مضى ربع قرن على وفاة ابى القاسم الشابى وما انفك شعره تردده الالسن بتونس وسائر البلاد العربية . وتصدر المجلات وقل ان تتوالى اعداد منها خالية من مقال حول الشابى او قصيدة له تنشر . ونوادى الادب ومحلات السمر زين ما تتحلى به حديثها عن الشابى.
وما الفوز فى الشعر الا هذه السيرورة وانتشاره هذا الانتشار.
غير ان العلم لم يقل بعد قوله الفصل وكل ما كتب عن الشابى ليس الا مجرد اللهج بما فتن الناس وهو ان دل على شىء فعلى ان الشابى لم يزل مجهولا . فهل آن اوان البحث العلمى الصحيح الذى له وله وحده حق انزاله منزلته بين اعلام الادب العربى اولا والبشرى آخرا ؟
فلقد نشر "الديوان" وهذه اخبار الشابى فى متناول الباحثين غزيرة . وبيئته لم تبعد عنا صورتها .
لكن البحث النزيه يتطلب تقصى الاشعار والاخبار ونحن نعلم ان قصائد للشابى لم تنشر بعد وكذلك يومياته ومقطعات ورسائل . وممن عرفه من لم يؤد بعد الشهادة . وكذلك فان العهد جد قريب لدراسة اثره فى الادب والادباء . ثم ان العقبة الكأداء فى سبيل تناول هذا البحث التام عدم استقصاء الابحاث الجزئية شتى نواحى الشاعر وشعره .
فلا بد اذن من الانتظار ريثما تجتمع دراسات يفردها الباحثون كل فى وجهته التى له حتى يتسنى من جملتها وضع دراسة شاملة . (1)
ولئن قصدنا الى شىء من هذا الغرض المنواضع قلنتساءل اولا ما هو نصيب الشابى من الشاعرية الحق
من شأن الشاعر الحق ان ينظر اليه من نواح ثلاث قارة زيادة عما قد يتصف به من خاصيات تتصل به وحده وتميزه من غيره فهو اولا شاعر قوم ووقفته هى تلك فيتر نم بمعسول النشيد ولا يشعر اذ الشعر ليس شعره طابع القوم والعصر لايفوت الباحث اثرهما فى شعر الشاعر
وابو القاسم الشابى ولد وعاش بتونس فى الفترة الحاسمة التى افاقت فيها امته الى معنى الحياة وبدات تتوق الى تحقيق ما تراءى اليها . فهى فترة اليقظة بما لليقظة من تمط وحرص ونهم واندفاع وما يصحب كل ذلك من عطب وألم وانكسار :
وانظر الى شعره تر قفز الفتى وكبو المهزوم يخيم على كل ذلك امل بل ارادة جبارة فى ارادة الحياة
ثم ان الشاعر الحق انسان . هو احد المجموعة البشرية يتصف بصفاتها القارة السرمدية ويحس باحاسيسها . فلا تحول الحدود الاقليمية ولا الزمنية ولا اللغوية بينه وبين الالتحاق بجو المعانى البشرية الخالدة ، بذلك الجوهر الانسانى الثابت الكامن فى العنصر البشرى . فهو هو على مدى القرون وتطور العقول :
وكم من قصيدة للشابى تتلوها او تنتصت اليها فتسمع من ورائها صدى اغانى شينيى Chenier او زفرات فاوصت Faust او تحرقات صافو Sapho . تسمع صوت شبابة الانسان البدائى وهى هى شبابة راعى فرجيل Virgile وهى هى شبابة راعى الشابى راعى جبال خمير وراعى الواحة والربى . وتنسى فلا تدرى ولا انت تريد ان تدرى اعربى ما تسمع ام فرنسى ام جرمانى ام يونانى . انت تسمع "اغنية الحياة" واغنية الحياة خالدة خلود النفس . خالصة خلوصها .
