الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

ارآء في العدد الماضى من الفكر

Share

أصدرت مجلة ( الفكر ) فى مستهل هذه السنة عددا خاصا ( بالنقد ) ، درست فيه قضية ( النقد ) من جوانب شتى ، وقد فكرت بينى وبين نفسى فى الفوائد التى يمكن أن تجنى من إصدار هذا العدد الخاص بالنقد ، ففى اعتقادى أن ( الفكر ) لا ترمى من وراء إصدار هذا العدد إلى تقديم دراسات عن هذا ( الفن ) - فكتب النقد كثيرة ومتنوعة - بقدر ما ترمى إلى إثارة هذا المشكل ومعالجة هذه القضية لمعرفة مدى صلوحيتها للنهوض بأدب هذه الربوع .

ولشدة إيمانى بنجاعة النقد كأداة فعالة تعمل على تحسين النتاج الأدبى أولا ، وتعمل على التجاوب بين المنتج والمتلقى ثانيا ، وتعمل على طرح الزائف الهزيل الغث ، واثبات الاصيل السمين ثالثا . . . لشدة إيمانى بذلك أتقدم الى مجلة ( الفكر ) ( بفكرة ) ، وهى أن تكلف كل شهر أديبا ( بنقد ) العدد السابق ، وتنشر ذلك النقد فى العدد الموالى وهكذا . . على ان لا يلتزم ( الناقد ) باستعراض كامل العدد كما هو الشأن فى برنامج عرض المجلات بالاذاعة بل يترك له الاختيار فيتعرض لمن شاء ، ويلمح لمن شاء ، ويهمل من شاء ، على أساس النقد الموضوعى النزيه ،

وقد تتساءل البعض عن فوائد هذه ( الفكرة ) وأجيب بأن لهذه الفكرة فوائد لا تكاد تحصى ، منها :

1) إقبال الادباء أنفسهم على نقد أدبهم وتجويد نتاجهم قبل عرضه على القراء . 2) إعانة القارئ العادى على معرفة الجيد من الردىء . 3) تنشيط حركة النقد الراكدة :

أولا : بأقلام هؤلاء النقاد المكلفين بنقد أعداد الفكر . . . ثانيا : بردود بعض من وقع نقدهم . . . وقد يستمر حول الموضوع الواحد النقد والرد . . . ثالثا : مشاركة بعض القراء فى هذه المعارك بالوقوف إلى جانب هذا أو ذاك ٠٠٠

ولا أحب أن أقدم مجرد ( فكرة ) قد تبدو بسيطة لأول وهلة ولكنها تستعصى عند التنفيذ ، بل أريد أن أشفعها بالتطبيق ، وها أنا استهل هذا الاقتراح بمحاولة تطبيقية أجريها على العدد الماضى من ( الفكر ) .

الشعر

بحكم ميلى إلى الشعر أبدأ به ، (( الخطايا )) شعر : جعفر ماجد : أكثر شعر جعفر عمودى وقصائده التى أعرفها له على طريقة الشعر الحر لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة وأعتقد أن جعفر فى كلتا الطريقتين مجيد ولكن إجادته تكون فى الحر أكثر ، أو قل انه يجد راحته فى الشعر الحر أكثر ، ولست أدرى ما سبب احجامه عن كتابة الشعر الحر إلا فى النادر ! لقد صرح لى يوما انه كتب قصيدة من الشعر الحر ولكنه لما قرأها على صديقه الشاعر محمد مزهود قال له إنى لا أحب سماع هذا النوع ، فأعاد جعفر فيها النظر وصيرها شعرا عموديا ، وأنا أحب أن يترك الشاعر لنفسه الحرية فينتج ما يشاء بالطريقة التى يشاء وهذا القصيد مكتوب على تفعيلة بحر الهزج ( مفاعيلن ) . ومنذ بدأت اعتنى بقضية الشعر الحر رأيت أن الشعراء يخلطون بين تفعيلة بحر ( الهزج ) المذكورة وتفعيلة بحر ( الوافر ) ( مفاعلتن ) أو قل يخلطون بين ما يحوز فى تفعيلة الهزج وما يجوز فى تفعيلة الوافر ، فتراهم بجمعون فى القصيدة الواحدة بين جوازات الوافر وجوازات الهزج ؛ ظانين أن ( مفاعلتن ) فى الوافر إذا سكنت لامها وصارت ( مفاعيلن ) يجوز حذف النون الساكنة منها كما هو الشأن فى ( مفاعيلن ) التى هى من بحر الهزج ، ولم يعلموا أنه إذا حذفت النون من ( مفاعيلن ) المقلوبة عن ( مفاعلتن ) فقد وقع هذه التفعيلة زحافان : الاول باسكان اللام وهو جائز والثانى بحذف النون وهو غير جائز فى الوافر ،

