقات : جيدة ومتوسطة ورديئة ، وهو انطلاقا من قضاياه الكلية يتحمس للشعر على النثر لان الدر - وهو اخو اللفظ ونسيبه واليه يقاس وبه يشبه - إذا كان منثورا لم يؤمن عليه ... الخ ثم نراه ينعطف - على خلاف ما تذهب اليه الدراسات الحديثة - الى القول بأن الكلام كله كان منثورا فلما احتاجت العرب الى الغناء بمكارم اخلاقها ، وطيب أعراقها ، وذكر أيامها الصالحة ، واوطانها النازحة ، وفرسانها الانجاد وسمحائها الاجواد لتهز انفسها الى الكرم وتدل ابناءها على حسن الشيم . . توهموا أعريض جعلوها موازين الكلام فلما تم لهم
وزنه سموه شعرا لانهم شعروا به اى فطنوا ، فما يرتضيه العقل هو القول بأن وزن الشعر العربى أثر من آثار الموسيقى والغناء سواء أكان وراء هذا حركات الابل ، أم تلك الموسيقى الكونيه التى تلف الحياة ، أو انه ينشأ من الحالتين المتعارضتين داخل الانسان : حالة التأثر الوجدانى ، وحالة الضبط الارادى .
مهما يكن من شئ فماهم ابن رشيق هو دفاعه عن القول الذي يقول بأفضلية الشعر على النثر مع العلم بأن القرآن نثر ، وان النبى عليه الصلاة والسلام لا يقول الشعر ومن ثم نراه يقول فيما يقول : كما ان القرآن أعجز الشعراء وليس بشعر كذلك أعجز الخطباء وليس بخطبة والمرسلين وليس بترسيل ، واعجازه الشعر أشد برهانا ثم يقول : ولو أن كون النبى صلى الله عليه وسلم غير شاعر غض من الشعر لكانت أميته غضا من الكتابة وهذا أظهر من أن يخفى على أحد (1) . . الخ ثم يورد بعضا من الحجج الخطابية ، وتكاد القضية تفلت من يده حين يلتفت الى ابى الحسن على بن أبى الرجال ثم يقول : " . . لم أهجم بهذا الرد واورد هذه الحجة لولا أن السيد أبقاه الله قد جمع النوعين ، وحاز الفضيلتين فهما ( أى الشعر والنثر ) نقطتان من بحره ، ونوارتان من زهره ، وسيرد فى أضعاف هذا الكتاب من أشعاره ما يكون دليلا على صدق ما قلته ان شاء الله تعالى (2) "
. . ثم يؤكد قضيته بعقد باب فى الرد على من يكره الشعر نخلص منه الى ان الشعر ضرورة للعرب على حد ما نعرف من قول سعيد بن المسيب لمن قال له ان بالعراق قوما يكرهون الشعر : نسكوا نسكا أعجميا ! ثم نراه - كعادته - يشفع لقضيته بشعر لابي بكر ، وعمر وعثمان ، وعلى . . الخ ثم نراه يقول : وقد كان جماعة من أصحاب مالك بن أنس يرون الغناء بغير آلة جائزا ، وهو مذهب جماعة من أهل مكة والمدينة .. والغناء حلة الشعر ان لم يلبسها طويت ، ومحال ان يحرم الشعر من يحل الغناء به ، ثم يقول : وهذا باب لو تقصيته لاحتمل كتابا مفردا ، ولكنى طبقت المفصل وذكرت بعض المشاهير من الناس ثم (3) نراه يعقد عدة أبواب حول هذه القضية نخلص منها الى ان الشعر يرفع من قدر الوضيع الجاهل مثلما يضع من قدر الشريف الكامل ، وذلك لان الشعر - لجلالته - يرفع من قدر الخامل اذا مدح به مثلما يضع من قدر الشريف اذا اتخذه
