لقد اكتشفت فى اكثر من مرة زيف العواطف والعلاقات فالحب بالمعنى المتداول بين الناس أخذ وعطاء مادى ، بحث ينتهى بانتهاء أسبابه ويقف حيث تقف الاحداث كم من علاقات تعتمد الظلمة والاركان البعيدة تقام باسم الحب ... تبنى العواطف بهذه الطريقة يفقدها بهجتها ..الحب كالنور واضح لا يختبئ ولا يخاف الآخرين . يشع فى النفس كقوة الايمان وكقوة اليقين ..
ان روحى متعبة وتبدو فى حاجة أكيدة اليه ولكنني رفضت كل العروض لسبب بسيط .. انها لم تكن صادقة .. وعقلي .. يرفض ان يقبل عرضا غير سادق وغير واضح .. هذه مشكلتى ...
ذات مرة قال لى حسين رئيسى بالمعهد وكانت نظراته تحاصرني في كل مكان شئ قوى كان يصلنى منها .. نظر لى .. سألنى قال :
" من انت ؟ أنا لم أعرفك بعد .. انت غريبة .. لا أفهمك .. سادت بيننا فترة صمت .. بدا لى السؤال غريبا .. اشتغلت بالتأمل في وجهه وكأنني اراه لاول مرة . . أحاول قدر جهدى ان احبس مشاعرى وأفكارى .. عيونة تبحث فوق وجهى عن شىء معين ، شئ محدد ، آخذ من حقيبة يدى جريدة أبسطها على العشب الاخضر ، تطالعني نظراته صارمة يخرج صوته ممزقا .. يائسا ..
" ماذا تفعلين ؟ اقول فى ضيق .. " الم تقل انك قد تعبت بامكانك ان تجلس هو : " هنا ؟ "
انظر اليه فى دهشة مصطنعة ... " المكان رائع .. الا ترى .. والشمس تريق علينا دفئا لا تجد مثله فى الداخل " جلس على مغيض .. التقط كفى .. سحبتها منه برفق .. قال : " انا احبك"
قلت : " الحب كلمة ضاعت فى الزحمة تاهت بين الآخرين " . قال : " لماذا هرعت لمقابلتى اذن ؟ " . قلت : " لاقتل الوقت بأن أتحدث اليك .. "
قال : " كان عليك ان تختارى صديقة لك ..واحدة من بنات جنسك .. " قلت : .. صديقاتي كثيرا ما ينتقدن أسلوب حياتى .. هن يردن ان اشاركهن الحديث .. ان اجلس اليهن .. ولكنني لا أتقن حديث النساء .
قال : " كنت احسب ان بك مثل ما بي لما رافقتني وتحديث الجميع .. قلت : " ان ارافقك في نزهة قصيرة ليس معناه انى احبك .. انت تخلط بين الاشياء ..
اعترف اننى لا أملك امام نفسي سببا مقنعا لهذا اللقاء ربما أردت ان استفيد من غزارة ثقافته واتساع خبرته .
حديثي اليه خارج أوقات العمل يضيف إلى الكثير من المعلومات .. انه قاموس شامل .. بحر زاخر من المعرفة ..
بدا لى عالمه فى هذا اليوم ضيقا شعرت بالسأم يتسرب الى .. واعترانى شعور بالخيبة .. لم أر اليوم فى نظراته ما كنت أراه بالامس ، نظراته جريئة وقحة . . لأول مرة افقد انبهارى بشخصيته .. احتقره . . انه مثلهم .. عيناه تلمعان بالرغبة .. ينتابني شعور بالتقزز لم اكن اعلم اننى ساقف منه مثل هذا الموقف .. فى مرة من المرات .. كيف تذبل المشاعر بمثل هذه السرعة ؟؟
كنت أبحث عن رجل يعطيني ارضا .. يحررنى من عقدى ويجعلنى انظر الى الحياة والى الاحياء بعين ملؤها الأمل والتفاؤل والرضا . . نهضت قلت : " سأمضى " .