كل الشعر الذى قرأته على الوافر والهزج لم استطع أن اقرر قرارا نهائيا إذا كان من الهزج أو الوافر لأن الشاعر يجمع فيه بين جوازات هذا وجوازات ذاك ، واذا سلمت بعض القصائد على أنها من بحر الوافر ، فانى لم اجد قصيدة يمكن ان تعد من الهزج وقد كان سرورى عظيما لما وقعت على قصيدة (( الخطايا )) لجعفر ماجد لأنى ظننت انى وجدت ضالتى المنشودة لانها كلها على تفعيلة بحر الهزج ( مفاعيلن ) الا انى تأسفت لأنى وجدت جعفر يستعمل مرة واحدة تفعيلة الوافر ( مفاعلتن ) ، واليك هذا السطر الذى وقعت فيه هذه الهفوة :

وبحر فيه قد ضيع]ت ذاكرتى[ مفاعيلن مفاعيلن ]مفاعلتن[

ولولا قول الشاعر ]٠٠ت تذكرتى = مفاعلتن[ لكانت كل القصيدة على تفعيلة الهزج . وجميل قول جعفر فى هذا القصيد :

وفى عينيك آفاق لأفلاكى

وقريب منه فى الجمال قوله فى قصيدة (( ملاح )) :

               وفى عينيك يا معبودتى أبحر

ولم يعجبنى قول جعفر :

               وخلى الحب يصمينى ويعمينى

لقربها من الكلام اليومى ، ولعل البعض يراها جميلة لنفس السبب . (( حقيبة يد )) لرياض المرزوقى :

رياض المرزوقى هو ابن الشاعر محمد المرزوقى (( ومن يشابه أباه فما ظلم )) ولعل مشابهة رياض لأبيه لا تتوقف على الشاعرية ، بل تتعداها إلى الشكل النحيف وان كان يفوقه جمالا وأرجو أن يفوقه شاعرية وقد سبق لى أن درست رياض فى القسم الثالث من التعليم الثانوى فى رادس مدة شهرين ولم أره بعد ذلك وانا فخور بان احد تلاميذى وصل الى هذا المستوى الطيب من الشاعرية ، ويكفى أن أقول ان قصيدة رياض قد سمح لها مستواها الشعرى أن تقفز من بريد القراء إلى داخل المجلة ، وكذلك استطاع اسمه ان يقفز الى (( الغلاف )) وهذا يدل على مدى شاعرية رياض المرزوقى .

وألاحظ أن بحر المتقارب الذى يتكون من اربع تفعيلات ( فعولن ) فى الصدر ومثلها فى العجز قد ثار عليه رياض وكتب قصيدته على ثلاث تفعيلات فى الصدر ومثلها فى العجز وهذا قليل نادر فى الشعر العربى ، وقد اكتسبت القصيدة موسيقى جديدة حتى كأنها ليست من بحر المتقارب .