مكسبا كالذى يؤثر من سقوط النابغة الذبيانى لامتداحه النعمان بن المنذر ، وتكسب عنده بالشعر وقد كان اشرف بنى ذبيان ولكنه امتدح قاهر العرب وصاحب البؤس والنعيم ، ثم يقول : فأما من صنع الشعر فصاحة ولسنا وافتخارا بنفسه وحسبه ، وتخليدا لمآثر قومه ولم يصنعه رغبة ولا هبة ولا مدحا ولا هجاء فلا نقص عليه فى ذلك ، بل هو زائد فى أدبه وشهادة بفضله ، كما انه نباهة فى ذكر الخامل ورفع لقدر الساقط ، ثم انه يرفض تلك المقولة التى نقول : ان والد امرئ القيس قد نفاه لما قال الشعر ، ويرجع السبب فى ذلك الى انه كان خليعا متهتكا شبب بنساء أبيه " وبدأ بهذا الشر العظيم " واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة ، وهو يغرقنا فى العديد من النقول التى توضح ضرورة الشعر وأهميته ، ثم نراه يقول رأيه صريحا من خلال شعر يقوله هو :
الشعر شىء حسن
ليس به من حرج
أقل ما فيه ذها
ب الهم عن نفس الشجى
يحكم فى لطافة
حل عقود الحجج
كم نظرة حسنها
فى وجه عذر سمج
وحرقة بردها
عن قلب صب منضج
ورحمة اوقعها
فى قلب قاس حرج
وحاجة يسرها
عند غزال غنج
وشاعر مطرح
مغلق باب الفرج
قربه لسانه
من ملك متوج
فعلموا اولادكم
عقار طب المهج (I)
فجهد الشعر عنده انه " ليس به حرج " وانه استشفاء من الهموم ، وشفاعة فى الحاجات ، وطريق الى الملك المتوج وهذا ما يؤكد ان الشعر قد وهن فى عصره ، وعلى كل فهو يؤكد ان الشاعر فى الماضى لم يكن يحتمى بالقبيلة وانما كانت القبيلة هى التى تحتمى به ، ثم يورد عددا من الشعراء الذين حموا قبائلهم ، ويؤكد ان الشعر قد شغل الناس الى حد التفاؤل والتطير به ، ثم يؤكد ان الذين انتفعوا بالشعر كثيرون ، وان الذين ضروا به قلة ، وبصفة عامة فهو يشير الى ان الشعر " مهنة خطرة " ولسير الشعر على الافواه هذا المسير تجنب الاشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحا فتعود جدا . ثم يقول : ومع ذلك كله فلا ينبغى للشاعر أن يكون شرسا شديدا ولا حرجا عرضا لما يدل به من طول لسانه وتوقف الناس عن مخاشنته ثم يقول : والشاعر أول من كف منطقه ، وأقال عثرات اللسان لما رزق من القدرة على الكلام والعفو من القادر أحسن . ويزيد الامر وضوحا حين يضع بابا فى آداب الشاعر يقول فيه أن على الشاعر : أن يكون حلو الشمائل ، حسن الاخلاق ، طلق الوجه بعيد الغور ، مأمون الجانب ، سهل الناحية ، وطئ الاكناف . . وليكن مع ذلك شريف النفس ، لطيف الحس ، عزوب الهمة ، نظيف البزة ، أنفا لتهابه العامة ويدخل فى جملة الخاصة فلا تمجه أبصارهم ، سمح اليدين ، والصورة هنا بصفة عامة لا تخرج عن كون الشاعر " تشريفاتيا " ظريفا يكدح ليدخل فى جملة الخاصة ، وهو بما قدم يرسم صورة لما ينبغى ان يكون عليه الشاعر فى العصر الذى عاش فيه . على انه بعد ذلك يعرض لقضية سياسية هامة هى قضية الشاعر والحاكم ونظام الحكم حين تعرض للشاعر سديف الذي ضره الشعر وأهلكه حين طعن فى دولة بني العباس فقال فى خروج محمد بن الحسن على أبى جعفر المنصور :
إنا لنا لنأمن ان ترتد ألفتنا
بعد التباعد والشحناء والاحن
وتنقضى دولة أحكام قادتها
فينا كأحكام قوم عابدى وئن
فانهض ببيعتكم ننهض بطاعتنا
ان الخلافة فيكم يا بنى الحسن
