الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "المنهل"

استفتاء السنة, هل الحروب تطوي الحضارات أم تنشرها

Share

٦

رأى الاستاذ محمد سعيد العامودى

لعل لهذا الاستفتاء الذي شاءت مجلة المنهل الغراء ان توجهه إلى الادباء ، فى هذه الايام - عدى ما يصطبغ به من طرافة وتجديد من ناحية الصحفية - مغزاه الخاص ، مغزاه الذى ان دل على شئ فانما يدل على اهمية ما يحسه الناس من خطر الحرب العظيم ، وعلى فداحة ما يقدرونه لنتائجها من تاثير حاسم في سير الحضارات وفي مقدرات الشعوب :

للحروب كائنة ما كانت تأثيرها الحاسم ولا جدال ، ليس بالنسبة الى الجموع المتقابلة فى الجبهات والميادين فحسب ، بل بالنسبة الى ماسوى هذه الجموع ايضا من اولئك الذين يسمونهم فى لغة هذا العصر " السكان المدنيين " ومن الواضح الذي لا يحتاج الى دليل أن الغالب والمغلوب متساويان أمام هذا التأثير !

فاول ظاهرة من ظاهرات هذا التأثير وأهمها ، هو ما يتكبده كلا الفريقين المتحاربين من خسارة مؤلمة في الارواح ، فمهما كانت الحرب المشتبكة بين فريقين من الناس بسيطة جدا ، او مهما كانت ) بدائية ( فالذي لا شك فيه آن خسارة الأرواح فيها محققة

هذه الأخطار التى هى نتيجة محتومة لكل حرب كما اسلفنا ، هذه الاخطار

هى التى تجعل الحرب بغيضة لدى كل النفوس فى كل جيل من الأجيال ، وفي كل بلد من البلدان .

بغيضة هى الحرب لدى كل النفوس

حتى أولئك السباقون الى ميادينها . . حتى أولئك الذين إذا ما حمى الوطيس يظهرون ما يظهرون من بسالة واقدام ، ومن تضحية بالنفس ، واقبال على الموت ، حتى أولئك الأبطال بحق انما يخوضون غمار الوغي اضطرارا لا اختيارا وانما يقدمون الى الحرب في شجاعة ورغبة وحماس ، لا حبا فى الحرب ، وانما لأن السبب أو الفكرة التى تدفعهم اليها تحتم عليهم هذا الأقدام وهذه الرغبة وهذا الحماس . اما شعور البغض للحرب من حيث هى فما يزال كامنا فى نفوسهم كمونه الذي لا يمكن ان يحول ، ذلك لان نفوسهم لم تخرج عن كونها نفوسا انسانية لديها من الاحساس بالحياة وبما يجب أن تكون . . ما يركز فيها هذا الشعور ، وسرعان ما ينتهي ما يخوضون غماره من حرب ، وتنتهى دوافع ذلك ودواعيه ، حتى ينكشف وجه الحق ، وحتى يتجلى للعيان هذا البغض الغريزي المكبوت ، ويطفو من عقل الانسان الباطن ، الى عقله الواعي ، ذلك العقل الذي تعود دواما أن ينظر الى الأشياء بما هى ، على ضوء من التأمل والمنطق والتحليل !

بغيضة هي الحرب لدى كل النفوس ! قال عنها اشهر قواد الحروب في العصور الحديثة نابليون بونابرت " انها عمل بربرى وحشي " وقال عنها قائد شهير آخر " لو شهدت يوما من ايام الحرب لتوسلت الى الله ان لا يريك يوما ثانيا منها " وقال عنها هذا القائد ايضا " ليس أفظع من الأنكسار فى المعركة الا الانتصار فيها " وقال عنها نابليون " ما الحرب الا أعمال بربرية منظمة وهى من بقايا الهمجية مهما اختلفت مظاهرها وأشكالها :

بغيضة هي الحرب ولكنها ماذا ؟

انها الشر الذي لابد منه فى هذه الحياة هذه الحياة التى شاء الله لحكمة من حكمه السامية ان تكون ميدانا للنقائض ومعتركا للاضداد ، ليتحقق فيها التوازن ويعمل عمله ناموس التنازع على البقاء ، ويتم التمايز بين الشئ ونقيضه ، بين الخير والشر ، بين الكمال والنقص ، بين القوة والضعف ، بين الفضيلة والرذيلة ، بين الأمن والخوف ، بين الشدة والرخاء ، الى آخر ما هنالك من الاضداد والنقائض !