لكنى لست موافقا الشاعر على جعله ( هند ) قافية ، وإن سبقه إلى ذلك عمر بن أبى ربيعة فى :

(( ليت هندا أنجزتنا ما تعد

           وشنفت انفسنا مما تجد

إذ قال :

قلت اهلا انتم بغيتنا          فتسمين ، فقالت : أنا هند

كما لا أوافقه على ابدال حرف جر بآخر فى قوله :

أهيم بجو الشقا         وفى الغرام استبد

فكان من حقه ان يقول ( بى ) ولكن الوزن فرض عليه ابدال الجر بآخر .

ولا أحب هذا البيت الذى يذكرنى بشعر عهود الانحطاط حيث يكثر التذلل والخضوع للمحبوب حتى تفقد الرجولة :

أنا العبد عند اللقا      ورقى لوجه وقد

وأرجو أن يعلم هذا الشاعر أن المرأة تحب رجولة العاشق لا ذلته وعبوته ورقه . . .     وما ألطف واعذب هذا البيت :

أحبك نهرا تدفق وانساب من غير سد

(( خواطر أسود )) لحسين سفطه :

لعل هذا القصيد من احسن ما قرأت لصاحبه ولكنه لا يخلو من لهجة تقريرية خالية من الايحاء ، وتذكرنا بعض أبيات هذا القصيد ببعض أبيات لفقها بعض القصاصين على لسان عنترة العبسى مثل قوله (( والمقصود هنا العجز )) :

شمس افريقيا اضرت بجلدى (( وفؤادى بياضه ليس يجحد ))

وان كان هذا المعنى يبدو جليا فى البيت الاخير :

والبياض الذى يسربل روحى      هو اسمى من الطلاء وأخلد

كما ان بعض أبيات هذا القصيد تذكرنا ببعض أبيات قصيد بعنوان الطين ) لايليا أبى ماضى وذلك حين يقول :

يا أخى الابيض اتئد لست فى الكون منارا ولو لمعت كفرقد

صاغنا الله طينة لم يكن عقلك أسمى ولا ذكاؤك أوقد

ولم أشر الى هذا التشابه لمجرد وجود لفظة الطين فى هذه القصيدة ولكنى أشرت الى ذلك لأن معنى هذين البيتين موجود فى قصيدة (( الطين )) لايليا أبى ماضى ، وأضيف بان القصيدين يتفقان فى البحر والروى أيضا .

(( ريحانة سوداء )) لنور الدين صمود :

لا أستطيع أن  أقول عن شعرى شيئا وأكتفى بان الاحظ أنها هى القصيدة الثالثة التى نشرتها في الفكر تحت عنوان ( ألوان جديدة ) ويلذ لى أن أعرف آراء غيرى فيها وفى سابقاتها ولاحقاتها من حيث الشكل ومن حيث المضمون .

قصائد أخرى

وعدد الفكر يضم قصائد أخرى ليس لى تعليق عليها احداها من الأردن لعيسى الناعورى (( ثنائيات )) وثانيتها من ليبيا للطفى عبد اللطيف (( من الشعر الحر )) ! وثالثتها من بيروت لأمية حمدان . قيل عنها إنها ( شعر ) وهى فى الحقيقة ( نثر ) خالص لم أجد فيها الا سطرا واحدا على بحر المتقارب وهو : ( نثرت الورود على قدميه ) والبقية كلها نثر غير مفهوم ...

وهناك قصيدة أخرى كنت أنوى الحديث عنها رغم انها فى (( بريد القراء )) ولكنى لما وصلت الى المقطع الثامن منها رأيت صاحبها على خشارم يخرج عن البحر الاصل وهو ( الرمل ) إلى بحر آخر وهو ( الكامل ) ، ثم يكتب بيتين فى المقطع التاسع على بحر الكامل ثم يعود الى الرمل فينهى به هذا المقطع وفى هذا خلط كبير ، ولو سلم هذا القصيد من أمثال هذه الهفوة لأمكن له أن يحتل مكانه داخل العدد ، لأن شاعرية هذا الشاعر قادرة على خلق ما هو أحسن . وفى (( البريد )) اسم شاعر آخر أراه مرة داخل العدد وأخرى فى بريد القراء وهو اسم (( أحمد المختار الهادى )) الذى انصحه بان لا يبعث الى الفكر الا الجيد الممتاز الذى يرضى عنه تمام الرضى ، واعتقد ان ذلك سيضمن له الخروج من ركن بريد القراء .