وكان أن أمر المنصور بدفنه حيا . فنحن نراه يقول : وأحمق الشعراء عندى من أدخل نفسه فى هذا الباب أو تعرض له ! وما للشاعر والتعرض للخوف ،
وانما هو طالب فضل ، فلم يضيع رأس ماله لا سيما وانما هو رأسه ، وكل شئ يحتمل الا الطعن فى الدول ، فان دعت الى ذلك ضرورة مجحفة فتعصب المرء لمن هو فى ملكه ، وتحت سلطانه أصوب وأعذر له من كل جهة وعلى كل حال لا كما فعل سديف . . وهكذا نراه يحكم على الشعراء بالاستئناس ، ويحضهم على المواكبة والسير فى الركاب ، وعلى مجرد تزيين الحياة للآخرين وهذا ما يشككنا فى انه على الرغم من حماسته للشعر الا ان الشعر فى هذه الفترة - على الرغم من فترة الازدهار التى شب فيها - كان قد وصل الى درجة الانسحاب من الحياة والنظر اليه شزرا في العديد من القضايا الجادة ، ومن هنا كان جهد ابن رشيق فى اثارة عدد من القضايا حوله بحذر شديد - كعادته - ، وقد رأي ان الواجب عليه الا يقيم تناقضا بينه وبين الحكام ، ولقد ذهب فى هذا بعيدا الى حد اعتبار الشاعر ملهاة على حد ما نعرف من ديوانه ، وان كان يشفع له فى هذا انه ساق عددا من النصوص التى كان فيها الشاعر بطلا ، وكان فيها الشعر صاحب قضية .
- 3 - تعرض ابن رشيق لقضية هامة هي قضية القديم والجديد ، وهو كعادته لا يصدع برأيه فى حسم ، ولا يقوله الا من خلال عرضه لكافة وجهات النظر ، مع مراعاة أذواق المهيمنين على الحياة ، ولقد كانت في هؤلاء المهيمنين على الحياة محافظة شديدة على التقاليد ، وانعطافة زاعقة للقدماء .
وهو يقسم الشعراء تاريخيا الى أربع طبقات : جاهلى ، ومخضرم ، واسلامى ومحدث ، ثم يضع المحدثين فى طبقات يهبط متأخرها عن متقدمها ، ثم ينصح المتأخرين بالا يغتروا بحلاوة اللفظ ورشاقة المعنى ، لانه فى الجاهلية والاسلام من ذهب بكل حلاوة ورشاقة ، وسبق الى كل طلاوة ولباقة .
على أن وجه القضية يتغير حين يذكر أن كل قديم من الشعراء كان محدثا فى زمانه بالاضافة الى من كان قبله ، وان مذهب أبا عمرو واصحابه يقوم على تقديم المتقدمين على المعاصرين للحاجة الى الشاهد وقله ثقتهم بما يأتي المولدون " ثم صارت لجاجة (1) " ثم حين يقف عند رأى ابن قتيبة الذى يقول : لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن ، وأيده برأى للامام على يقول : ليس احدنا احق بالكلام من احد وانما السبق والشرف معا فى المعنى ، ومن ثم نراه
يقف موقفا تعادليا يقول : وانما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه ، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه ، فالكلفة ظاهرة على هذا وان حسن ، والقدرة ظاهرة على ذلك وان خشن . ثم نراه يخطو خطوة حين يقف وقفة طويلة عند ابى الحسن محمد الحسن بن على بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين فقال : انما تروى لعذوبة ألفاظها ورقتها وحلاوة معانيها وقرب مأخذها ، ولوسلك المتأخرون مسلك المتقدمين فى غلبة الغريب على اشعارهم ووصف المهامه والقفار وذكر الوحوش والحشرات ما رويت ، لان