لابد من وجود الحرب اذن وليكن ما يكون . لابد من وجود الحرب اذن بالرغم من شعور البغض العميق بإزائها ، وبالرغم عما تجره وراءها من اخطر النتائج ، واشد الاضرار ، وبالرغم من تحديها لهذا الأنسان في اسمى ما يقدسه ويحرص عليه ، من حضارة وعمران ، وعلوم وفنون .

ولكنا نسأل هنا ، متابعين في هذا السؤال مجلة المنهل الغراء ، ما هو مدى تأثير الحروب في الحضارات يا ترى ؟ !

وهل صحيح ان الحروب تطوي الحضارات ، أم ان الأمر على النقيض ؟ اما ان يكون الرد هنا ايجابا ، فقد لا يعدم الباحث في هذا الصدد ، ادلة من التاريخ يستخرجها ) لأول وهلة ( من هنا ومن هناك ، لاثبات الدعوي ، وكسب القضية

هو ذا تاريخ الحروب جميعها فى كافة العصور القديمة والوسيطة والحديثة ، وفي الشرق وفي الغرب ماثل أمامنا ، هو ذا تاريخ الأمم المتحضرة التى خلدها التاريخ من يونانية ورومانية وفينقية وقرطاجنية واسلامية وسواها ، فماذا ليت شعري سيجد الباحث في هذا التاريخ من ادلة افناء الحروب للحضارات ؟

الواقع أن تاريخ كل هذه الشعوب الشهيرة مملوء بالحروب وبالدماء ، والواقع ان بعضا من هذه الشعوب " فينيقيا " و " قرطاجنه " قد كان من نتائج الحروب المتتابعة عليها ان قضت عليها القضاء الأخير ، وطوت حياتها طيا من هذا الوجود

ولكن احقا ان ما دونه التاريخ من اصول الحضارتين الفينيقية والقرطاجنية قد قضى عليه ايضا وطوته تلك الحروب طيا ، واصبح فى خبر كان ؟

وهل حقا ان حضارة اليونان القديمة قد طويت من الوجود منذ اليوم الذى غلب فيه اليونانيون على امرهم ، ودخلوا تحت سلطه روما بعد أن انهكتهم حروبهم المتوالية مع الرومانيين ؟

وحضارة الرومان ، وحضارة مصر فى العصر القديم ، ثم حضارة الاسلام فى العصر الوسيط ، كل هذه الحضارات العظيمة قد اصيبت شعوبها بما اصيبت به من اضرار الحروب ، ولكن هل طوت كل هذه الحروب كل ما في الحضارات ؟

لقد اضرت الحروب حقا بكل تلك الامم ، والحقت بها من فادح الكبات ما قضى على البعض منها نهائيا كما سبق البيان ، وما قضي في البعض الاخر منها بعض الشيئ ، وليس من شك فى ان من اعظم ما اصيبت به هذه الشعوب الاخيرة جميعا ، هو ان الحروب التى نكبت بها قد قضت وفيخة ما قضت عليه - على اهم آثار حضاراتها ومظاهر عمرانها ، وهذا ما عنيناه حينما قلنا ان الباحث قد لا يعدم دليلا من التاريخ على اثبات هذه الدعوى التى تقول بان الحروب قد تطوى الحضارات .

ولكننا بعد ان نفكر قليلا سنرى ان القضاء على آثار حضارة ما ، ليس معناه القضاء الابدى على اصول تلك الحضارة ، ان حضارة اي شعب لابد وان تنتقل الى الشعوب الاخرى ، سواء اظل هذا الشعب عائشا فى استعباد ، ام اصبح من تلك الشعوب التى طواها التاريخ ، ان حضارات مصر وفينقيا وقرطاجنة واليونان والرومان ثم حضارة الاسلام فى عصره الذهبي ما زالت اصولها موجودة الى يومنا هذا ، وهل حضارة أوربا الراهنه الا مزيج من كل تلك

الحضارات ؟ ! قد تختلف حضارة اليوم عن كل ما تقدمها من الحضارات ، وقد تمتاز عليها شتى المظاهر والعلوم والفنون ، ولكنها قد ضمنت ولا جدال بين شتى مظاهرها وعلومها وفنونها خلاصة من كل حضارة سابقة ، وقد يكون هذا وحده هو سر تفوقها المشاهد الملموس

قد تطوى الحروب امما وشعوبا ، وقد تطوى مع تلك الشعوب والامم ، ماقد يكون فى أوطانها من مظاهر حضارتها فى الوقت الذى تكون الانسانية قد هضمت فيه اصول تلك الحضارة ، واخذت منها عنصرها الجوهرى ، وفي الوقت الذي تغدو فيه تلك الحضارة ميراثا للعالم اجمع ، وملكا لكل أمة في الوجود .