- وأختم الحديث عن الشعر بقصيد كان على ان ابدأ به ، أولا لانه منشور فى أوائل العدد وثانيا لانه للشاعر المجيد أحمد المختار الوزير ولكنى أردت ان أجعله (( مسك الختام )) لأنى لا أجد ما أعلق به عليه وقد ذكرتنى روح القصيدة بقصيدة أخرى لنفس الشاعر نشرت فى الفكر هذه السنة ، وهى قصيدة (( شاعر مصور )) وان كنت قد اعحبت بالاخرى أكثر من هذه ، وقد ذكرتنى هذه ببعض صفات الرسول الأعظم فى تسامحه وغفرانه لعدوان المعتدين .

النثر

(( لماذا التاريخ ؟ )) لمحمد حسين فنطر : عندما بدأ صاحب هذا المقال يكتب عرف باسم محمد فنتر (( بالتاء )) ، ثم عرف بعد مدة باسم محمد فنطر ( بالطاء ) ولما تصفحت هذا العدد وجدت هذا المقال بقلم محمد حسبن فنتر ( بزيادة حسين ) ، والسيد صاحب هذا المقال من المعتنين بالتاريخ والحفريات الأثرية ، ويعرف ما للضبط من قيمة فى ميدان التاريخ والآثار وقد قلت بينى وبين نفسى : لماذا كل هذا الاضطراب فى الاسم ؟ . فاذا كان الكاتب لم يتحقق من ضبط اسمه فكيف يستطيع تحقيق ضبط أسماء القدماء ؟ لقد انشدت مع شاعر الرافدين معروف الرصافى إثر كل هذا :

وما كتب التاريخ فى كل ما روت

             لقرائها - إلا حديث ملفق

نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا

          فكيف لأمر الغابرين نصدق ؟

وأقول مع صاحب المقال : (( لماذا التاريخ ؟ )) .

(( كيمياء الفن ))

للبشير المجدوب أسلوب معروف ، واذا كنت قد قرأت له بعضا من فصوله الفنية على صفحات (( الفكر )) ، فانك تستطيع أن تقرأ فقرات من كتاباته فتهتدى الى أنه هو صاحبها دون أن تقرأ اسمه فوقها أو تحتها . وتلك محمدة تدل على أن الاديب أصيل ذو أسلوب معروف وطريقة واضحة .

فالبشير المجدوب يلجأ الى الصيغ الصرفية القليلة الاستعمال ، ويعمل على احياء كثير من الألفاظ المتروكة وكثيرا ما يهمل حروف العطف . . . ويمتاز فوق ذلك بمخاطبة القارئ وأمره والاكثار من التمييز ،٠٠٠ ومن (( المفعول المطلق )) مرة من لفظه ومرات من غير لفظه ، وإليك هذه المقاطع :

(( إنه الحسن القحام يسطو عليك سطوا يتحداك عربدة وجموحا حتى تكاد يصرخ حسك من فيضه وحدته حرجا وارهاقا . . .

وتهدأ فى نفسك ثائرة الألوان وصدمتها الأولى فاذا انت تتذوق الغروب على مهل وتنفذ الى صميمه . فتجد فيه شيئا من جمال المرأة ، معانى شتى من اسرار الحب . رقة وجلال بهجة وكآبة . كبرياء وأسى . ( ؟ )

. . . . . . . . شجيرة لوز مزهرة فى كسائها الانيق ترف بياضا فتتمثل لك - فى مدى اللحظة - كاعبا هلت أنوثتها وأطلت فى حياء وتردد ، ايماء وتلويحا . . .