وبين القومية والانسانية منزلة اذ جهلها الهوى فليس للباحث الفطن مجال لاغفالها وهى التى تجمع شعراء من وراء قوميتهم الضيقة فى نطاق مجموعة دون الانسانية بدرجة هى مجموعة اقوام ضم شتاتهم التاريخ او الاقليم او العنصر جنسيا كان او لغويا :
فشعراء الغرب الاروبى يؤلفون اسرة لاتفك اوصالها ضغائن الالمان والفرنسيين ولا انزواء انكلترا بل ولا تطرف سكندينافيا فصلة ما بين مسرح اوربيد Euripide وراسين Racine جلية او تلك التى بين مشاهد شكسبير Shakespeare وغوطا Goethe وهوقو Hugo وروح اوسيان Ossian كم هبت خطراتها على شعراء المدرسة الرومنطيكية جنوبا . بل هل تستطيع فصل ما بين طلسطوى Tolstoi وزولا Zola
وكذلك لا اشك ان بين الصين واليابان ما ليس بينهما وبيننا من الوان التفكير والاحساس وكذلك قل فى مجموعات معدودات ان لم تكن متعددة اذ الكون يضيق وارجاؤه تقترب امام غزو الانسان المحتوم اياه .
ولعلك لو كنت بدات ففاجأتك بان قلت لك ان الشابى شاعر عربى اسلامى لسخرت او ظننتنى اسخر . اما الآن فأنت تنظر الى الشابى كما كنت
نظرت الى كل شاعر حق بمنظار ثالث هو الذى يجعله رغم ماله من العبقرية الفذة وماله من الانسانية الشاملة ينتمى الى اسرة تضمه والعراقى والمغربى واليمنى بل والارانى والتركى احيانا
فهو اذا رنت قيثارته اتاك منها انين " اللزوميات " وشذى " الرباعيات " واستيحاء جبران ثم تذكر انك سمعت لهذا صدى فى صادحات الازجال.
وتخلص من قراءة قصيدة الشابى او قصائد فاذا ضمؤك الى رحيق الشعر الخالد قد شفى لانك انسان تريد لو رجعت او أرجعت الى انسانيتك المجردة الخالصة . واذا ما عطفت لديه على انات قوم واصطكاك جيل وجدت فى شعره شاهد الحق المبين . والى ذلك كله انت لا تعدم أهازيج الخليل .
فها هو الشابى حينئذ شاعر تونس فى فترة من حياتها هى تلك التى عاشها الشابى فكان صوتها فى انينها وندائها وفخرها فهو شاعرها بلا منازع
ثم هو يوقع على قيثارة عربية هى تلك التى حبك اوتارها فحول ربيعة ومضر وفطاحل العراق والشام وقرطبة والقيروان
وكذلك هو الشاعر الخالد الفذ المجرد عن المكان والزمان يرتفع من قيثارته لحن الخلود فلا لون له يميزه عن جيل من الاجيال او قطر من الاقطار بل فى نغماته مناجاة الروح البشرية المطلقة .
ابو القاسم الشابى شاعر تونس
تفتح الديوان ديوان الشابى فينفتح عن حنين الشاعر "من وراء الظلام" الى "تونس الجميلة" يوم ترد الحياة لشعبها وشاح مجده . وها قد انار الصباح الذي شمته لوطنك " ولست هنا يا ابا القاسم " .
بكيت لآلامها ورثيت لعذاب ابطالها لكن حبك لم يفقد الامل يوما . فبكاؤك بكاء اباء الضيم وأملك امل اليقين وتنبؤك اوضح ما علمنا من رؤى الشعراء للوعد القريب.
