القاها فضيلته فى ليلة ٢٥ ذي الحجة ١٣٨٨ بقاعة المحاضرات برابطة العالم الاسلامي بمكة المكرمة .
" الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين "
فى سبيل اصلاح الامة يجب النظر اولا الى وجود دعامتين عظيمتين لهذا الاصلاح اولاهما دعوة الى اصلاح الدين بان يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا فى كل انواع العبادة ومنها الذبح والاستعانة وغيرهما .
وثانيهما دعوة الناس الى اصلاح دنياهم بأن ينتهوا عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وان ينتهوا عن التطفيف في الكيل والميزان وان يوفوا الناس حقوقهم ويأخذوا حقوقهم بالقسطاس المستقيم واذا انتهى الناس في الامة عن كل قبيح وسعوا لعمل كل طيب اخرج الله لهم من الطيبات ومن كل الثمرات ما تميل اليه نفوسهم .
أما إذا اساءوا إلى أنفسهم وظلموا العباد والحقوق ولم يجد العقل السليم منفذا الى البحث والتنقيب فهناك يقع على الامة القدر المحتوم .
والعقل السليم يوجب في كل امر جديد ان يجول فيه جولة المنقب في ارجائه الباحث في ثناياه ومناحيه الناظر في ادلته الناقد المقدماته ونتائجه حتى اذا تبين له ان الحق في جانبه والرشد في اتباعه ، قبله عن رضا
اختيار وخضع له بالبينة ورفض ما هو عليه مما يخالف هذا الحق .
أما إذا بادر إلى الرفض وسارع إلى التكذب والإنكار من غير تبصر في هذا الامر وفي حال من يدعو اليه من الخلال الطيبة والفضائل الكاملة كان مآل الامة مآل غيرها ممن سبقها من الأمم .
ولم تمض أمة من الامم الخالية الا وقد وسوس اليها الشيطان فاعرضت عما ذكرت به من شرائع الله واتخذت آيات الله هزوا وذلك كما أخبر الله في كتابه العزيز اذ قال فى شأن الذين كذبوا رسوله سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم : ( كذلك ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر او مجنون ) هكذا اخبر الله تعالى وأوضح لنا السبب الذي من أجله قابلت كل امة رسولها بالتكذيب فذكر ان منشا ذلك هو الطغيان وهو تجاوز الحد فى العصيان . حتى يؤدى بهم ذلك الى التكذيب لعقوبة الطغيان نفسها . والاهم كلهم ممن سبق كانوا سواء فكانه أوصى بعضهم بعضا بذلك قال الله سبحانه : ( اتواصوا به بل هم قوم طاغون ) وقد أخبرنا الله تعالى ان سنته فى الكون هي نصر الحق وأهله على الباطل واشياعه ، قال سبحانه : ( انا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ) وقال : وكان حقا علينا نصر المؤمنين ( ومن يتدبر فى آيات الله الكونية يتضح له غاية الوضوح ان العقاب الذي ينزله الله بالامم المكذبة لا يكون الا بعد ان يبلغ الرسل في الوعظ والهداية والانذار والاعذار الغاية كما انه لا يكون الا بعد ان تبلغ الامم حدا في العناد الاستكبار والاغراق فى الفسق والفجور للنهاية
ومثلنا الاول في ذلك ما قصة الله تعالى
شان سيدنا نوح عليه السلام مع قومه فقال نوح عليه السلام : (قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي الا فرارا واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم واصروا واستكبروا استكبارا ثم اني دعوتهم جهارا ثم انى اعلنت لهم واسررت لهم اسرارا فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا ) الخ الآيات .