وهذه الوردة الغضة الميللة بالندى ترمقها منذ حين وتنعم النظر اليها ألم ترها ، لمحة طرف ، (( أم لعلك واهم أو موسوس )) حسناء خارجة من البحر يقطر جسمها ويتصبب ماء ولؤلؤا ؟ ! ))

ولعا هذه المقتطفات القصيرة قد اعطتنا صورة لطريقة البشير المجدوب فى الكتابة ،

انى كلما قرأت فصلا من فصول هذا الكاتب أقول ليت هذا الأديب يتحول الى (( شاعر )) فأسلوبه أقرب إلى أسلوب ( الشعراء ) منه إلى أسلوب ( الناثرين ) ، وبما أن الله خلقه ناثرا ولم يخلقه شاعرا فانى أرجو منه أن

يتجه - ولو فى بعض الأحيان - إلى الاسلوب النثرى الواضح مثل : الدراسات والنقد ، فحرام ان يضيع أديب مبرز ممتاز فى ضباب هذا الأسلوب النثرى الذى يعتمد طريقة الشعراء . ولنفرض أن هذا الأديب خلق شاعرا ، أليس عليه أن يقوم ببعض الدراسات المنهجية البعيدة عن الضبابية الشعرية ؟

(( بين أطلال برلين )) للطاهر اللبيب :

تحدثت منذ حين عن أسلوب البشير المجدوب المعروف ولكن يؤسفنى أن أتراجع فى ذلك الكلام لانك اذا قرأت شيئا مما يكتبه الطاهر اللبيب فانك لن تستطيع التمييز بينه وبين ما يكتبه البشير المجدوب ، واذا كنت ما زلت تتذكر بعض الخاصيات التى نسبتها للمجدوب فانك ستجدها متجسمة فيما يكتبه اللبيب . واليك هذا المقطع :

(( يخيل إليك وأنت هائم فى ثنايا برلين ، يبتلعك شارع فيلفظك آخر أنك سائر فى وحل تخفى عنك طبيعته . ليس الا التثبت والالتفات والتساؤل . فانت فى بقعة من الأرض يمثل بين يديك ماض حاضر أبدا . الحضارة تهمس اليك . تتاجيك وتحدثك . ليس إلا السماع . فلتغض البصر . لينفذ الذهن منك الى ما وراء الخبز فى المزابل يسمن ويغنى من جوع ! لتستحل البكر بلورا شفافا . (!) ارغمها على المستحيل . اترك ضباب الماضى يغطى وجنتيها . اسدل جفنها الهامس ، واطل فستانها الوردى القصير .

على كل فقد انتهى دورك . وجفاك أهلك . فمحيت من لوحاتهم ، وغبت عن اشعارهم . بل ومنعت الفتات أكلا . (!)

واعتقد ان فى هذا النموذج كفاية للتدليل على ما قلت من أن الطاهر اللبيب متأثرا إلى حد كبير بالبشير المجدوب ، وناجح أيما نجاح فى تقليده والتتلمذ عليه ، وأرجو ان يجد يوما طريقته الخاصة ويستغنى عن الاتكاء على أديب آخر .

(( قصتنا التى لم تكن )) لمحمد مصمولى :

كانت مجلة (( الفكر )) فى السابق تضع اسم صاحب هذه (( القصة التى لم تكن )) ، فى عداد الشعراء على غلافها وتكتب تحت عناوين كتاباته فى

الداخل (( شعر : محمد مصمولى )) وتفعل كذلك فى الفهرست ، ولكن المصمولى هذه الأيام أصبح رساما (( للوحات من أدب الوجدان )) يكتبها (( بريشته )) وبما أن المجلة ليس لها باب (( للرسم )) فانها لم تجد أين تضع اسمه هذه المرة على الغلاف .