المتقدمين اولى بهذه المعانى ، ولا سيما مع زهد الناس فى الادب فى هذا العصر وما قاربه ، وانما تكتب اشعارهم لقربها من الافهام ، وان الخواص فى معرفتها كالعوام . . الخ ، ثم يتكلم من لهاة شيخه عبد الكريم بن ابراهيم الذى يقول قد تختلف المقامات والازمنه والبلاد فيحسن فى وقت ما لا يحسن فى آخر ، ويستحسن عند اهل بلد مالا يستحسن عند أهل غيره ، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه ، وكثر استعماله عند أهله ، بعد ان لا تخرج من حسن الاستواء ، وحد الاعتدال ، وجودة الصنعة ، وربما استعملت في بلد الفاظ لا تستعمل كثيرا فى غيره كاستعمال اهل البصرة بعض كلام أهل فارس فى أشعارهم ونوادر حكاياتهم . . الخ ، ثم يصل الى رأيه الحاسم فيقول : " قال صاحب الكتاب وانا ارجو ان اكون باختيار هذا الفصل واثباته ههنا داخلا فى جملة المميزين ان شاء الله ، فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه كالذى لفظه سائر فى كل الارض معروف بكل مكان ، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقا سفسافا ولا باردا غثا ، كما ليست الجزالة والفصاحة ان يكون حوشيا خشنا ولا أعرابيا جافيا ولكن حال بين الحالين ، واذا كان قد وافق سابقيه على ثلاثة أسس مؤثرة فى الشعر هى : المقام او الحال والزمن او العصر ، والبلد او المكان والبيئة ، فانه يضيف أساسا رابعا هو الجودة او الحسن المطلق الذي يخضع له كل من القديم والحديث (1)
ثم انه فى العديد من النقول والاصول نراه يلتزم المحدثين ، ويؤكد على ظاهرة تفوقهم فى المعانى ، هذا بالاضافة الى ما قال من شعر ، فهو يلتزم فيه تماما نظرة المحدثين فى عصره .
- 4 - ومما يتصل بهذا انه تعرض لقضيتين هامتين هما قضيتا : الصدق الفنى والشهرة ، ومن خلال حديثه نفهم انه لا يريد تطابقا ومحاكاة للعالم الخارجى ، ولكنه يريد ما يسمى باتساق الشعر مع نفسه ، وعلى كل فهو - من خلال هذه القضية يحكم على ابن سلام الجمحى بالتناقض حين يسوق قولا عن عمر بن الخطاب معناه ان زهير كان لا يعاظل فى الكلام ولا يتتبع حوشيه ولا يمدح الرجل الا بما فيه كما يقول : ان زهيرا كان أحصف الشعراء ، وابعدهم من سخف ، وأجمعهم لكثير من المعانى فى قليل من المنطق واشدهم مبالغة فى المدح ، فهو يقول : قال صاحب الكلام واذا قوبل آخر كلام عمر بآخر هذا الكلام تناقض ، لان عمر انما وصفه بالحذق فى صناعته ، والصدق فى منطقه ، لانه لا يحسن فى صناعة الشعر ان يعطى الرجل فوق حقه من المدح لكيلا يخرج الامر الى التنقص والازدراء . . وهذا اسهام منه فى تحديد " الواقعية " فى الشعر العربى والقاء ضوء باهر على قضية "الصدق الفنى" وهو يستشهد لقصيدته ولرأى عمر بالذى قال لزهير معلقا على بيته .
ولانت اشجع من اسامة اذ
دعيت نزال ولج فى الذعر
انت لا تكذب فى شعرك فكيف جعلت هرما اشجع من الاسد فقال : انى رأيته فتح مدينة وحده وما رأيت اسدا فتحها قط ، ثم يقول ابن رشيق " فقد خرج لنفسه طريقا الى الصدق وعددى عن المبالغة " (1) .