فهكذا كان شان نوح عليه السلاع مع قومه وشأنهم معه . يرجو لهم ان يستمعوا اليه ويستجيبوا فتحدثه نفسه انهم عسى ان يهتدوا ويؤمنوا ثم هم يقابلون رجاءه وحديث نفسه بالاعراض والتكذيب وهكذا دواليك : أمل منه ورجاء ، وكفر منهم واباء ، حتى يئس من ايمانهم وانقطع حبل الرجاء من اهتدائهم فكان من نتيجة ذلك ان دعا الله عليهم ليطهر الارض من رجسهم وطغيانهم وانتشار الفساد وتاصيله فيهم ببقائهم . فقال : ( رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا )
وكل رسول كانت تحدثه نفسه الزكية الطاهرة لعظم شغفها ، بهداية العباد ان قومه عسى ان يسمعوا له ويطيعوه ويذعنوا تدعوة الله الصادقة وبهذا صبر وصابر وثابر على مواصلة التبليغ والتعليم والنصح والوعظ حتى اذا يئس هذا الرسول جاءه النصر الذي كتبه الله في وعده : ( لاغلبن انا ورسلي )
وكان من الامم السابقة بعد امة نوح عليه السلام امة سيدنا شعيب عليه السلام فان الله سبحانه وهو ذو الفضل العظيم ارسل شعيبا وهو الحكيم الخطيب وجعله على بينة من امره ورزقه مندنه رزقا حسنا . فجاء قومه مبلغا لما امره الله به لا يريد
جزاء ولا شكورا بل لا يريد الا الاصلاح ما استطاع محتسبا اجره على الله الذي لا يضيع اجر من احسن عملا . مستمدا منه تعالى السداد والتوفيق متوكلا عليه في جميع اموره ما قدر عليه ، وما عجز عنه ، راجعا الى الله بالفعل والقول في وقت امنه وسلامته . فانار سيدنا شعيب لهم المحجة وابان الطريق وفعل كل ما يستطيع وحذرهم سوء المصير اذا لم يستجيبوا له شانه شأن جميع الرسل فى ذلك ولكن القوم ابوا الا ان يتبعوا خطوات الشيطان فحاسب الله امته حسابا شديدا وعذبها عذابا نكرا فذاقت وبال امرها وكان عاقبة امرها خسرا . قال الله سبحانه : ( وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كان لم يفنوا فيها . الا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ) والأخذ هو تناول الشئ وحيازته وهو يحصل بكيفات مختلفة فالصيحة تناولت القوم تناولا اليما وقسرتهم قسرا لم تقم بعدها لهم قائمة ، ووصفهم الله بانهم الذين ظلموا لانهم احق بهذا الوصف وهو اليق بهم ولأنهم استحقوا هذا العذاب لتماديهم في الفجور والفسق والطغيان ( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ).
وأمة شعيب هم اهل مدين ، وهم اصحاب الأيكية ، تضاف مرة إلى مدين ، لانها من تربتها ، وتضاف مرة إلى الأيكة لانهم كانوا يعبدونها ، او يقطنون في مكانها ، والأيكة هى الشجرة الملتفة الكبيرة أو هي الغيضة .
والعقاب الذي استحقه أهل هدين لسوء اعمالهم ، قد سماه الله صيحة ، والصيحة هى الصرخة باقصى طاقة الصارخ ، فهي صوت شديد تهلع منه القلوب وتفزع النفوس وسميت في مكان آخر بالرجفة ، وهي شدة الاضطراب وزلزلته ، وعنف حركته ، وسميت فى مكان ثالث بالظلة وهى السحاب الذي
يكره ولا تحمد عاقبته . ولكل اسم من هذه الاسماء حكمة بلاغية فائقة ، اقتضت التعبير به عن العقاب الذي نزل بأهل مدين
أما حكمة التعبير بالصيحة فهي ان الله قص علينا في سورة هود ( والى مدين ) الخ . انهم قالوا لنبي الله شعيب عليه السلام على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقصاتك نامرك ان نترز ما يعبد اباءنا او أن نفعل فى أموالنا ما نشاء انك انت الحليم الرشيد ) فناسب ان يذكر الصيحة التى هى كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الفصيح فجاءتهم الصيحة واسكتهم ، واما حكمة الرجفة فهي انهم ارجفوا بنبى الله واصحابه وتوعدوهم بالاخراج من قريتهم أو ليعودوا في ملتهم راجعين قال تعالى : فاخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين فقابل الارجاف بالرجفة .