ومهما يكن من أمر فان محمد مصمولى تعوزه الاوزان والاعاريض ليكون شاعرا من نوع خاص ، شاعرا (( لا يستعير أصابع الآخرين ولا يشرب من محابرهم )) على حد تعبير نزار قبانى . تحس وانت تقرأه أنك ترتاد أجواء جديدة وطريقا بكرا :      (( أحببتك . . . وأحبك واحة ضائعة إلى الأبد . أبحث عنها إلى الأبد ولن أجدها الى الأبد . . )) مثل إرم ذات العماد فى أساطير العرب .

(( نحن والشعر الحر )) لمحمد الصالح الجابرى :

الحديث عن هذا المقال يحتاج إلى صفحات عديدة وقد كدت أن أرجىء التعليق عنه الى العدد القادم حيث يتوفر الوقت والامكانيات اللازمة ولكنى فضلت أن أتكلم عنه بسرعة ، ولو اضطررت إلى شىء من الاختصار .

أعاد صاحب المقال إلى الأذهان المعركة التى دارت حول (( الشعر الحر )) ، فنازك الملائكة ترى أنها قد سبقت جميع الشعراء إلى نشر قصيدة (( الكوليرا )) فى أواخر سنة 1947 وفى نفس الوقت صدر ديوان (( أزهار ذابلة )) أو (( ازهار وأساطير (1) لبدر شاكر السياب ، ثم اثبت بعض المصريين أن (( لويس عوض )) هو أول من نشر شعرا حرا ؛ فقد نشر مطولة شعرية بعنوان (( العنقاء (2) )) . وأشار الجابرى ، إلى أن هلال ناجى ونور الدين صمود كشفا عن أثر لعلى أحمد باكثير سبق هذه المحاولات وهى ترجمته (( لروميو وجولييت )) بطريقة الشعر الحر عام 1937 أى قبل محاولة السياب ونازك بعشرة أعوام وقام (( باكثير )) بمحاولة أخرى سنة 1940 بتأليف (( أخناتون ونفرتيتى )) بطريقة الشعر الحر أيضا .

وهنا قال الجابرى : وكان الرأى الذى انتهيا إليه (( ناجى وصمود )) هو أن (( الشعر المرسل (3) ولد فى اليمن ، وأول من ابتكره الشاعر المجدد الاستاذ على أحمد باكثير فى تعريبه رائعة شكسبير روميو وجولييت عام 1937 . . . ))

والحقيقة أنى لم أنته إلى هذا الرأى فهذا كلام هلال ناجى كما أشار صاحب المقال ، لأنى عثرت على شعر حر سبق باكثير بكثير ولم يولد فى اليمن وسأشير إلى ذلك بعد حين .

أضف إلى ذلك أنى لم اقطع ولم اجزم بان شاعرا ما سبق إلى كتابة الشعر الحر فقد قلت بالحرف الواحد فى أول مقال (( رواد حركة الشعر الحر )) . . . (( وفى هذا الحديث حاولت الكشف عن الرواد الأول لحركة الشعر الحر . وبينت خطأ بعض الذين حاولوا التاريخ لهذه الحركة . ورجائى ان يوجد من يعثر على نماذج تسبق هذه النماذج التى ذكرتها فى هذا البحث ، ليصحح بحثى كما صحت بحث السابقين . . . فرائدنا جميعا الحق أمام وجه التاريخ )) (4)

وقد سررت عندما قال الجابرى : (( . . . إن تجربة قصيرة عانيتها فى تصفح ملامح الأدب التونسى من خلال الصحافة والدوريات والمطبوعات كانت كافية لان تشجعنى على طرح النقاش من جديد فى كل ما يهم التطور الفنى للشعر الحديث ، والأشكال التعبيرية التى هبت مع هذا القرن العشرين )) .

