عرفت ايطاليا رغم اوجها السياسى الذى ظل قائما الى النصف الاخير من من القرن الثاني بعد المسيح انحطاطا كاملا من الناحية الادبية فقد فقدت مدينة رومة التى كان يؤمها ذوو الايهة والهيبة من اقاليم الامبراطورية دورها كعاصمة ثقافية حيث القرائح تتفتح والشهرة تتحقق ثم تنطلق وبدأت تصير من الناحية الفكرية مدينة لا تمتاز عن مدن الامبراطورية العديدة الاخرى والسبب فى هذا الانحطاط يرجع الى تفوق الشرق اليونانى من جديد في الميدان الفكرى والفنى واصبحت هذه النهضة الجديدة المظفرة للفكر واللغة اليونانية تهدد الحضارة واللغة اللاتينية باضمحلال كلي لولا انهما وجدتا ليبعثوهما من جديد كتابا افارقة تخلوا عن النزعة الادبية القديمة وتهيأوا الى فهم انتاج حكماء الشرق وهضمه ، وشرع البعض منهم ممن اعتنق الدين المسيحى يبعث ادبا لاتنيا فى كنيسة كانت لغتها الرسمية يونانية فى البداية وكانت فى تلك الفترة نوميديا umidia وافريقيا Africa حسب المعنى الذى تطلق علي هذه الكلمة عند الرومان أى جملة البلاد التونسية تقريبا ( عرفتا حركة ثقافية نشطة فكان ذوو الثراء من بورجوازية المدن يرسلون ابناءهم الى المدارس بأفريقيا وخارجها وتكاثر فى " جامعات " أثينا ورومة الطلبة الافارقة وكان من بينهم شاب متقد الذكاء قادر على ممارسة اصناف الادب بدون ادنى عناء ، وهذا الشاب هو " ابوليوس " Apuleus
واذا كان ابناء المغرب الكبير يفتخرون - ويحق لهم ذلك - بان بلادهم انجبت امثال ابن خلدون وابي القاسم الشابى وغيرهما فهم يجهلون او يهملون عمدا مؤلفين ينتسبون وثيق الانتساب الى الشمال الافريقى وان هم عاشوا في العهد الروماني . هؤلاء المؤلفون لا يخفون اصلهم الافريقي فقد اجتنبوا طريقة رومة التقليدية الجافة المقيدة وتمكنوا من بعث ادب محدث ناتج عن تيارات متعددة وحضارات مختلفة شملتها الفتوحات الرومانية التى جمعت في صلب واحد اقطارا تتباين فى تقاليدها وعاداتها . ان الذى ي هذه الطريقة المحدثة احسن تمثيل هو فيلسوف بلدة مادورا Madure الكاتب أبوليوس Apuleus
فمن هو ابوليوس وما هى اشهر مؤلفاته ؟ ولد لوسيوس ابوليوس فى بلدة مادورا Madure بمقاطعة نوميديا حوالى سنة 135 بعد المسيح ولقد كأن ينتسب الى " النوميد " Numides
والى " الجتول " Getules وكان يقول " ليس المهم عند الرجل اصله بل خصاله ويجب ألا ننظر الى بلاده بل الى الاسس التى ركز عليها حياته ودرس ابوليوس Apuleus بافريقيا النحو والبلاغة حسب الطريقة التقليدية فقد قال مخاطبا سكان قرطاجنة " ان موطني لا يبعد عن هذا المكان كثيرا فأنتم تعرفون طفولتى ، واساتذتى ليسوا غريبين عنكم فقد عشت طفولتى بينكم وانتم اساتذتي وقد بعث مذهب الفلسفى هنا وان كان قد نضج باثينا " وبعد ان اتم ابوليوس دراسة الادب فى قرطاجنة توجه الى اثينا ليدرس الفلسفة فأصبح يحسن الكلام والكتابة باللغتين اللاتينية واليونانية وقد يظهر البراعة والتنمق فيهما على حد السواء فينهى باليونانية محاضرة كان شرع في القائها باللاتينية ومكنته اقامته فى اثينا من ملازمة نوادى " الافلاطونية الجديدة " وكانت هذه المجتمعات الافلاطونية الجديدة فى ذلك العهد ولت عن التشكك الفلسفي الذي تتبعه " الاكادمية الجديدة " لترجع ثانية إلى مذهب الروحانية وانضم