اما قضية " فهو يذكر ان امزجة الناس تختلف في اكثر ما قيل فى نفضيل شاعر على شاعر ، وجماعة على جماعة ، ثم يحسمها بقوله :
والاشتهار بالشعر اقسام وجدود (2) ، ومن خلال حديثه نعرف انه يميل الى القول بان الشعر معاناة " اشد من نقل الصخر " ، وانه لا يعرف الشعر الا جيدا ، فهو يستثقل - كما يقول - الشعر الوسط والغناء الوسط ، وهو مع الشاعر المفلق لامع الشاعر المطلق او الشوير او الشعر (3) ، بل انه يزيد الأمر وضوحا حين يقول : وانما سمى الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به
غيره فاذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراع ، أو استظراف لفظ وابتداعه او زيادة فيما اجحف فيه غيره من المعانى او نقص مما اطاله سواه من الألفاظ ، او صرف معنى الى وجه عن وجه اخر كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة ، ولم يكن له الا فضل الوزن وليس بفضل عندى مع التقصير ، كما أنه يرى ان الشعر - كالبحر - اهون ما يكون على الجاهل ، وأهول ما يكون على العالم واتعب اصحابه قلبا من عرفه حق المعرفة . . وهكذا نرى ابن رشيق قد نظر للشعر نظرة جادة وعميقة ، فليس هناك مكان الا للجيد من الشعر ، ثم انه يؤكد عنصرى الحرية والابداع للشاعر ، ذلك لان الشاعر لا ينقل ولا يعبر وانما يخلق ، بحيث تتحول كل اداة من ادوات الشعر الى لمسة جديدة تختلف عما عند الآخرين ، فالشعر عنده عملية " رفض " للمسبق ، وتجاوز للآفاق المعروفة عند الناس ، فاذا لم تكن هناك عملية خلق فلا بد على الاقل ان تكون هناك عملية تطوير أو تغيير ، وهكذا لا يسير الفنان وراء الطبيعة والناس ، وانما تسير وراءه الطبيعة والناس ، فهو لا يتبع الا نفسه ، وفنه ، وهكذا يؤكد بحسم عنصرى : الحريه والابداع .
- 5 - ثم نرى ابن رشيق يقدم بابا هاما يسمى : باب حد الشعر وبنيته ، يذهب فيه الى انه لا بد للشعر من اللفظ والوزن والمعنى والقافية ، ثم يورد القصد بعد ذلك لاعتبارات دينية ، وبعد ان يستانس - كعادته - بآراء الحذاق في ذلك يعلن رأيه الذي يقول والبيت من الشعر كالبيت من الابنية قراره الطبع ، وسمكه الرواية ودعائمه العلم ، وبابه الدربة ، وساكنه المعنى ولا خير فى بيت غير مسكون وصارت الاعاريض والقوافى كالموازين والأمثلة للابنية ، او كالاوافى والاوتاد للاقبية ، فأماما سوى ذلك من محاسن الشعر فانما هو زينة مستأنفه ولو لم تكن لا ستغنى عنها (I) وهو لا يفضل اللفظ على المعنى كما يذهب الكثيرون ، ولا يفضل المعنى على اللفظ كما يفعل البعض ، وانما يصل الى لب الحقيقة حين يقيم توازنا بينهما فى عملية الصهر ، فالذى بينهما كالذى بين الروح والجسم كل يضعف بضعف الآخر ويقوى بقوته " فاذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنة عليه كما يعرض لبعض الاجسام من العرج . والشلل والعور وما اشبه ذلك من غير ان تذهب الروح ، وكذلك ان ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك اوفر حظ كالذى يعرض للاجسام من المرض
بمرض الارواح " (1) ان هناك من رجح اهتمامه باللفظ على المعنى اعتمادا على وجوده فى بيئة المغرب التى كانت تهتم بالمعنى ، وعلى بعض النصوص (2) ، ولكن تراث الرجل ككل يؤكد قوله بالتوازن بينهما وهذا ما انتهى اليه عبد القاهر والنقد الحديث .
وهو يركز على " الوزن " تركيزا واضحا ، وهذا التركيز يجئ اليه من فهمه لطبيعة اللغة العربية والتراث الشعرى ، ولهذا يقول صراحة : الوزن اعظم أركان حد الشعر وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية وجالب لها ضرورة الا ان تختلف القوافى فيكون ذلك عبئا فى التقفية لا فى الوزن ، وقد لا يكون عيبا نحو المخمسات وما شاكلها ، وهو لا يلزم الشاعر المطبوع بمعرفة الاوزان وخصائصها بعكس الشاعر الضعيف الطبع ، ومع انه يسوق المتعارف عليه من علمى العروض والقافية ، الا ان له بعض اللمسات الفنية كقوله : وينبغى للشاعر أن يركب مستعمل الاعاريض ووطيئها ، وأن يستحل الضروب ويأتى بألطفها موقعا واخفها مستمعا وان يجتنب عويصها ومستكرهها فان العويص مما يشغله ويمسك من عنانه ويوهن قواه ويفت فى عضده ويخرجه عن مقصده ، وكقوله ومن الزحاف ما هو اخف من التمام وأحسن كالذى يستحسن فى الجارية من التفاف البدن واعتدال القامة مثال ذلك مفاعيلن فى عروض الطويل التام تصير مفاعلن فى جميع أبياته (3) ، وكقوله : إذا لم يصرع الشاعر قصيدته كان كالمقور الداخل من غير باب ومعنى هذا كله انه يحتكم الى الذوق كما يحتكم الى القاعدة ، ولقد نقل عن الاصمعى قوله : الزحاف فى الشعر كالرخصة فى الفقه لا يقدم عليها الا فقيه .