ذلك ان الشابى بحساسيته المعهودة لبس شعور قومه فكان فى نفسه اقصى ما كان فى انفسهم من ألم وأمل يدمى قلبه المكلوم لكل جرح اصاب قومه وتشوفه الى الفوز القريب كان من يقين القادة الجبابرة لا من خيالات الاحلام فلذا صدح فى قومه حاملا امامهم مشعل التضحية قائلا :
" لست انصاع للواحى ولو مت وقامت على شبابى المناحة " وهكذا لا يكتفى الشابى ان يكون بعبقريته مجرد شاهد لعصره بل هو يحمل لواء النضال مناديا " يا ابن امى " فى نشيده للحرية ودعوته الى كسر القيود تاركا للموت " كل شعب " . . . لم " يثأر للحق الجلى " . ويقودهم ببث الحماس فى جأشهم بوعيده المدهش " الى الطاغية " حيث يتكهن بما رأته اعيننا نحن بعد موته عندما يقول :
" اذا حطم المستعبدون قيودهم * وصبوا حميم السخط ايان تعلم " " والى طغاة العالم " يقول : " حذار ! فتحت الرماد اللهيب " وينبئهم " بزئير العاصفة "
ولئن تنبأ فهز قومه بالوعد واتجه الى الطغاة بالوعيد فلطالما تفطر قلبه لعجز الشعب وقعوده عن النهوض وعبادته الامس . ونداؤه " الى الشعب " قد لا يسمع فهو " النبى المجهول " فى ياسه وسخطه معزرا تارة قائلا :
ايها الشعب ليتنى كنت حطابا * فأهوى على الجذوع بفأسى . .
يائسا تارة اخرى فيقول :
اننى ذاهب الى الغاب ياشعبى * لأقضى الحياة وحدى بيأس
الا انه لا يفتأ يرشد الى " سر النهوض "
نرى اذن عند الشابى نضالا صادقا مستميتا هو نضال الشعب بل نضال قادة الشعب وزعمائه ثم هو شاعر القوم ينير السبيل ويهدى ويهز الحماس ويقود العزائم وينعى على الطاغية عماه ويبشر بكسر القيود وانفجار موج الحياة . ويرتفع صوته فوق ساحات الوعى مستفزا للابطال وئيدا على الخصوم مترنما بجمال الغد السعيد :
فما علمنا منذ احقاب كشعره للنضال لسانا
والشاعر المناضل انما هو جزء من الشاعر القومى ليس الا وعبقرية المناضل وحدها ليست فى ميدان الادب كل العبقرية فهناك النضال نعم ولكن هناك ايضا حياة القوم وتربة الوطن وسماء البلاد وسحب الجبال . فكم احب الشابى العيش بين هاتيك الربوع فتغنى بجمال الواحة وحبب الينا بمسحور شعره وارف ظلالها وخرير جداولها والعاب الاطفال بين كثبانها.
وبتونس الواحات لكن بها الجبل والغاب ولست ادرى اجدة الجديد خلبت مشاعر الشابى ام هى طبيعة نفسه ومزاجه جذبته نحو غيوم الشمال وبرود الجبال فههنا كان عنده الانتشاء وههنا التجأ من الملل والسقام وههنا جنى من العيش لذيذ اجتناء واوحت له غابات " عين دراهم " وجبالها واغانى رعاتها وثغاء القطعان بمروجها وسيولها وورودها وطيورها وسحبها ما لا نعلم له مثيلا مما اوحته طبيعة اقطار العرب لشعرائها.
كم رايت فى نظرات شباننا تطلعا لاثر وحى الطبيعة فى شعر شعرائنا لو استطاع الاستاذ يوما ان يبشرهم به فى ما يدرسون من تراث ادبهم . وعبثا يحاول ويحاولون في بحثهم فالطبيعة خرساء لكن ها هو ذا الشابى انطقها لانها ارضعته فلذ له طعم البانها . ثم ان الباحث قد يحجم عن الحكم او البت فى الحكم لان " ديوان " الشابى ليس الا منتوج عمر قصير فماذا كان يكون لو اتيح الى الشاعر بقاء طويل ؟ فلا يسعنا الا البناء على ما بين ايدينا وما بين ايدينا له شأن كبير.