ابوليوس الى جمديات دينية عديدة للاطلاع على اسرارها وتعاطى السحر الا اننا رغم هذا الطيش نراه فى بعض الاحيان يجد فى نفسه عبارات العقيدة الصادقة والتقوى الصحيحة فذهب بعضهم الى القول بأنه عانق الدين المسيحي وهذا مما نشك فيه فقد كان ابوليوس كثير التقلب فهو بتصرف عادة في حياته تصرف من لا يعبأ بدين ، فأنت تراه حريصا كل الحرص على كسب رغد العيش وتلك الظواهر التى تمن بها الامبراطورية في سخاء فهو تارة يظهر لك استعداده الى الزهد وحرمان النفس وطورا يستسلم الى اللذات السهلة الى درجة الاسفال ، وهذا التقلب وعدم الاستقرار قد يتركاننا في حيرة منه ويجعلاننا نصدق عدوه المحامى " طنونيوس بودانس " الذي القى عليه تهمة اللجوء الى السحر لكسب قلب Tannius ارملة ثرية تزوج منها كاتبنا ووصلت التهمة الى " كلوديوس ماكسيموس " حاكم افريقيا فى ذلك العهد فبرأ ساحة ابوليوس ، لقد audius Maximus ادرك " مكسيموس " السبب في تلون الطبع عند مؤلفنا وعدم ثباته على أمر فهو راجع الى الظرف الذى عاش فيه اذ اتسمت تلك الفترة بقلق وحيرة ناتجين عن تزحزح قيمها الادبية والدينية امام زحف التأثيرات الشرقية والدين المسيحي وعن سهولة العيش وكثرة الملذات التى لم تعكر صفوها بعد الاضطرابات الاقتصادية والفتن السياسية
وسافر ابوليوس الى رومة الا انه لم يستقر فيها الا زمنا قصيرا فقد قضى معظم حياته الادبية بالعاصمة آلافريقية مدينة قرطاجنة ، ولم يعمر ابوليوس طويلا اذ يتفق جل المؤرخين على انه توفى سنة 170 بعد المسيح وكان انتاجه الادبى وافرا ومتنوعا فقد طرق ابوليوس جميع انواع الادب الا انه لم يبق لنا من مؤلفاته العديدة الا اربعة وهى : 1) خطبة ظريفة قالها ابوليوس لتبرير نفسه مما اتهمه به ابناء الارملة
الثرية من أنه تزوج منها بالسحر ، ولقد اكثر في هذه الخطبة من النكت والتهكم رغم حرج الموقف L" Apologie
2) مجموعة خطب ومحاضرات تناولت بالبحث مواضيع شتى Les Florides
3) ثلاثة ابحاث فلسفية صغيرة وهى فى آله سقراط وفى مذهب افلاطون فى العالم
4) قصة طريقة سوف نتناولها بالبحث فيما يلى وهى " التحولات " او " الحمار الذهبى " Les metomorphoses ou ( I' Ane d' or )تتجلى لنا فيها شخص مؤلفنا المتشعبة وتظهر منها بوضوح طريقته القصصية .
موضوع هذه القصة ليس بجديد فقد حدثنا اسقف مدينة بيزنطة الذي عاش فى ألقرن التاسع بعد المسيح عن كتاب باللغة اليونانية يحتوى على نفس القصة ويحمل نفس العنوان الا ان هذا الكتاب لم يصل الينا وكل ما وصل هو " ملخص " Abrege لحوادث هذه القصة للمؤلف " لوسيان " ان هذه الكتب الثلاثة بما فيها كتاب ابوليوس تروى لنا قصة Lucien ليوسيوس " Lucius وهو شاب يوناني مسخته ساحرة حمارا ثم مغامراته وخيباته حتى اليوم الذى يعود فيه الى شكله الآدمي فلم يغير ابوليوس من هذا كله الا الخاتمة أذ قد يكون فى بعض الاحيان التشابه حرف فظن بعض النقاد ان ابوليوس لم يكن سوى مترجم للقصة اليونانية وانكر و عليه فضل الابتكار ورأى البعض الآخر آن واضع القصة اليونانية لم يكن سوى ابوليوس نفسه الا ان فى هذين الرأيين شيئا من الغلو اذ لا شك في ان ابوليوس لم يكن واضع القصة آليونانية بل هو اطلع عليها واقتبس منها موضوعه ولكنه رغم الترجمة الحرفية لبعض الفقرات لم يقيد نفسه ويتبع حوادثها واطوارها بكامل الدقة فنحن نراه فى الفصل الحادي عشر يحل محل بطل القصة ويغير الخاتمة المتعقدة الهزلية التى احتفظ يها " الملخص " L' Abrege برجوع لوسيوس الى شكله البشرى بفضل عطف الآلهة الفرعونية " أزيس " Isis ورحمتها ثم اننا كثيرا ما نرى ابوليوس يدخل الانشراح على القصة فيسوق من آن لآخر نكتة غريبة او يقدم صورة واقعية او يذكر ملاحظة خلقية أو يدخل وقعا شجيا