قال : " أتسخرين مني ؟؟ " قلت : " لقد قرات بوضوح ما تعانيه ..لست النموذج الذي تبحث عنه .. حسبتك تفهمني بسهولة . . لم اكن اعلم انك تفكر في أن تجعل منى نزوة من نزواتك لقد حطمت في داخلى مشاعر جميلة حملتها لك .. كنت اراك قويا .. رائعا بأفكارك ، ويثقافتك وبحوارك .. " قال بلهجة ساخرة وقد اعتدل فى جلسته :
"دعوتني فحسبتك متحررة .. ولكن يبدو انك مثلهن .. مشدودة الى افكار جداتك .. أنصحك بالا تتشدقي بعد اليوم بحرية المراة وبالافكار المستوردة . كونى انت فى كل مكان .. البدوية الساذجة التى لم تم من الحياة شيئا بعد . " طريقة من الطرق يسلكها بعضهم لتبرئة ساحته .. أبتلع ريقى فى صعوبة .. شعور بالمرارة يتملكنى .. كدت اتكلم .. كدت افتح معه حوارا طويلا اشرح له فيه معنى الحرية والتحرر.. ولكنني فضلت الصمت تركته مع حيرته وانطلقت بعيدا ....
عندما عدت حاسبت نفسى حسابا عسيرا وندمت على تسرعى فى توجيه دعوة اليه بالامس . . بدا لى ممتازا . . مثقفا ومتخلقا .. وكان احترامي له كبيرا ..
اليوم وبعد ان قابلته اشياء كثيرة بداخلى تحطمت .. تاهت .. وبدا عنائى لا حد له . . فى هذه المحنة ذكرته . . ذكرت أمجد . . اشتقت الى ما توحى به تقاطيع وجهه كلما وقعت عيناه على . . كأن بي قد عثرت فيه على شئ يروى عطشى الداخلى .. يغذى روحى المتعبة .. حواره يشدنى بقوة .. شرح لى الكثير من جوانب شخصيتي . . أسئله كثيرة بقيت معلقة بذهنى . . أجابني عنها هو فى أكثر من فرصة . . وعرفت انه يمتلك أشياء افتقدها أنا شخصيا . .
منذ أول مرة رأيت فيها أمجد شدتني اليه قوة شخصيته وأيضا وسامته اخفيت عنه اعجابي به . . جذبني اليه شكله الخارجي فى الاول وكنت أحسب أنه سيخرج بنفس السرعة التى دخل بها قلبي ولكن وبمرور الزمن أحسست به يغوص ويغوص الى أعماقى .. كلماته أذابت القلق فى نفسى .. أنارت لى الكثير من جوانب شخصيته . . أول رجل يقابلني . . يحدثني عن الحب ثم عن شخصيتى القوية . . الرجل يرفض دوما هذه القوة فى المرأة . . منذ الأزل وهو الذي يدير عملية الكون . . هو الذى يقرر ويرسم مصير من تتبعه من النساء .
كل الذين عرفتهم قبل أمجد وقفوا على عتبة بابي .. لم يتغلغلوا الى داخلي . . عرفت أمجد فأحسست كأنني .. أعرفه منذ سنين .. خطوط شخصيته بارزة .. كأنني عثرت فيه على النقطة المضيئة فى حياتى .. احساس لم يسبق لى أن عرفته قبل اليوم ..
أصبحت ألجأ اليه كلما أحسست بالتعب يهد قواي . . كلما تهت . . كلما عانيت . . ووجدت منه اهتماما . . وحنانا . . وأحسست بحاجته الى . . وذات يوم عرفت أننى . . لم أخطئ فى تقديرى الشخصى له . .
قدمت له نفسي بكل جرأة . . حدثته عن كل مشاكلي . . عن الاثقال التى تنقل كاهلى . . عن الأتعاب التى يجوز أن تلحقه من جراء ارتباطه بى . . ولكنه بدا لى . . كذلك الصينى الذى امضى اليوم كله يحفر الأرض بأظافره ليظفر بقطرة ماء . . وأعجبني فيه اصراره على ان يفوز بي . . وانه لا يشبه احدا ..