وقد عثر الجابرى على قصيدة لبيرم التونسى من الشعر الحر فى الصحافة التونسية يعود تاريخها إلى 16 جانفى 1933 بجريدة (( الزمان )) وقدمها بقوله : والقصيدة الحديثة التى سنعرضها ، وقد عنون لها بيرم التونسى بالشعر الحديث وأمضى تحتها ب (( شاعر (5) جديد )) ، هى فى رأينا ربما تكون أولى قصائد الشعر الحر . . . فى تونس ، وفى البلاد العربية الاخرى . ولست أشك فى أنها - بغض النظر عن فحواها ومضمونها - ستكون سبيلا لاعادة النظر فى مسألة الأسبقية والأولوية فى الدعوى الى الخروج عن الاشكال والقوالب العتيقة والإشارة إلى وجوب خلق تراكيب تماشى التطور الفنى للشعر العربى )) . ثم ذكر القصيدة (6) وقال إثرها : (( وبالرجوع الى التاريخ الذى اقره هلال ناجى ، ونور الدين صمود ، نجد أن قصيدة بيرم التونسى التى قالها فى تونس ، وحدت قبل أن يضع (!) أحمد باكثير مسرحيه ( روميو وجولييت ) بثلاث سنوات على الأقل ، وهو تاريخ له اعتباره وقيمته فى التأسيس لولادة الشعر الحر . . . )) وقصيدة بيرم هذه بعنوان (( الكون )) (6) .

لعل الحابرى لم يقرأ كامل مقالى عن (( رواد حركة الشعر الحر )) المشار اليه آنفا فأنا - كما ذكرت منذ حين - لم أقل بأن أول من كتب الشعر الحر هو أحمد على باكثير بل قدمت فى أواخر المقال قصيدة للدكتور نقولا فياض ، بعنوان (( يا ليل )) من ديوانه (( رفيف الاقحوان )) بتاريخ 1939 كتبت قبل قصيدة ( الكوليرا ) بثمانية أعوام . وقدمت أيضا قصيدة أخرى من نفس الديوان بعنوان ( اعتراف ) (( مكتوبة فى جبل (( فولكشتين )) بالنمسا سنة 1928 كما يشير الشاعر ( ص 73 ) أى قبل قصيدة ( الكوليرا ) لنازك بتسعة عشرة سنة )) (7) .

وأضيف هنا بأنه اكتبت قبل قصيدة ( الكون ) لبيرم بخمس سنوات على الأقل .

ولذلك فقد أخطأ الحابرى عندما قال ، عن قصيدة ( الكون ) : انها ربما كانت أولى قصائد الشعر الحر . . . فى تونس وفى البلاد العربية الاخرى . ليست أشك فى انها . . . ستكون سبيلا لاعادة النظر فى مسألة الاسبقية الأولوية فى الدعوى إلى الخروج عن الأشكال والقوالب العتيقة )) .

ولكنى أعتقد أنها ستثبت للتونسيين مساهمة فى وضع اللبنات الأولى فى هذا الميدان .

وأعود الآن إلى التعليق على قصيدة ( الكون ) لبيرم التونسى : المقطع الأول رقم (1) ليس من الشعر الحر فى شىء ويمكن كتابته على هذه الصورة - أو على صور أخرى دون ان ننسبه إلى الشعر الحر :

من بعد ما أبصرته متيقنا      أيقنت أن الكون فى نفسى أنا

الكون : عيناى اللتان بلاهما (!)

لا أبصر النوار                أو بهجة الأشجار

فى دكنة الغبراء               من فوقها الزرقاء

هل يبصر الأعمى القمر     من خلف أوراق الشجر

كنحر ظبى أغيد ( ! )       من خلف عقد أسود ( 8 )

وتبعا لهذا التوازن بين أجزاء هذا المقطع فانه ينتفى أن تكون من الشعر الحر .

