ان الذى يدرس حالة أسبانيا وحكمها للمغرب الأقصى حكما استبداديا ستأخذه الدهشة والحيرة معا إذا توغل فى تلك الدراسة قليلا ، وتعمق فى البحث عن استكناه الحقائق . من الأحداث التاريخية الجسيمة والحوادث الدامية التى كانت بمثابة " وصمة عار " فى جبهة أسبانيا و " وسام فخار " فى جبين العرب الذين جاهدوا جهاد المستميت وكافحوا كفاح الأبطال حتى أثبتوا للعالم ، غربه وشرقه ، أنهم يفهمون معنى ) الحرية ( أكثر مما تفهمه الدول التى تتمشدق بهذه الكلمة .
وليس من شك فى ان أسبانيا مدينة للعرب بحضارتها ، وتقدمها . . لاسيما فى الحقلين المعماري والأثرى . وهذا نلمسه كلما زرنا مدن " غرناطة " و " اشبيلية و " طنجة " ) كذا ( ، واننا لواجدون فيها كل ما يشير الى أن العرب قد خلفوا فيها من آثار المدنية والتحضر ما يبهر العقل ، ويحير الفكر ويجعل الضمير يرضخ لمنطق الحق : وهو أحقية العرب بالسمو الفكرى ، والعظمة النفسية . والتوقد الذهنى .
وقد كانت أسبانيا - منذ القرن التاسع عشر - تحلم حلما لذيذا تغتبط به كثيرا ، وتتصور تصورا خياليا إمكانية تأليف وحدة اقتصادية ، وسياسية ، وجغرافية من ضم تونس ، والجزائر ، ومراكش ، وطنجة ، واقليم تطوان ) كذا ( ، وقد ظهر ذلك في جهودها ومحاولاتها احتلال هذه البلدان العربية فى أحقاب مختلفة من التاريخ بعد ان سقطت " الاندلس " بفترة قصيرة .
وقد بذلت اسبانيا فى القرن التاسع عشر ايضا - جهودا يائسة لبسط سيطرتها على " مرا كش " وإدماجها تحت استعمارها غير ان الدولة الاستعمارية الثانية - اقصد فرنسا كانت أسرع منها فنشرت لواء احتلالها عليها لأن جيوشها كانت " فى الجزائر وهي ملاحمة - تقريبا لمراكش، وكاد الاتفاق يتم بين فرنسا وأسبانيا على تجزئة هذا الجزء العربي من شمال افريقيا الى جزئين بالمناصفة إلا أن فرنسا غمطت حقوق
شريكتها فى " الاستعمار " فلم تسمح لها إلا باحتلال منطقة صغيرة من المغرب الأقصى لا تربو مساحتها عن ١٩٦٠٠ كيلو مترا تقريبا
وعندما أصبحت هذه المنطقة الواقعة شمال المغرب " تحت حكمها - استأنفت أسبانيا تحلم مرة أخرى - حلما أجمل وألذ من سابقه وشرعت تفكر في تحقيق ذلك الحلم الجميل فى نظرها . على أنها كانت قاسية وغير صائبة فى الطريقة التى اختارتها للحكم فى هذا الجزء الصغير من " المغرب " فقد وضعت خطة مرسومة للسير بموجبها سواء حسنت النتيجة أم ساءت غير عابئة بما يخبئ لها القدر ) الكاتب استعمل كلمة " الطبيعة " بدلا من القدر ( ، ذلك لأن العرب . قد جبلوا على حياة الانطلاق وحب الحرية ولا يرضيهم باي حال من الأحوال - ان يكون الأجنبى هو الحاكم المتصرف في شؤونهم ، وأمور حياتهم ويتحكم فى مستقبلهم وكيانهم ومصيرهم . هذا وقد اتجهت سياسة أسبانيا الى اهداف واضحة كل الوضوح اكتنفتها مطامعها وحبها للاستيلاء على أراضي الأمم الضعيفة وبسط سيطرتها عليها . وهذه الأهداف الواضحة ، والمبادئ الرئيسية لسياسة أسبانيا لم تؤثر فيها تلك الأحداث السياسية ، بما فيها الحرب الأسبانية الأهلية ، ولا الانقلابات الاهلية والانقلابات الاقليمية ولا التطورات التى حدثت فى السياسة العالمية فقد ظلت تسير على سياسة منظمة مدروسة بعد أن اطلقت العنان لنزواتها ، واستمرت تسفك دماء الابرياء الذين كانوا متعطشين لشرب كأس " الحرية " . . فقاموا ، ونهضوا ، ونادوا ، مطالبين بحقهم فى حياة يشمون فيها عبير " الحرية " و " عبق الاستقلال . "
بيد أنها كانت وطدت العزم على الاستمرار فى سياستها معتمدة على بعض عناصر قوية لأمكان تنفيذ خططها المحكمة . . ثم أمنت لها كل ما يلزمها من وسائل معنوية ، وطرق مادية حتى يمكنها تحقيق ما انتوته نحو هذا الشعب العربي ولا زالت - هي - تسعى ، بكل ما أوتيت من حيلة وسعة صدر ، لتنفيذ سياستها المدروسة