وكما ان الحروب لا يمكن ان تطوي الحضارات - كما سبق التوضيح - فهي ايضا لا يمكن ان تعوق سيرها واستمرارها وتقدمها ، بل انما فى كثير من الظروف تكون الحروب اكبر معوان لانتشار الحضارة ، ان الحاجة ام الاختراع والحروب بطبيعتها تشجع نواحي الاختراع والابتكار في كل شئ ، الحروب تدعو بطبيعتها وبالأخص فى العصر الحديث الى تقدم الصناعات الحربية على اختلاف انواعها ، والتفنن والا كثار فيها من كل جديد ، وتقدم هذه الصناعات يدعو بطبيعة الحال الى تقدم سائر فروع الصناعات الاخرى .

والحروب بطبيعتها اكبر مساعد على تقدم الزراعة وانتشارها ، لأن الامة المحاربة أو المستعدة للحرب تحاول دائما وبكل الوسائل أن تزرع اكبر مساحة ممكنة فى اراضيها لكى لا تبق إذا جد الجد عالة على سواها ، ولكى تكون بحق قادرة على تموين بلادها وعلى الصمود أمام اي حصار يوجهه اليها الاعداء !

وكلما استمر تقدم الفنون الصناعية والزراعية استمر تقدم العلم الذي هو العنصر الهام لدى كل الحضارات !

والحروب أيضا تساعد بطبيعتها على سرعة انتقال الحضارة من بلاد إلى بلاد ذلك لأن اختلاط كل فريق من المتحاربين فى الميادين او فى بلاد الفريق الاخر يدعو الى هذا الانتقال ، وفى تاريخ الحروب الاسلامية الاول ، ثم فى تاريخ الحروب الصليبية المشهورة - اعظم الشواهد على هذا الذي نقول :

حروب الاسلام وفتوحاته الاولى باعدت من غير شك على اقتباس الحضارات التى كانت قائمة فى البلدان التى غزاها المسلمون ، ومن هذا الاقتباس ومن هذا الامتزاج والتصاقب بين عناصر تلك الحضارات ، وبين الروح الاسلامية والتعاليم الاسلامية ، والعادات الاسلامية - تكونت تلك الحضارة الاسلامية العظيمة التى شع نورها فى العالم . فى الوقت الذى كانت فيه سائر الممالك الاخرى تتخبط فى ليل دامس من الجهل والاضمحلال .

والحروب الصليبية ساعدت ولا جدال على اقتباس أوربا لأصول الحضارة الاسلامية ان تلك الحروب الطاحنة المدمرة ، تلك الحروب التى كانت بلاء على الشرق وعلى العرب وعلى الاسلام كانت فى الوقت نفسه أول عوامل انتقال الحضارة من الشرق الى الغرب ، وكانت السبب المباشر لكل ما نشاهده اليوم من مظاهر الحضارة العصرية وتقدمها واتساعها !

وبعد فهذا هو تأثير الحروب فى الحضارات . لا يمكن ان تطوى اولاهما اخراهما باية حال من الاحوال .

ولا يمكن ان تعوق اولاهما اخراهما عن البقاء والاستمرار فوق هذا جميعه نستطيع ان نزعم ان فى بقاء الحروب واستمرارها بقاء واستمرار لكل الحضارات ! وهذه هي الحقيقة المرة !

وهذه هي المسألة ، أو هذه هي المشكلة كما يقول شكسبير !

وأخيرا نقول . انه ان يكن من حسن الحظ حقيقة ان يستمر الأمر هكذا وان يكن من حسن الحظ ان لا تستطيع الحروب ان تطوى الحضارات . بل على العكس تساعد في ثباتها وانتشارها . فان من سوء الحظ . وان من دواعي الاسف والاسى ان يستمر هكذا تولي الحروب ، وان يظل العالم يعاني من اهوالها وويلاتها وشرورها ما لا يزل يعانيه .

ولكنها حكمة الخالق ، وسنة الوجود ، وغريزة الأنسان المكافح الطموح

٧

رأى الاستاذ محمد حسن عواد

سؤال وجيه يدل على اتجاه الأدباء الى الحرب ، والاهتمام بها كمادة من مواد التفكير الادبي ومهما يكن جوابه اكان سلبا ام ايجابا ، اي سواء قرر انطواء الحضارات من جراء الحرب او قرر انتشارها ، فان التفكير فى الحرب والسلام . ظل وسيظل موضع اهتمام الأدب .

وتعليل ذلك واضح ، فالحضارات بانواعها : الحضارات المادية التى تنتج وسائل العيش المترف ، والحضارات المعنوية التى تنتج وسائل القراءة المترفة مثلا ، كلها موضوع من موضوعات الأدب ومادامت للحروب صلة بالحضارات - وهبها صلة تدمير أو صلة تعمير - فانها اصبحت قطعيا من اجزاء الموضوع الأدبى المحض .