- 6 - وهو يتعرض لقضية الطبع والصنعة ، فالمطبوع هو الاصل الذى وضع أولا ، وعليه المدار ، فهو الدفقة الشعورية الاولى التى تأتى للشاعر بعفوية وبساطة ، اما المصنوع فهو ما جاءت صنعته من غير قصد للشاعر او ما جاء عن طريق التصنع والافتعال ، ويمثل الجانب الاول من المصنوع البحترى ، بينما يمثل الجانب الآخر من المصنوع ابوتمام ، وهو - كعادته فى اغلب ما يأخذ من الاراء . - بأخذ بالوسطية ، ولنتأمل قوله : ولسنا ندفع ان البيت اذا وقع مطبوعا فى
غاية الجودة ، ثم وقع فى معناه بيت مصنوع فى نهاية الحسن لم تؤثر فيه الكلفة ، ولظهر عليه التعمل كان المصنوع افضلهما الا انه اذا توالى ذلك وكثر لم يجز البته ان يكون طبعا واتفاقا اذ ليس ذلك فى طباع البشر . . وسبيل الحاذق بهذه الصناعة اذا غلب عليه حب التصنيع ان يترك للطبع مجالا يتسع فيه ولقد جعل من التصنيع استعمال الحضرى للغة البدوى ، واستعمال البدوى للغة الحضرى لان كل واحد منهما سيخرج عن طبيعته وصدقه الفنى .
-7- ثم يتعرض لنظام بناء القصيدة فى باب بعنوان " باب المبدأ والخروج والنهاية ، فيقدم لنا تركيبة القصيدة العربية التقليدية ، وكيف انها بهذه القصيدة ليست بسيطة وانما للصنعة فيها الشئ الكثير ، وهو يعلل لذلك بأن حسن الافتتاح داعية الانشراح ولطافة الخروج الى الممدوح سبب ارتياح الممدوح ، وخاتمة الكلام ابقى فى السمع وأصق بالنفس ، فهو يربط الشعر هنا بالسامع لا بالشاعر ، وبالمنفعة لا باللذة الفنية ، ومع هذا فهو يلمح الفروق بين الشاعر البدوى والشاعر الحضرى ويلزم كلا منهما بالصدق الفنى ، ومع انه يلزم الشعراء بهذه القاعدة الا انه يسمح لهم بالخروج اذا كان هناك داع فنى لذلك ، ثم انه لم يمل الى رأى الحاتمى الذي يرى الانسجام بين المقدمة الغزلية وموضوع القصيدة ويرى ان القصيدة كالانسان فى التحام اعضائه ، فاذا كان هناك تباين فهو اشبه ما يكون بالعاهة ، فأبن رشيق يقول صراحة : ومن الناس من يستحسن الشعر مبينا بعضه على بعض ، وانا استحسن ان يكون كل قائما بنفسه ، الايحتاج إلى ما قبله ولا الى ما بعده وما سوى ذلك ، فهو عندى تقصير الا فى المواضع المعروفة مثل الحكايات وما شاكلها ، فان بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد ... وقد كان صريحا حين اعتمد على ذوقه هنا وفي الوقت نفسه كان موضوعيا حين نقل رأى الجاحظ في القضيه والذى يقوله : أجود الشعر ما رأيته متلاحم الاجزاء سهل المخارج ، فتعلم بذلك أنه افرغ افراغا واحدا ، وسبك سبكا واحدا ، فها يجرى على اللسان كما يجرى الدهان . . ثم يعلق على هذا الرأى قائلا : واذا كان الكلام على هذا الاسلوب الذى ذكره الجاحظ لذ سماعه ، وخف محتمله ، وقرب فهمة ، وعذب النطق به ، وحلى فى فم سامعه ، فاذا كان متنافرا ومتباينا عسر حفظه ونقل على اللسان النطق به ، ومجته المسامع ، فلم يستقر فيها منه شئ (2) .