وأما حكمة الوصف بالظلة فهي ان الله قد اجابهم الى ما طلبوا وأسعفهم بما رغبوا فيه فانهم قالوا لرسولهم الارجح عقلا والأصدق قولا : ( انما انت من المسحرين وما انت الا بشر مثلنا وان نظنك لمن الكاذبين . فاسقط علينا كسفا من السماء ان كنت من الصادقين قال ربي اعلم بما تعملون ) . ثم قال الله تعالى وهو السميع العليم ( فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة انه كان عذاب يوم عظيم )
وسواء كان هلاكهم بالصيحة أم الرجله ام الظلة فانه كان عذابا عظيما ويستحقه كل مغرور مخدوع ممن حقت عليهم كلمة العذاب .
وكانت الحكمة فى ان تكون الصيحة صباحا فى قوله : ( فاصبحوا في ديارهم
جاثمين ) لان الصباح وقت الأمن والهدوء والاطمئنان ، وجاثمين أى ملتصقين بالارض لا ينفكون عنها لا يبرحون ، فالعقاب جاء القوم وهم في غمرتهم ساهون ، وهم مشتغلون في وقت الفرح والأمان والطمانة ، كان لم يغنوا فيها ، أي ان من رأى ارض مدين بعد أن أخذتهم الصيحة ، يظن انهم لم يكونوا مقيمين بها عائشين فوق ارضها ، وتلك حكمة الله وسنته في خلقه ، ولن تجد لسنة الله بديلا
وبعد فقد سمعتهم ايها السادة ويا ايها الاخوان ، ما يحيق بمن لا يريدون الاصلاح ، وعاقبة الذين يبعدون عن الدين ، ويظلمون انفسهم ، باتباع اهوائهم وضلالات غيرهم ثم بعد ذلك ارجو ان تقارنوا بين ما سمعتم الآن ، وبين ما رايتموه بالامس القريب ، مما حصل من النكبة الكبرى ، التى إذاقت العرب والمسلمين الأمرين
ارجو ان تقارنوا بين الاثنين فلعل النفوس تنشط ، ولعل القلوب ترجع الى ربها منيبة خاشعة .
لقد سلط الله العدو على البلاد العربية فى صباح يوم كما راتم وعلمتم ، وما هي الا ساعات قليلة حتى قضى على قوى العرب فى مكانها ، وحتى اعترف زعماء العرب بكل ما هنالك . وحتى الذين حملوا انفسهم ما لا يطيقون .
كانت النكبة عظيمة ، وكانت النكبة خسارة ، وكان لليهود انتصار ولكنه فاشل باذن الله .
انا لا استطيع ان اجزم بما في قلوب
الزعماء والرؤساء ولكنى ارجو الله ان يهئ لهم من امرهم رشدا ، وان يهديهم سواء السبيل فيتمسكوا بالطريق المستقيم : صراط الذين انعم الله عليهم .
واسأل الله لهم العون في ذلك ، اسال الله من كل قلبي أن يهدينا الرشد ويجنبنا الغي ، ولا يجعلنا مثلا للغير
اسأل الله أن يثبت قلوبنا على الايمان وان يثبت جميع الرؤساء على الايمان بالله واليوم الآخر ، حتى نكون من الذين يتم لهم وعد الله بالنصر ، وانه تقريب باذن الله تعالى .
وان الأمر لكما تفضل به بعض حضرات الاخوان الكرام وقالوا من قبل انه لا سبيل الى النصر على الأعداء الا بالاسلام .
فكذلك نحن نقول وكل عاقل يقول ، ان الاسلام هو سبيل اصلاح الاهة وهو سبيل النصر على الاعداء وهو سبيل التوكل على الله وطريق التقوى والخوف من الله والله تعالى يقول : ( ومن يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره ) .
وحسبنا قوله تعالى : ( انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) . وانه وعد الله ولن يخلف الله وعده .
أملنا في الله عظيم ان يجعل المسلمين يدا واحدة وان يهدى من شذ منهم الى سواء السبيل . ومن هدى رجال العرب المخلصين الاولين للدخول فى دين الله واتباع الاسلام قادر أن يهدى رجال العرب الآخرين فيصلحوا كما صلح الاولون والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم .
( مكة المكرمة)
