الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

اشباح الظلام

Share

قرأت لكاتب أمريكي هذه العبارة : ( حين ظهرت الكهرباء انتهى عهد الاشباح  ) وأظننا أكثر من غيرنا فهما للاشباح وتمثلا لصورها . فاشباح الظلام تلازمنا آنى نسير ؛ وهي قد نمت مع كل فرد منذ طفولته ، فى الاقاصيص التى يسمعها والروايات الملفقة التى يتحدث بها الناس ، ومن منا من تخلو ذاكرته من حديث كبهذا تتمثل فيه صور مرعبة يجسمها الوهم ، ويعرضها العقل الباطن فى شتى الاوضاع والمظاهر ؟ .

وما اكثر مايصاذف ان يسير الفرد وحيدا فى طريق مظلم او منعطف مقفر ، ولا يكاد يخطو خطواته الاولى حتى تثب الى ذهنه خواطر الظلام ، ويظل فى استعراض كل ما اختزنه عقله الباطن من هذه الخواطر منذ ان كان صغيرا ، وقد يكون على شىء من ثبات الجأش ؛ أو قد يكون اعقل من ان يترك لهذه الخرافات ان تعبث به ، ولكنه مع ذلك لا ينفك يؤمن بها فى قرارة قلبه ، وان حاول ان يقتلع جذورها من الاساس .

ولا لائمة علينا فى هذا الوهم الذي بلغ مبلغ العقيدة ، وان كنا مطالبين ولا شك بالتحرر منه ؛ ونحن كبار ، بكل وسيلة ممكنة . فقد تلقينا فى عهد الحداثة من افواه الامهات شتى الحكايات المستفيضة بالاشباح والعفاريت ، وضعها خيال خصب ؛ ولكنه مظلم قاتم ، من عقول ربات المنازل . وهو خيال استمد عناصره من الحلكة السوداء المحيطة بالمنازل والمخيمة على المنعطفات والدروب ، وزاد على هذا الجهل القاتل الذي كاد ان يوجد فى تلك العقول نوعا من الوثنية متمثلة فى هذا الخوف المرعب من سلطان الاشباح وعفاريت الليل . وليست الاقاصيص فقط هي كل ما تعيه الذاكرة من عهد الطفولة فقد قضت التربية المنزلية على الطفل ان يتمثل فى وهمه صور مخلوقات أخرى ، غير

أقاربه وذوبه ، تستعصى رؤيتهم على العين ولكنهم يحومون بجو البيت ويقبعون فى أركانه وزواياه ، هؤلاء هم السلاح الخطر الذي تشهره ربة البيت فى وجه صغيرها اذا استعصى على النوم مثلا او بدرت منه نزوة شيطنة او ما الى ذلك ، فيكفى ان تدعوهم بالاسم المجرد حتى يستجيبوا لندائها ، فاذا هم مقبلون من كل جدب ليحدقوا بالطفل فيلقوا فى قلبه الرعب وأى رعب ، وتصور حال هذا الطفل المسكين وهو يحس بالوحدة امام هذه القوى الشريرة التى لا يستطيع أن يراها ولا أن يدفع أذاها عن نفسه ، ومن هنا تنشأ احدى العقد النفسية الخبيثة التى تتمكن من كل طفل قبل أن ينشأ ويفهم معنى الحياة وهى لاشك اساس ما يرسخ في النفس من ألوان النقص ، وعد ما شئت من الخوف والجبن وتداعى الارادة وفقدان الثقة ، الى ما لاحصر له من عوامل فتاكة تحز فى الصميم من نفسية الطفل وتلازمه شابا وكهلا .

ولم أكن مغاليا حين قررت أن الخوف من الارواح والاشباح قد قارب أن يتخذ مظهرا للوثنية ، فالام تستعدى على طفلها عن سلامة نية ، هذه الاشباح ترهيبا له وتأديبا لنزوته ، ولكنها تفزع اليها ضارعة كلما حاق بصغيرها مكروه نتيجة ألم عصبى حاد أو مرض جثمانى ، ولك ان تستعرض أقصى ما تبلغه الخرافة فى هذا الصدد ، وقد أشارك الأم فى الاعتقاد فى عزو مايطرأ على الطفل من شتى الامراض الى هذه القوى الشريرة التى تعتقد أنها مصدر متاعبها ، ولكنى لا افسره على النحو الذي تذهب هى اليه . فالاوهام البالغة التى تنغرس فى نفسية الصغير عن هذه المفزعات هي التى تثير أعصابه اثارة تستحيل الى عوارض مرض ، ولست ازعم أن كل مرض يجب ان يكون نتيجة هذه الاوهام ولكنى أعتقد أنها أى الاوهام - سبب كاف لاحداث بعض العوارض .