- 8 - ولقد تعرض ابن رشيق لعملية الابداع بروية بعد ان مر بها القدامى سريعا ، ولقد كان وراءه فى هذا انه رصد عملية الابداع فى نفسه فهو شاعر جهير وفيمن حوله ، وابتداء فهو يومئ الى الموهبة ، ثم يشير الى الثقافة ودورها فى العملية لشعرية ، وبخاصة ما يتصل منها برواية الشعر ، ثم يتحدث عن التجربة وعن طموح الشاعر ، وهو يسوق لنا هذا القول الذي يقول : من أراد الشعر فليعشق فانه يرق ، وليرو فانه يدل ، وليطمع فانه يصنع ، وفي الوقت نفسه يتحدث عن قضية الاستمرار فى الشعر لانه كعين الماء ان تركت اندفنت وان استهتنت هتنت ولكنا نجد الشاعر قد تكل قريحته مع كثرة العمل مرارا ، ومن ثم فعليه ان يريح نفسه لانه حين يقول بعد ذلك سيأتي بكل آبدة ، او عليه ان ينشط نفسه ، ثم بتعرض لعملية التنشيط عند الشعراء ، فذو الرمة كان ينشط نفسه بذكر الاحباب ، والفرزدق كان يركب ناقته ويطوف خاليا وحده فى الشعاب والأودية معا ، وكان ابو تمام ينصب القافية للبيت ليعلق الاعجاز بالصدور - وذلك هو التصدير فى الشعر . . الح ثم يقدم طريقته الخاصة فيقول : والصواب ان لا يصنع الشاعر بيتا لا يعرف قافيته ، غير انى لا أجد ذلك فى طبعى جملة ، ولا اقدر عليه ، بل أصنع القسيم الاول على ما أريده ، ثم التمس فى نفسى ما يليق به من القوافى بعد ذلك فابنى عليه القسيم الثانى ، افعل ذلك فيه كما يفعل من يبنى البيت كله على القافيه ، ولم أر ذلك بمخل على ولا يزيحنى عن مرادى ، ولا يغير على شيئا من لفظ القسيم الاول الا فى الندرة التى لا يعتدبها او على وجه التنقيح المفرط ( 1 ) . وكما فصل بين الصنعة والتكلف ( التصنيع ) نراه يفرق بين سرعة البديهة والخاطر ويرى ان الاول اقل جودة من الثاني ، فالاب المتروى يقدم الخبرة الجمالية ، ويجعل الشاعر قادرا على الانتقاء والاختيار ، ذلك لان العمل الفنى في صميمه تنظيم وصياغة ، وعلى كل فهو بصفة عامة يقف الى جانب عمود الشعر الا ما يقف ضد الشعر والشاعر ، وهو يربط الشعر بالتكسب فيذكرنا بتلك العلاقة التى تكون بين الجميل والنافع ، ثم انه يؤمن بقوة الشاعر التى تجعله قادرا على القول فى كل جوانب الحياة لان هذا معناه انه يصدر عن كون كامل ، وعن شخصيه حرة .
