الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

ادب السجون ورسائل بورقيبة

Share

الادب السجنى ادب حافل بالمشاعر الانسانية وصور العاطفة والوجدان، وسمات الرقة والحنان، منذ عرف الانسان عوامل الكبت والحرمان، والمتصفح لشعر الانسانية قديما وحديثا يقف على نماذج من لوحاته الرقيقه وآيات من سورة اللاهية، من الاعشى وعدى بن زيد، والحطيئه، وعلى بن الجهم الى ابى فراس والمتنبى، ومن الطغرائى وابن زيدون الى البارودى وشوقى، والرصافى، والزهاوى، والجواهرى، وبحر العلوم، والعيسى، ومن ابن عبد السلام، والورغى، الى الخضر بن حسين، ومحمود بيرم، وخزنة دار، والجزيرى، ومفدى زكرياء، والمرزوقى، وغيرهم، ولا نريد فى هذه العجالة ان نلم بتاريخ نشأة هذا اللون من الادب الحر الممتع على اختلاف عصوره، ومستوياته، واتجاهاته، وأغراضه ولا ان نطيل الوقوف عند اصحابه الاولين وانما نريد ان نستعرض بايجاز صورا من لهب وحدان بعض هؤلاء، مكتفين بالاشارة العابرة لنتخلص الى الموضوع الذي اردناه ان يكون محور هذا الحديث وهو ادب الرسائل والوصايا السجنية عند رجل عزيز علينا يحبنا ونحبه، رجل خلق منا وفينا جبارا معاندا للقوة يكافحها اينما كانت فى غير هوادة حتى انتصر عليها واخذها اخذ عزيز مقتدر وستكون هذه العينات التى نستهل بها حديثنا نافذة تطل على عالم الادب السجنى فنقف قليلا مع الحطيئة يستعطف عمر:

ماذا تقول لافراخ بذى مرج                 زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة               فاغفر عليك سلام الله يا عمر

ومن الخطيئة الى ابى فراس فى سجنه يخاطب سيف الدولة:

يا حسرة ما اكاد احملها               آخرها مزعج واولها

عليلة بالشئام مفردة                  بات بايدى العدا معللها

ارحامنا منك لم تقطعها               ولم تزل دائما توصلها

اين المعاني التى عرفت بها            تقولها دائما وتفعلها

ويلتفت ابو فراس الى نفسه فيندفع مرددا:

أراك عصى الدمع شيمتك الصبر            اما للهوى نهى عليك ولا أمر

بلى أنا مشتاق وعندى لوعة                 ولكن مثلى لا يذاع له سر

وتدنو حمامة من ابى فراس فيجيبها:

اقول وقد ناحت بقرب حمامة                   أيا جارتا لو تسمعين بحالى

معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى               ولا خطرت منك الهموم ببالى

أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا                 تعالى اقاسمك الهموم تعالى

تعالى ترى روحا لدى ضعيفة                   تردد فى جسم يعذب بالى

ايضحك ماسور وتبكى طليقة                 ويسكت محزون ويندب سالى

لقد كنت أولى منك بالدمع                    مقلة ولكن دمعى فى الحوادث غالى

ومن قبل ابى فراس بعث على ابن الجهم الى المسؤولين داليته السجنية ومنها:

قالوا حبست فقلت ليس بضائرى             حبسي واى مهند لا يغمد

او ما رايت الليث يحمي غيله                   كبرا واوباش السباع تردد

والنار فى احجارها مخبوءة                        لا تصطلى ان لم تثرها الازند

والبدر يدركه السرار فتنجلى                      ايامه وكانه متجدد

والحبس ما لم تغشه لدنية                        تزرى فنعم المنزل المتورد

وقد حرك السجن شاعر القوة والاعتداد ابا الطيب المتنبى فقال فى سجنه:

أمالك رقى ومن شأنه                 هبات اللجين وعتق العبيد

دعوتك عند انقطاع الرجاء           والموت منى كحبل الوريد

دعوتك لما برانى البلاء               وأوهن رجلى ثقل الحديد

وقد كان مشيهما فى النعال          فقد صار مشيهما في القيود ...

فما لك تقبل زور الكلام           وقدر الشهادة قدر الشهود

فلا تسمعن من الكاذبين           ولا تعبأن بعجل اليهود

وكن فارقا بين دعوى أردت        ودعوى فعلت بشاؤ بعيد

وفى جود كفيك ماجدت لى        بنفسي ولو كنت اشقى ثمود

هذا هو المتنبى الذى سنراه يقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفنى            والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ومن الشرق الى الاندلس - حيث نصغى لهذه الابيات من سينية ابن زيدون:

ما على ظنى باس                  يجرح الدهر ويأسو

ربما اشرف بالمرء                   على الآمال يأس

وكذا الحكم اذا ما عز             ناس ذل ناس

ان قسا الدهر فللماء             من الصخر انبجاس

ولئن امسيت محبوسا              فللغيث انحباس

ويفت المسك فى الترب           فيوطا ويداس

ولابن زيدون رسائل نثرية وقصائد شعرية كتبها فى السجن يتعلق موضوعها بالعاطفة والحكمة، وتتناول قضايا العذال والحساد، وقد يرق هذه القصائد، وتبكى المحاجر والقلوب كهذه القطعة التى انشدها الطغرائى فى هذا المضماز متحدثا الى الطبيعة متناجيا مع الطيور مقارنا بين حاله وحال عناصر الكون يقول:

ايكية صدحت شجوا على فننى                     فاشعلت ما خبا من نار اجفانى

ناحت وما فقدت الفا ولا فجعت                   فذكرتني أوطارى وأوطانى

طليقة من إسار الهم ناعمة                          أضحت تجدد وجد الموثق العانى

تشبهت بى فى وجدى وفى طربى                     هيهات ما نحن فى الحالين سيان

يا ربية البانة الغناء تحضنها                          خضراء تلتف اغصانا باغصان

ان كان نوحك إسعادا لمغترب                      ناء عن الأهل، ممنو بهجران

فقارضينى اذا ما اعتادنى طرب                     وجدا بوجد وسلوانا بسلوان

اولا فقصرك حتى استعين بمن                      يعنيه شأنى ويأسو كلم أحزانى

كل الى الغيم اسعادى فان له                      دمعا كدمعي وارنانا كارنانى

هذا ويقترن العصر الحديث باسماء لامعة فى سماء الوجدان، والاغتراب الحنين، فالبارودى يواصل تغريده فى منفاه بسرنديب، وشوقى فى الاندلس يحن إلى النيل، والزهاوى والرصافى والجواهرى وبحر العلوم فى مد وجزر مع بغداد، وابن عبد السلام والمسعودى والخضر ابن الحسين وبيرم وخزنة دار والجزيرى وزكرياء فى أناشيد الصبابة ومناجاة الاهل والاوطان.

يقول البارودى فى منفاه:

اليك يا داعى الاشواق من داعى             اسمعت قلبي وان اخطأت اسماعي

يا حبذا جرعة من ماء محنية                  وضجعة فوق برد الرمل بالقاع

ونسمة كشميم الخلد قد حملت              ريا الازاهير من ميث واجراع

يا هل ارانى بذاك الحى مجتمعا               باهل ودى من قومى واشياعى

منازل كنت منها فى بلهنية                   ممتعا بين غلمانى واتباعى

لا فى سرنديب خل استعين به              على الهموم اذا هاجت ولا راعى

يظنني من يرانى ضاحكا جذلا               اني خلى وهمى بين اضلاعى

اكف غرب دموعي وهى جارية             خوف الرقيب وقلبي جد ملتاع

ويأتى شوقى بعد البارودى ويتغنى وهو بالاندلس متشوقا لبلاده:

اختلاف النهار والليل ينسى،           اذكرا لى الصبا وايام انسى

وصفا لى ملاوة من شباب              صورت من تصورات ومس

عطفت كالصبا اللعوب ومرت     سنة حلوة ولذة خلس

يا ابنة اليم ما أبوك بخيل           ماله مولعا بمنع وحبس

أحرام على بلابله الدوح           حلال للطير من كل جنس

كل دار احق بالاهل الا           فى خبيث من المذاهب رجس

وطني لو شغلت بالخلد عنه        نازعتنى اليه فى الخلد نفس

شهد الله لم يغب عن جفونى       شخصه ساعة ولم يخل حسى  

- وندخل ديوان الادب التونسى مع أمير شعرائنا خزنة دار فى رائيته التى يقول فيها:

قالوا حبست فقلت ليس بضائرى          حبسى وفوق الراس تاج مفاخرى

زعموا بان لدى خطة ضابط                ونسوا بان لدى خطة شاعر

لكن خرجت ولى عليهم حسرة             اذ لم يفز فى القصر غير الغادر

وساكتفى بوظيف شعرى عائشا             ما بين اقلامى وبين محابرى

هذى الحياة شريفة وتلذ لي                 ولها خلقت وطار فيها طائرى

ويقول فى ميميته السجنية:

ولم يمرر بقلب طيف جبن            ولم تجر الدموع على كلامى

يردد فى المحافل صوت شعرى        وتنصب فى نواديهم خيامى

أجندى ارانى رغم انفى               واخضع للحكومة بالتزام

وما تلك الوظائف لو نظرتم          بعين عدالة الا اسام

وهذا السجن تشريف لمثلى          سادخله على وفق المرام

ولست بفاكر فى ابن صغير           يحن له الفؤاد على الدوام

وان كان الغياب لدى عنه            ولو يوما يعد كألف عام

- ويتخذ الشاعر من سجنه انيسا له ومن تونس حبيبة له:

وبت بحب خضراء أنيسا            وباتت لى المعاني في ازدحام

وأصغى للجنود وهم نشاوى        بحبى شاربا كأس الجمام

يودون الولوج ولا سبيل            الى فيشتكون من الاوام

وهب سكتوا بحكم القهر عنى     فكم ناب السكوت عن الكلام

- ونختم لقاءنا مع خزنة دار بقطعة من هذه اليائية:

سلا تونسا عنى وعنها سلانيا       انا ما بها ادرى وتعلم ما بيا

سجنا معا فازداد كل صبابة        وما غاب كل عن اخيه ثوانيا

اعد لنا الحساد بالسجن خلوة       فزدنا التحاما عندها وتشاكيا

ودارت كؤوس الحب بيني وبينها     وكان بها مجرى السلافة صافيا

فما كان احلاها لدينا صبابة          وما كان احلاه لدينا تناجيا

فتحت لها صدرى وقلت تفضلى     فقالت وهل فارقت يوما مكانيا

ومن خزنة دار الى سجنيات الجزيرى فهذه داليته العاطفية، وهذه غرائب ما صور فى السجن، وهذه مناحاة العصفور وغيرها من القصائد التى ضمنتها صفحات ديوان الادب التونسى، ونكتفى من شعره بهذا المشهد الحى مناجيا العصفور:

غناؤك يذكى لهيبا بصدرى                   وما هو الا نواح الاسير

لقد كنت مثلك اذ طال اسرى              ومثلك كنت اود اطير

وكنت اذا ما نظمت قريضا                  يقولون عني اسير طروب

وشعرى يفيض من القلب فيضا             وما الشعر الا دموع القلوب

وهذه أبيات من غرائب سجنه فى قصيده الطويل الشعبى ذى الاسلوب المضحك المثير:

وكان بين القوم شاب مطربش           أقام إلى ان حنكته التجارب

رأي ذات يوم ان طربوشه التوى        واعوزه التحديد والامر واجب

فادخل من جراء ذاك (قميلة)          لطربوشه كى ما تسوى الجوانب

فقلت وقلبى ضاحك آسف معا        قوامل قوم عند قوم قوالب

ويوم لتحرير المكاتيب قد اتى           تصدى به من للكتابة رائم

وقد وزعوا الاقلام جمعا عليهم          عدا واحد اضحى يرى وهو هائم

ولكنه قد شد بالخيط ريشة              بمغرفة جاءت يراعا يلائم

فقلت وذاك الخيط حبرا قد ارتوى       مغارف قوم عند قوم بلائم

وللجزيرى كتابات عن السجن نشر بعضها فى كتاب الجناة للمرحوم زين العابدين السنوسى. أما الشيخ الحضر ابن حسين رحمه الله فمن بلدا الغربة نراه يحن لتونس ولياليها فيقول:

رضيت عن اغتراب اذ لحانى         فتى لا ينظر الدنيا بعيني

يقول تقيم فى مصر وحيدا           وفقد الانس احدى الموتتين

الا تحدو المطية نحو ارض            تعيد اليك انس الاسرتين

وعيشا ناعما يدع البقايا             من الاعمار بيضا كاللجين

وقوم امحضوك النصح امسوا         كواكب فى سماء المغربين

احن الى لياليها كصب               يحن الى ليالي الرقمتين

ومطمح همتي فى ان اراها            تسامى فى علاها الفرقدين

ومن الشيخ الخضر الى مفدى زكرياء يخاطب السجن فى افريل 1955:

سيان عندى مفتوح ومنغلق            يا سجن بابك ام شدت به الحلق

ام السياط بها الجلاد يلهبنى            ام خازن النار يكويني فاصطفق

يا سجن ما انت لا اخشاك تعرفنى     من يحذق البحر لا يحدق به الغرق

اني بلوتك فى ضيق وفى سعة           وذقت كاسك لا حقد ولا حنق

انام ملء عيونى غبطة ورضى           على صياصيك لا هم ولا قلق

طوع الكرى واناشيد تهدهدنى          وظلمة الليل تغرينى فانطلق

روحي وهبتك يا روحي فدا            وطنى زلفى الى الله لا من ولا ملق

ونكتفى بهذه النماذج لنجد انفسنا امام لون آخر من الادب السجنى لم يراع فيه صاحبه الا تلبية نداء الضمير والاعماق، فلم يضعف من اجل عاطفة بنوية، ولم يستخذ فى اوقات الشدة ولم تؤثر فيه المضايقات ولم يلن لقناة الاستعمار وحملاته الفاشلة وهذا اللون من الادب يحسمه رجل من الرجال، رجل سما بعاطفته النقية، وتفكيره الاقوم، وتوصل الى تحرير شعب وبناء أمة، وانشاء منهج، هذا الرجل الذى وان انفرد برأيه وبقلبه، وسما فى خطبه وبياناته، فانه يبدو رجلا عظيما عند اشتداد الازمات، وتوالى العواصف، وهذا قلمه، وقلبه، وضميره، من وراء المنافى والسجون يسجل لتاريخ الانسان اعظم آيات الوفاء والثبات، ويخلق من مجموعة نفثات قلبه وايمانه صفحات فى كتاب البطولة والصمود ولو جمعت جميع رسائله وطبعت مع ما طبع، لجسمت فى حياة الثورة الصادقة افضل الوان الوجد والصبر والعزم والمثالية الحق للرجل المؤمن بربه ومصير شعبه فى اشد الظروف واقساها.

- يتبع - م. ش.

اشترك في نشرتنا البريدية