افنعجب بعد هذا لاقامة قومه المحافل لمر نصف قرن على ولادته وربع على وفاته ؟ بل هل من عجب ان اسلفنا ان النوادى لا تفتأ تردد صداه والمجلات لا تخلو من ذكره مذ ذوى غصنه وما دام بهذه البلاد نواد ومجلات ؟
اجل ! ان فى ذلك فخر القوم بنبوغ الشاعر بينهم والفخر قديم عند العرب وعبقرية الشابى ذات مدى يحق معه لقومه الفخر الكبير
غير انى ارى مع هذا الشعور بالحمية والاعتزاز القومى وفوق ذلك الابتهاج بصحيح العبقرية والنبوغ الفذ والشاعرية الحق نوعا من الانس من شعب ضمئان الى من روى لغبه وشفى غليله . ففية راى رمزه وفى صوته تبين نجواه وفى شدواته عرف خلجات روحة . فأحبه فهل من ملوم فى هواه؟
الشابى شاعر عربى
هي صفة لعلها اقل ما يظهر من صفات الشابى . فلا هو عنترة ولا امرؤ القيس ولا كبير شبه بينه وبين جرير او المتنبى بل قل ان تجد عنده ما لحافظ او الرصافى من صدى نظيم العرب
فلا معانيه معانيهم ولا سبيله سبيلهم . وقد يلتقى بهم لكن فى عالم الانسانية المطلقة حيث لا هم عرب ولا هو
ويكاد يكون هذا الانفصال انفصاما صارما وقد تظنه صدا تهم الاعلان عنه في حملته على " خيالهم الشعرى " لو لم يستوقفك منه اللسان ولون البيان
فللغة عند الشابى اوفى نصيب فى ما لشعره من السحر والكمال يردد على مسامعنا مئاسى الزمن فلا يصدنا عن الشجى ذكر وصفها عند المعرى او " ملطن " Milton ويرقصنا على رنات اغانى الحياة فنندفع فى المروج نشاوى كأن لم نرقص مع ابى نواس او مع رونصار Ronsard
وسر هذا سحر الكلم . ولم يكن ليكفى لو انحصر فى البلاغة والتبحر لكن الشابى جدد لغته وبعث العربية بعثا اعنى انه اتخذ منها مادة كيفها ولونها حتى تكون له الآلة فاصطبغت العربية عنده بصبغة هى صبغته وولد واختار وماز ونفخ فى اللفظ فصار لفظه واحدث فى العربية ما لا نخجل ان نسميه ثورة وان كان لها بعض الرواد
والتجديد عند الشابى تجديد دون كفر بالقديم فالوزن والقافية والبلاغة والبيان بل والنحو واللغة كل ذلك يحترمه الشابى مع انطلاقه فى جو التجديد القويم تجديد القوى النادر لا العاجز الملتوى فأنت تشعر بالجديد الطريف دون ان تقطع بك الصلة بالفحول القدماء . والبون شاسع كبير بينه وبين كثير ممن يدعى التجديد وما تجديدهم الا عجز عن البليغ الصحيح
واعجب ما يتجلى لدارس لغة الشابى انها بليغة الى اقصى حد البلاغة جزلة زاخرة بالمعنى المتدفق الى حد الفيضان عن اللفظ تفيد ثم تزيد فتفتح امام الوهم آفاق التوليد والخيال وبهذا تتجاوز البلاغة المعهودة الى حيز الايحاء ومع هذا كله فلا تكلف ولا افتتان بالغريب ولاسعى وراء الزخرف وتجميل المبنى والتركيب اذ اللفظ عادى بسيط وسياق النظم يماشى الطبع طبع فصحاء العرب ولا يشذ عن مألوف العادة او مفروض العقل . وقد تقول بل ان هذا هو البلاغة . أجل . ولكن من اين السحر ؟ والبلاغة - ما علمنا - ليست كل اسرار الافتتان ؟
لعلنا هنا نلمس ظاهرة من ابرز صفات شعر الشابى وان خفيت عن كثير ممن كتب فى شعر الشابى وقال . بل ولعلنا نصل الى اهم عنصر من عناصر شاعرية الشابى اذا له هو اوفر نصيب فى بلوغ هذا الشعر الى العبقرية . ذلك ان النبوغ عند الشابى ليس اساسه سعة الخيال فغيره فى اختراق آفاق الوهم كثير . ولا التفرد بالحساسية وان كانت عنده اشد ما تكون مرهفة ولابسط الحقائق واصابة الحكمة ولا النفاذ الى اسرار الكون او الوجود ليس اساس نبوغه هذا كله وان شارك هذا كله فى النبوغ غير انك تجد من بين قدماء فحول الشعراء ومحدثيهم من قد يجمع كل هذا او اكثر او اقل الا انك لاتجد لشعره فى نفسك صدى كالذى لشعر الشابى فحتم على الباحث اذن ان يلفت نظره الى غير هذا حاسبا لكل خصلة من تلك الخصال حسابها - طبعا . ولا يبعدن عما نحن بصدد ذكره اذ سر هذه العبقرية - عندى - فى اللغة على ما اسلفنا من ان البلاغة ليست كل سر الافتتان ولا الغرابة ولا السهولة .