- 9 - وقد عقد بابا فى أغراض الشعر وصنوفه ، وسار فى الطريق الذي عبده من قبل أبو تمام ومن جاء بعده ، وقد جعل ابن رشيق الاغراض عشرة هى :
النسيب ، والمديح ، والافتخار ، والرثاء ، والاقتضاء والاستنجاز ، والعتاب والوعيد والانذار ، والهجاء ، والاعتذار ، والوصف ، وهذه الاغراض أشبه بالعصر الذي عاش فيه ابن رشيق . . وهو يسوق هذه الاغراض مع حشد من أقوال الآخرين ، ولكن صوته لا يغيب فى هذا الخضم كقوله ان الاخذ فى الرثاء يجب ان يكون مشغولا عن التشبيب ويعتذر لدريد لانه اخذ ثاره بعد سنة ، وكقوله : من اشد الرثاء صعوبة على الشاعر ان يرثى طفلا او امرأة لضيق الكلام عليه وكقوله : العتاب وان كان حياة المودة وشاهد الوفاء فانه باب من ابواب الخديعة يسرع الى الهجاء ، وكقوله ينبغى للشاعر ان لا يقول شيئا يحتاج يحتاج ان يعتذر منه . . الخ بعد ان يفرق ابن رشيق بين الاختراع ( هو خلق المعاني التى لم يسبق اليها والاتيان بما لم يكن منها قط ) وبين الابداع وهو الاتيان بالمعنى المستظرف والذى لم تجر العادة بمثله نراه يغرقنا فى أبواب غزيرة كباب المجاز الذى يتعصب فيه للعرب لانه بوساطته " بانت لغتها عن سائر اللغات " ، وكباب الاستعارة وهو يجعلها افضل المجاز واول ابواب البديع ، وهو يجعل " التمثيل " ضربا من ضروب الاستعارة ، وهو يذكر ان التشبيه يقع ابدا على الاعراض لا على الجواهر ، كما نراه يتعرض للعديد من الالوان البلاغية كالجناس والطباق والتكرار وهو فى الكثير منها له لمسات ذكية ، ووقوف على الشواهد الممتعة .
- 10 - . . واخيرا فانه تعرض لقضية السرقات الشعرية فى رسالته قراضة الذهب (1) ،
والرسالة موجهة الى صديقه ابى الحسن على بن القاسم اللواتى ، لانه أنشد بيتين لابن رشيق ، قائل : لقد أخذا من شعر لعبد الكريم النهشلي ، وقد أثار هذا ابن رشيق ودلل بحماسة جياشة انه لوعد مثل هذا سرقه شئ من الكلام " ، وفي الوقت نفسه يقرر ان السرقة انما تقع فى البديع النادر ، والخارج من العادة ، وذلك فى العبارات التى هى الالفاظ (2) كما يقرر ان المطابقة والتجنيس افضح سرقه من غيرها لان التشبيه وما شاكله يتسع فيه القول ، والمجانسه والتطبيق يضيق فيما تناول اللفظ ، وهو منفعل في رسالته بعكسه فى كتابه العمدة الذي تغلب عليه الموضوعية ، وهو يختمها بقوله :
رسالة بينة الاعذار
باحت بما تخفى من الاسرار
أدل من فجر على نهار
وفضل ذاك السر فى الاظهار
لطيفة المسلك فى اختصار
خفيفة الروح على الافكار
كأنها من جودة العيار
(قراضة من ذهب ) الدينار
واخيرا
فهذه مجرد اشارات الى عالم ابن رشيق الذي نراه قد استطاع ان يؤصل النقد العربى ، وان يفيد افادة كاملة من آراء المتقدمين ، وان يصدر فى الغالب فيما يصدر عن فهم عميق بطبيعة الحضارة الاسلامية ، وبطبيعة اللغة العربية ، فنحن نجد فيه -على الرغم من روميته- حماسة لكل ماهو عربى ، ولكنها ليست الحماسية الزاعقة ، وانما هو عشق شديد للموضوع الذى تصدى له ، وعملية اختياره للشعر ووضعه اضافة لا تنسى فى هذا المجال تدل على انه قد وصل الى ان الشعر هو روح الحضارة العربية ، ولحنها المميز ... كما ان لكل حضارة لحنها المميز ، ولقد كان وراء ذلك - بلا شك - انه شاعر اصيل عرف ومارس الشعر باقتدار . . ولهذا يجيء كتابه العمدة بصفة خاصة في مقدمة ما كتب على كثرته ، واذا كنا قد لاحظنا عليه انه كان محافظا فى بعض الاراء ، وانه كان يصدر عن نظرية يمكن تسميتها " الوسطية " فهى لا تتنكر للقديم ولا تنكر الجديد ، فانه كان يصدر فى ذلك عن واقع النظرية الاسلامية ، وعن روح التراث العربى .
المهم اننا اذا اردنا ان نتعرف على نظرية الشعر عند العرب فان الكتاب الذى يؤصل لهذه النظرية هو كتاب " العمدة " ولقد ساعد ابن رشيق على هذا ان عمليات الابداع فى النقد العربى ، وفى البلاغة قد وصلت اليه كاملة من القرون الريانة التى سبقته ، وانه كان شاعرا فى الوقت نفسه .