الا ان الحرية تلاحظ بصورة أوضح فى المقاطع الموالية للمقطع الأول ، ولكن توزيعها على الأسطر غير صحيح ، فالاسطر الثلاثة الاولى من المقطع الثانى مكتوبة هكذا :

(( سمعى !. . . ولولا مسمعى مارنة الوتر الحنون ونقرة الدف المحرك للشجون )) وهكذا لا تستطيع أن تقرأ أى سطر بمفرده على انه موزون على تفعيله بحر لكامل ( متفاعلن ) .

لذا يحب ان تكتب هذه الاسطر هكذا مثلا : (( سمعى ! . . ولولا مسمعى مارنة الوتر الحنون ونقرة الدف المحرك للشجون )) أو أن تكتب فى سطر واحد لئلا يتعثر القارىء فى الوزن .

وأما المقطع الثالث ، ففيه اضطراب أيضا ، والعجيب أن الشاعر ينهى السطر الاول ب(( ـأل )) يأتى بثلاثة أسطر متساوية ذات قافية واحدة ؛ إذا قرأناها على أنها من (( الكامل )) اضطررنا إلى ( تضعيف ) الخاء من كلمة ( الدخان ) واذا حافظنا على القاعدة ولم نضاعف ( الخاء ) انقلبت الأسطر الثلاثة إلى ( رجز ) . وأما السطران : الخامس والسادس فيجب إدماجهما ، كما رأينا فى المقطع الثانى أو جعلهما سطرين متساويين بشرط أن نكرر ( لام ) (( التأكيد )) فنقول :

ولغشنى السماك فى سوق ( الخضار ) (( ! )) ( 9 ) ولباعنى الجزار لحما منتنا

لان السطرين على صورتيهما الأصلية لا يستقيم وزن كل منهما على حدة ، وإن كان بعض الشعراء يرتكبون هذه الهفوة إلى الآن ويوزعون أسطر الشعر الحر بطريقة لا تتماشى مع الوزن .

وأما المقطع الأخير رقم ( 4-5 ) فالحديث عنه يطول ، لانه مضطرب وينتهى بثلاثة أسطر على بحر الهزج .

وقد أشار الجابرى الى ذلك باختصار إذ قال إن بيرم كان ينزلق أحيانا من بحر الى مشابهه فى هذه القصيدة .

أما محاولة العروسى المطوى التى نشرت فى مجلة ( تونس المصورة ) فقد كنا نود أن نعرف تاريخها بالضبط وهى على أى حال فى حاجة إلى كثير من التعليق الذى لا يسمح به المقام واعتقد ان صاحبها نفسه لا يعدها من الشعر .

وأما المقطع الذى أورده الجابرى لعبد الرزاق كرباكة فانه شديد الصلة بالشعر التقليدى أو على الاصح بشعر (( الموشحات )) ، ويمكن ان يكتب بطريقة أخرى على نحو ما رأينا فى المقطع الأول من محاولة بيرم وبذلك ينتفى أن يكون من الشعر الحر .

وهكذا نرى أن محاولة بيرم فقط هى التى يمكن ان تعد من الشعر الحر ، وأنها ليست من أقدم ما كتب فى الشعر الحر ، فقد سبقه نقولا فياض بخمس سنوات كما بينت . وسوف أثبت فى فرصة أخرى ان أقدم من كتب شعرا شبيها بالشعر الحر هو أبو العلاء المعرى . ولعل هذا القول سيكون مدعاة للتعجب . فلنترك الحديث عن ذلك إلى فرصة أخرى .

ذلك هو رأييى في بعض مواد العدد الماضى من الفكر وقد كنت أتمنى ان اجد الوقت والمجال الكافيين لاعلق على جميع مواد المجلة ، وذلك لا يستطيع ان يقوم بة إلا إنسان متفرغ .

ورجائى أن تتتالى فى المجلة امثال هذه الحلقات وأن يشارك القراء فى إبداء آرائهم فيما يرضيهم وما يسخطهم مما يقرؤون وليكن رائد الجميع الصراحة والبعد عن المجاملة لخدمة الأدب الحق .

اشترك في نشرتنا البريدية