فماذا اذن ؟
ليس جوابنا بتعديد صفات فى هذه اللغة وهذا الاسلوب . فلا الامر فى الاحصاء الكبير ولا هو فى التحليل والحجاج انما هو فى التنبيه الى حال نفسية تعترى السامع لشعر الشابى وتحصل له من عوامل شتى اهم مافيها : اللغة .
وهذه الحال هى تلك التى يطلق عليها " بول فلرى " Paul Valery عبارة " الحال الشعرية " اى الحال التى يصل اليها السامع - او القارئ - من سماع شعر ما - او قراءته - الى درجة التفتح بكليته الى هذا الشعر كتفتح الارض الى ماء السماء . عندئذ يكون المرء فى الحال الشعرية . ولعل هذا هو الذى يقصد اليه العرب بقولهم " السحر "
ولا يصدننا هول كلمة السحر عن محاولة بيان محتواها وقد خطونا فى سبيل ذلك خطوة حاسمة
فاذن مم هذه الحال الشعرية او ان شئنا ما هو هذا السحر الذى منه تنتج الحال الشعرية ؟
ولئن اقتصرنا هنا على تحليل ما يمتاز به السحر عند الشابى فلا يفوتنك عوامل عديدة قد لاتهمنا الا أنها تشارك عند جميع الشعراء على احداث الحال الشعرية . وما تعليل ابن قتيبة وابن رشيق وغيرهما لابتداء مقصد القصيد بالنسيب المحبب للنفوس الا تفطن من نقاد العرب الى هذا الذى نسميه بالحال الشعرية ولعل توقيعات الموسيقيين قبل الشروع فى الغناء من هذا القبيل ايضا ومنه دور القافية او السجعة والوزن والخرجة وهلم جرا
ويتفنن فى ذلك الفنانون ويخطئون فيه ويصيبون وقد يبرز الفحل منهم ويمتاز وتكون له أساليب هى ليست اساليبهم
ولئن تشارك جميع كتاب العربية وشعرائها فى استغلال ما للغتهم من رنة ومرونة واستعداد طبيعى لملك الاسماع وهدهدة النفس وبعثها على الشجى . فالنجاح فى ذلك يختلف عندهم ويتفاوت تفاوتهم فى العبقريه وهو ما يجعل الشاعر شاعرا حقا ويميزه عن الشويعر النظام
ولقد أبدع فى ذلك المعرى ماشاء وقل من فطن الى موطن النبوغ الحق عنده وكذلك جماعة من بينهم الشابى
الا ان المادة الواحدة يجعل منها كل شاعر آلة خاصة به يصيغ بها شعرا هو شعره لذا فنبوغ الشابى غير نبوغ المعرى وان اتفقا فى موطن من مواطن النبوغ . وقل مثل ذلك فى غيرهما.