لقد اكثر ابوليوس من الاستطرادات الوصفية والقصصية التى لا شك فى انه ادخلها على القصة الاصلية وانه لمن الافراط ان نقول أن ابوليوس اقتبس جميع حوادث كتابه من القصة اليونانية بل هو ادرج فيها حوادث أخرى ثم حذف منها ما يضجر ويقلق خاصة وان هذه الطريقة فى الكتابة توافق ما نعلمه عن طبعه الذى اتسم بعدم الاستقرار واللامبالاة فهو فى جميع ما وصلنا من مؤلفاته وحتى فى الخطبة التى قالها لتبرير نفسه بين يدى حاكم افريقيا لا يقيد نفسه بموضوع بل يفاجئك فينتقل الى موضوع آخر ويروى لك قصة ثاني ليس لها بالاولى الا صلة بعيدة فكثيرا ما نلاحظ فى كتابه " التحولات "
حوادث ادخلها على القصة اليونانية الاصلية وحتى هذه الحوادث التى ادرجها فى القصة الاصلية فهو لم يتخيلها بنفسه بل اخذها عن روايات شعبية رائجة او استوحاها من تراث ادبى لا يزال حيا فأبوليوس لم يبدع فى الابتكار اذ ان له وثائق ومراجع بل أبدع فى تنسيق وترتيب ما اقتبس فقد استطاع ان يقرب ما تشعب من هذه المراجع وان يجمعها فى قصة واحدة طبعت بطابعه الخاص وتجلت فيها شخصيته واسلوبه
ما هو فحوى كتاب " التحولات " وما هى قيمته الادبية ؟ احتوى هذا الكتاب على سلسلة قصص لا يربطها بعضها ببعض ربطا ضعيفا الا شخص " لوسيوس " Lucius بطل الرواية الذي نجده فى جميع اطوارها فليس للقصة بطل سواه هو وحظه الذى يتبعه فيشقيه حتى اليوم الذى ترحمه فيه عناية الاهية فتخلصه من تعاسته ، اما الاشخاص الآخرون الذين قد يحتلون مشهدا او يشاركون في تمثيل قصة بجانب لوسيوس فهم لا يلبثون ان يختفوا بدون عودة يتغير المشهد او بانتهاء القصة كذلك يروى لنا أبوليوس امتحانات بطله وخصاله كما يصف لنا حادثا شاهده أو نادرة سمعها خلال تنقلاته واسفاره وهو على شكل حمار لهذا السبب يعسر علينا أن ندرج كتاب ابوليوس فى نوع من الانواع الادبية المعهودة فهو وفى آن واحد مجموع اساطير وقصص غريبة ورموز فلسفية وهو كتاب فيه شىء من الاباحية ومن الوعظ معا . ان ايوليوس يستحسن روعة القصص الجملية التى تنسى بطلة " لوسيوس " الممسوخ حمارا طول الطريق وعناء السير وتتعاقب هذه القصص فتتشابه بدون ان تتشابه اذ كثيرا ما كانت الواحدة منها تدخل عليك الحزن والسرور : فيها شئ من الحقيقة والخيال وفيها شىء من الخلاعة والوجدان يلاحظ لوسيوس في تنقلاته اوضاعا وتقاليد فيعلق عليها ناقدا لها أو محبذا اياها وهو يحدثنا عن الحياة الاجتماعية وعن العقائد الدينية فى تلك العهود فينشرح صدرئا لتهمكه ونستفيد من حديثه اذ ان للكتاب قيمة تاريخية كبير حيث وصف لنا ابوليوس وصفا دقيقا مشاهد كثيرة وتحفا استظرفها وحدثنا عن النشاط الصناعى ، ومما يقدره المؤرخ حق قدره فهم ابوليوس للعوامل الاجتماعية فهما صحيحا فلم يوجد مشكل اساسى فى ذلك الوقت لم يتعرض مؤلفنا له في احدى القصص التى ساقها او فى احدى النوادر التى رواها فبينما غفل عنها حل من عاصره من المؤرخين الذين انصرف كل اهتمامهم الى السياسة حدثنا ابوليوس عن تطور الاخلاق والنظم العائلية وعن المكانة المرموقة التى وصلت اليها البورجوازية وتعاسة العبيد وفقدان الامن فى البوادى وصراع صغار الفلاحين وغطرسة اصحاب الجاه من اثرياء وجنود