وهكذا يحتشد هذه الذكريات فى عقل الطفل ، فاذا شب وتقادم العهد بها هبطت رويدا الى الاعماق من عقله ، ولكنها لن تتلاشى وقل أن يتحرر منها الفرد بما يقرأ او بما يوحى الى نفسه من عزيمة الرجولة التى يعتز بها ، اذ هى أثبت من أن تقتلع بعد ان أشرب بها العقل فى حداثته .

ولست أنكر ان موضوع الاشباح موضوع عالمى ، فالادب الانجليزى مثلا لا يخلو من أقاصيصها الموروثة من الاجيال الماضية ، اوحى بها أوضاع مماثلة لأوضاعنا . فالقصور الضخمة والحصون الواسعة والغابات الممتدة المتشابكة الاشجار ، كل هذا قد أوجد لديهم نفس الاوهام السيئة ، ولكن الانجليز اليوم يعرفون كيف ينأون بأطفالهم عن أخطارها بالتخفيف من شأن الاشباح والعفاريت بما يلقون فى روعهم فى كتب القراءة - عن ضآلتها وخضوعها للعنصر الانساني . واتذكر الان ما قرأناه فى كتب القراءة الانجليزية أو عهدنا بدراسة هذه اللغة ، فى قطع شعرية بسيطة ، عن العفاريت ودماثه اخلاقها وبعدها عن ايصال الاذى والشر ، الى غير ذلك من كلام ساذج يترك فى نفس الطفل صدى جميل الأثر ، فلا ترتعدله الفرائص أو ينكمش له القلب ، ثم انبثق فجر الكهرباء في أوربا فاختفت الاشباح من الشوارع والمنعطفات ، تم طغي فيض الكهرباء وغمر نورها كل شئ ، فاذا بالاشباح تتضاءل وتنكمش ، وأغلب الظن أن يلولها يلوذ اليوم بجبال الالب وما ماثلها من الجبال .

ونحن نعرف كيف بربي الألمان أطفالهم مثلا ، فهم يدربونهم منذا الحداثة على لقاء الاعداء وقتالهم . وليس اعداؤهم ، بطبيعة الحال ، الاشباح والعفاريت ولكن اعداءهم هم جيرانهم الفرنسيون ، وليس الفرنسيون اقل حظا من هذه التربية ، وقل ما شئت عن أخطاء هذه التربية التى تبذر الحقد والقسوة فى قلوب بني الأنسان بعضهم نحو بعض ، ولكن المؤكد أن فيها درسا كبيرا من الشجاعة وبطولة القلب .

ترى أتظل المرأة لدينا أداة تحطيم لنفسية الطفل من حيث لا تدري ؟ إن مسؤولية المرأة ليست اكبر من مسؤولية رب الآسرة ، ولكن رب الأسرة الجاهل كربة الدار الجاهلة سواء بسواء ؛ لأنه لا يلحظ عوامل الفساد التى تنشأ من أوضاع كهذه ؛ ولا يدرك ماوراء هذه المقدمات من نتائج سيئة الأثر ، وهو يترك الأشياء تتخذ وضعيتها كما خططتها العادات والاصطلاحات الموروثة ، وهكذا يمضى الجيل يتلوه جيل آخر متطبع بنفس الطابع فى

نفسيته وعقله ، ولا رجاء من أمة تستعبدها الأوهام وتتفشي بينها الخرافات وليس من العسير القضاء على هذه الاوضاع ، ولكن العسير انما هو التصميم والتنفيذ ، وحين يشعر كل فرد باهمية التربية البيتية واثرها في المجتمع حينذاك نكون قد بدأنا سبيلنا الى حياة راقية ، وقد يأتي ذلك اليوم . الظهران

اشترك في نشرتنا البريدية