اقرر هذا قبل الجواب لما لعله ينشأ عن هذا السؤال الذي يوجهه المنهل إلى الكتاب من تفكير فى دخل الجروب فى بحث الادباء وهو سؤل اخر يخطر للبديهة فتجيب عليه البديهة بما لا يخرج عما سبق شرحه فى افتتاح هذا الكلام

وقد يحتاج سؤال المنهل الأغر الى استفتاء المصادر الآتية : - ١ - التاريخ . ٢ - الفن العسكري ٣ - تاريخ الحضارة بوجه خاص . ٤ - المنطق الطبيعي ٥ - اراء علماء الاجتماع . .

فهل استنطق كل مصدر من هذه على حدة لأخرج بنتيجة ما تدل به هذه المصادر واناقشه مناقشة يستقل فيها الفكر بنفسه دون حاجة الى معونة للتاريخ أو الفنون ؟ هذا امر يطول شرحه ولا اظن صفحات المنهل تتسع له ، وهما تسامحت وتسامحت حتى يخرجها التسامح عن طور حجمها المالوف الذي حكمت به أزمة الورق فى هذا الظرف .

إذا لا حاجة لهذا الايتاء وحسبنا الزبدة النافعة والنتيجة الملخصة نستقطرها من واقع الحياة . فالحروب حركات هدامة يقصد منها - من وجهة نظر معلنيها على الاقل - ايجاد أسس وأوضاع جديدة فى عالم العمران ، او نشر اسس اخرى فى : المبادئ والمذاهب ، اجتماعية كانت او سياسية او دينية ، فغايتها زالة القديم المبغوض واحلال الجديد المرغوب محله فى النفوس او البقاع ، وغير لازم فى منطق الحرب أن يكون جديدها المبشر به لصلح واروع من القديم المزال وإنما اللازم هو

ان المحارب " يريد " هذا معتمدا فى تنفيذه على فكرة خاصة

وهنا على من يبغى الحكم ان ينظر ما قيمة هذا الجديد المزجوج فى عالم الحضارة وما نسبته اليها ! ثم ما قيمة ذلك القديم المكافح على هذا القياس ؟ ! فيكون الجواب على حسب تلك القيمة ، فان كانت عريقة فى عالم الحضارة او كبيرة الصلة بها فان تلك الحرب لا محالة عامل قوى فى نشر هذه الحضارة ، لا مكابرة فى ذلك ولا ملاحاه والعكس بالعكس .

فالحروب تنشر الحضارة ولا تطويها إذا كان القانون بها ذوي حضارة مقررة بغيتهم التبشير بها وابرازها من الخيال المختمر الى الحقيقة الواقعة .

أما حروب الهمج فكم طوت من حضارات نافعة ، وكم طوحت باسس صالحة الى مهوي بعيد فى عالم الفناء ، وان حصل فى بعض الاحيان عكس النتيجة بان كان فى تلك الحضارات المطوية جراثيم لولا الحرب لنخرت في جسمها بالفساد فطوتها بدون أن تطويها الحرب

فحروب التتر والمغول لا يمكن القول بانها نشرت حضارة ما في البلاد الاسلامية أو غير الأسلامية مما اكتسحته من بلاد .

ذلك لأن المغول والتتر ليسوا ذوى حضارة يهمهم نشرها فى الامم وانما وكدهم من الحرب سد عوز الفاقة أو اشباع غزيرة التملك والقهر

أما إذا ثارت حرب متبادلة بين المتحضرين فانها رغم ما تتلفه من أرواح ومواد ينجم عنها تأييد حضارة قديمة او نشر حضارة محدثة تولدها حاجة . لامم اليها أو تولدها ارادة المتحاربين أن ينشروا قواعد الحضارة

فالحرب العظمى - وهى حرب متبادلة بين متحضرين برغم دعاياتهم السياسية الموجهة من فريق ضد الاخر - افادت العالم اكثر مما اخرت به ونشرت

حضارات كانت تنقصها عناصر او كانت تنقصها حركات تفاعلية تؤدي بها إلى الانتاج والصلاح .

هذا ما نقرره جوابا على هذا السؤال .

ولكنه لا يتناول النتيجة التى تنجم عنه وهى انه ما دامت الحروب تنشر الحضارات حسبما مر بيانه فلماذا الدعوة الى السلام ؟

نعم ان حكمنا لا يتناول حكم السلام ، فالسلام مرغوب فيه إذا قامت فى النفوس عقيدة خلو الحرب من انتاجه أخيرا او قلقلتها لاركانه الثابتة

اشترك في نشرتنا البريدية