فنحن ندرك من خلال بعض الفقرات من كتاب " التحولات " شدة بعض الاثرياء وقسوتهم ففي الطاحونة التى كان يدير لوسيوس رحاها وهو حمار يشاهد مساكين يعاملون كما يعامل الدواب التى يشاطرونها
مشاقها فوصفهم قائلا : " كانت ثيابهم الرثة تفضح اثر الضرب على ابدائهم ورؤوسهم المحلوقة كانت تحمل آثار الحديد الحامي " وتألم لوسيوس لقصة ذلك الطاهى المسكين الذى فكر فى الانتحار خوفا من العذاب الذى اصبح يهدده عند ما اختطف منه كلب جرىء لحما كان يهيئه لسيده ولم يغفل ابوليوس تعاسة صغار الفلاحين فروى لنا قصة ذلك الثرى الخبيث الذى يجرأ على استعمال جميع الوسائل لطرد جاره الفقير واغتصاب ارضه منه ، ووصف لنا ابوليوس عصابات قطاع الطرق وغاراتهم فقد كانت هذه العصابات تتجاسر على مهاجمة مدن كبيرة فى رابعة النهار ولم يهمل ابوليوس وصف اللباس الرائج في ذلك العهد بل كثيرا ما تحدث عنه فنستطيع ان تقارن كلامه بما نشاهده على الفسيفساء فنكسب فكرة عن المرأة الانيقة الظريفة كما يراها ابناء تلك العصور .
واذا كانت لمؤلفات ابوليوس قيمة تاريخية كبيرة فقد تجلت فيها ايضا فلسفته : لقد كان ابوليوس يرغب ويحبذ ان يطلق عليه الناس لقب الفيلسوف لان المجتمع الذى كان يعيش فيه يقدر - حسب قوله - صاحب العقل اكثر من تقديره لصاحب المال ثم نحن رأينا فيما سبق ان ابوليوس تردد على النوادى " الافلاطونية الجديدة " بأثينا حيث درس مذهب الفيلسوف اليونانى افلاطون الا انه لم يحتفظ كعادته بهذا المذهب بل انحرف عنه ومال الى البيطاغورية المجددة ( NEO PYTHAGORISME ) وقد كان ابوليوس يرى ان فلسفة افلاطون لا تختلف الا قليلا عن مذهب بيطاغور وتعلقت همة ابوليوس من بين جميع تعاليم البيطاغورية بقاعدة الصمت التى يتعين على كل من يعانق المذهب ان يفرضها على نفسه مدة من الزمن ليتفرغ الى التأمل والتفكير وقد زعم ابوليوس - وهذا مما نشك فيه - انه عمل بها ويجدر ان نلاحظ ان فهم فيلسوفنا للبيطاغورية كان فهما غامضا وهذا ما يتبين لنا من قراءة محاضرته الثالثة Le Florides التى تناول بالحديث فيما اهم اسس المذهب البيطاغورى
كان ابوليوس يلقى محاضراته فى مسرح قرطاجنة فيوضح فيها آراءه ويشرح ما قاله فلاسفة اليونان فاصبحت بذلك مدينة قرطاجنة مركزا ثقافيا ينافس اكبر العواصم الشرقية التى كان يؤمها ابناء الاثرياء من الشباب الافريقى ليتتلمذوا على اساتذتها .
كان حتميا ان يؤدى تبسيط المعرفة على نحو ما فعله ابوليوس الى افتقارها اذ ان كثيرا من الشبان الافارقة ممن اعتنقوا مذهب افلاطون اكتفوا بدراسة فلسفته من خلال اقتباسات ابوليوس الا ان الفضل يرجع الى ابوليوس من ناحية اخرى وهى بعث تفكير جديد واحداث طريقة ادبية امتزجت فيها تأثيرات مختلفة لم تكن لتزدهر لو بقى ميدان المعرفة مفتوحا امام اقلية من اصحاب الثراء القادرين على تحمل تكاليف الاسفار والاقامة فى بلد بعيد .