والآن دونك شعر الشابى واقرأه او استمع اليه ولا تنس ما أنبئت وتتبع القصيد والقصائد والبيت والفقرة والجملة واللفظ تر لغة خاصة او ان شئت تناولا للغة خاصا هو للشابى ولعله له وحده
ودعك من السؤال هل اراد ذلك وسعى اليه أم هو فطرته وعنوان النبوغ فأنت مستمع فاستمع واستمتع
لفظ عادى يكاد يكون من لغة التخاطب بساطة وانتشارا يأخذه الشابى ويكسوه كسوة غير مألوفة الا انها ليست غريبة فيحلو بها فى مسمعك ودونه اللفظ المألوف . أفطنت الى سر " المرج الخضير " هو لانه ليس المرج الاخضر . وتتبعه فى صيغ الصفة عنده وعطفه على كل ما جاء على فعيل
وفعول وفعال تنتبه الى ان اللفظ صوت عند الشابى بعد كونه معنى ويتخذ منه نغما ويلقيه لكن بين انيسه من اللفظ والنغم
وهنا تصل الى عنصر ثالث من شاعريته هو انسجام اللفظ مع اللفظ فى جوار خصيب من حيث المعانى يولدها بمجرد وجوده لذيذ من حيث النبرات يؤلف بينها نغمة ونشيدا . وياله ما أدراه بها غنيمة يقف عندها بعرفة تكاد تكون العرافة فيلقى بها الفاظ تتلو الالفاظ وتكثر ويطول بذرها وتحللها فلا تجد كبير مبرر لوجودها . لكن الشعر غير المنطق . فان لم يرض المعلم فقد رضى الهواة . وأرى للشابى مقدرة جبارة غريبة على تنسيق الكلام وتأليفه حتى يصير موسيقى لانهائية تنبو عن القواعد كما هى نشأت عن غير مفروض البلاغة
وهب انك لم تهتد الى مغزى قصيدة او مدلول لفظ أو عبارة فلا تعدم ما يسميه الجاحظ الشجى .
أرأيت قريشا فهمت من القرآن ما قضى المفسرون احقابا فى توضيحه وشرحه فئامنت لاقتناعها بما حواه من حكمة وحق مبين أم هى آمنت خشوعا لما سمعت من كلام كالسحر نسيق ؟ ومن قبل كان لهذيان الكهان عليها سلطان كبير ولم يزل للكلام على العرب الوقع الخطير ولن يزال.
وجنى الشابى من هذا الحقل الخصيب وحصد مالم يتح للكثير من شعراء العربية الا انه غرف مما يغرفون وبهذا يتبوا الشابى رغم انفلاته الى عالم الشعر الانسانى الخالد ورغم التحامه بموطنه التونسى الصغير مقعدا بين فحول الشعر العربى .
الشابى شاعر الانسانية
لا نؤمن بالالتزام صورة للفن او الفكر الا اذا اقتصر على ان يكون ثوبا شفافا ترى من ورائه الانسان انسانا وترى من خلاله للحياة مثالا
والانسان خالد فى جوهره والحياة حياة فى ذاتها وما الالتزام الا درن عليهما يزول زوال العارض عن الجوهر الحر
ونؤمن بأن الادب حياة والحياة أمل واسى وغناء وبكاء
فمن هنا تختبر الشابى حتى ترى نصيبه من الشعر الخالد ومقامه فى عليين ان كتب للشعراء المقام بعليين
أما الجمهور فقد نطق وقال قوله فتغنى بأبيات الشابى بيانا لما فى نفسه من خالص الانسانية المجردة عن الوطن والزمن واخترقت قصائده محيطها التونسى بل العربى ونظر اليها مهتما رجل الغرب ورجل الشرق
اصحيح ما جاءنا من الانباء أن نشيد اليابان الوطنى الجديد ضم من بين ابياته بيت الشابى الذى ضمه نشيد وطنى تونسى فى ارادة الحياة ؟ فيتجاوب الوطنى التونسى اذن والوطنى اليابانى من وراء الفضاء الشاسع فى صمود الانسان فى وجه القدر عندما يرددان :
اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ويتصفح العالم المنقب ديوان الشابى فاذا هو يورق صفحات الحياة تتوالى أمام عينيه ناطقة أسماء قصائدها بمشاكل الانسان والكون والكيان :
فهذه قصيدة اسمها " الحياة " وهذه " نظرة فى الحياة " وأخرى " الى الموت " و " ياموت " و " فى ظل وادى الموت " و " الدنيا الميتة " : وهل شغل الانسان شئ كما شغله مشكل الوجود والعدم ؟
ثم ههنا " الدموع " و " شجون " و " شكوى اليتيم " و " اغنية الاحزان " و " قيود الاحلام " و " نشيد الاسى " و " الجنة الضائعة " فقل لى بربك أما تربى أشواك الحياة على أزهارها ؟
وتقرأ تضرع الانسان واستجوابه فى " قال قلبى للالاه " و " الى الله " و " صوت من السماء " وترنو أنت معه الى " الصباح الجديد " أملا منك فى ما وراء الحياة بعد صمت القدر عن غصتك والانسان فى هذه الدار ليس لغصته انتهاء :
كلها صور لمأساة الانسان الخالدة . لالم الوجود وانكسار الامل وحيرة الفكر
لكن لاتتسرع تسرع من نادى بتشاؤم الشابى وهم - ياللاسف _ كثير . فكيف تنفى الرجاء والامل ولذة الحياة عن شاعر خلد أغانى الحب والعطف والامل بل وصولة القوى الجبار؟
أين التشاؤم بل أين اليأس اذا قرات قصيدة " الحب " فاقرأها وهذه قصيدة " أيها الحب " وتستمع الى " صلوات فى هيكل الحب " فترى عبادة لاخلص ما تنطوى عليه الحياة . بل هو ذا يعطف على الطفولة الطاهرة
رمز الامل والغد الجميل وينطفئ لهيب الشجون فى حنو الام فيتغنى به فى " قلب الام " و " حرم الامومة "
بل . بل وله " المجد " وله " نشيد الجبار " وله " ارادة الحياة " خرسا لمن قال بتشاؤم الشابى بعد هذا ولم يتل قوله :
اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا قوله :
سأعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء
فماذا اذن ؟ أفلسفة هناك ؟ وما هى ؟ وما ثمارها ليس هناك فلسفة . انما هناك استجواب بل استفهام الكون والوجود وهناك أنشودة الامل الخالدة والتغنى بعذب الحياة وقفز الانسان وكفاحه وعدم انصياعه الى اليأس المميت وايمانه بالقوة وارادته الجبارة للحياة - وان كانت الحياة من وراء الموت والنشور من وراء القرون والضياء من وراء الظلام
واذا ما شاك طريق الحياة فكم قطف فيه الشابى من زهرة وكم رقص فيه مع النسيم يداعبه الضياء فى طهر الوجود :
... " سوف يأتى ربيع ان تقضى ربيع "
ولم يأت الشابى لهذا التناقض وهذه المشاكل بحل وليس له ان يفعل فهو شاهد الانسانية بل هو الشهادة امام الوجود الصامت عن رد الجواب
ولذلك اعتبر شعره أغنية من اغانى الدهور ولئن زخر ديوانه بالمعانى البشرية العامة مما هو فى متناول كل انسان لانها فى خلد كل انسان فالشاعر الحق من استطاع الاعراب عنها وجوهرتها وابرازها فى صيغتها التى تكتب لها الخلود ثم جعلها حية تنفذ الى قلب الانسان فتهيج فى النفس أسرارها . اذ هذا هو الفن
وقف الشابى أمام الوجود والقدر تلك الوقفة التى يود " الانسان " لو استطاعها : فبكى بكاء الانسان وضحك ضحكته وسأل سؤاله وخاب خيبته وثار ثورته ولعن لعنته وانصرف . وكذلك يموت انسان ويجئ انسان ووقفته هى تلك فيترنم بمعسول النشيد ولا يشعر ان الشعر ليس شعره فأنت الشابى والشابى أنت فى ساعات نجواك