بايجاز فيه عثرت على شطرى الثاني ..
ابحث عن اى تقييم لتصرفاتى . . ولا لأفكارى الا بعد ان التقيته . . اعجبني منه انه يفهمنى سريعا ، يجد القراءة فى عينى سهلة . . مشاعرى .. أفكارى . . اتجاهاتى عرفها قبل أن أعرفه بها . . يعجبني . . معه هذا الذكاء كان الشئ الوحيد الذى فكرت فيه منذ ان عدت الى البيت أن اراه . . أيام طويلة فصلتني عنه ولكنه بقى ساكنا بالرغم منى . . فى مشاعرى . . وفي احساساتى . . فى آخر لقاء لنا بدا لى خائفا . . وكان وهو يكلمن يبدو لى رائعا أروع من اى وقت مضى . . لقد تصورت فى فترة من الفترات ان حبنا وليد ظروف معينة يموت بموتها وكنت انتظر هذه النهاية فى شوق ملح . . كنت انتظرها . . لأركض كعادتى بين الأشجار وفوق الرمال . . أصعد الجبال أغازل السحب وانهل من الشمس . . كان بى حنين الى عالم أخضر يحتوي بين ذراعيه .. ينسينى أمجد ويعيدني الى أحلامي البكرية .
اليوم أحسست بحاجتى الأكيدة اليه . . نظراته وكلماته مازالت مغروسة فى داخلى . . انه مازال ساكنا فى أعماقى بحواره وبدفء عواطفه . . مددت بصرى الى المنزل المقابل . . النوافذ مغلقة . . والصمت يلف كل شئ . . لقد اعتادت عيناى على ان تراه فى مثل هذه الساعة . . وانتابني . . شعور بالوحدة . . اخيرا عرفت موقع اقدامى وقررت أمرا ..
لقد سبق لى ان رافقت أمجد فى عدة مناسبات وكنت فى كل مرة صاحبة الدعوة . . لم أر فى عينى أمجد ما كنت قد رأيته فى عينى حسين . . يرافقني
أمجد فيبدو هادئا . . وديعا . . حالما . . يظل يتبع خطاى كما يتبع الطفل امه . . من عادة أمجد الصمت . . ولكنه وفي كل مرة يرافقني فيها يبدو ثرثارا يحدثني كثيرا ولا يمل ..
مرة قلت له : " أراك تائها . . فى عينيك يسكن حزن غريب " . بعيون مفتوحة فوق وجهى يقول :
لقد عفت حياتي . . أنا بحاجة اليك . . ولكن على انتظر شهورا قبل ان تقدم الى أهلك . . انه كثير على ان تحبيني . . الفرق بيني وبينك شاسع .. والمرتب الذى أتقاضاه آخر كل شهر لا يمكنني من ان اوفر لك الحياة التى ترتضينها . . اني . . اخاف ان تتركينى ذات يوم .. أخاف أن تضيعي مني " .
احتضنت كلماته ومنحته كل عواطفى . . بشرود قلت : " أمجد . . الحياة جميلة وانا فى رفقتك . . انا لا اسأل عن مرتبك . . المهم أنت . . حبك لى أثمن سوار تهديني اياه . . لقد بات من المستحيل ان تعثر فتاة اليوم على عينين صادقتين كعينيك .. ان تحبني .. بصدق يجعلني قادرة على ان أذيب كل حاجز يعترضنا وعلى أن اجتاز كل جسر . . وعلى أن اخلق المعجزات ..
قاطعني أمجد بهدوء شديد قائلا : " انت لم تعرفى الجانب المشوه من الحياة .. مازلت تحتفظين بنقاوة عاطفتك . . أفكارك لم تتلوث بعد " .
فجأة تلتقى عيناى بعينيه . . كأنه يحتوينى فيهما .. ارتجف رغما عني .. فرق بين مشاعرى اليوم وأنا معه ومشاعرى بالأمس وأنا رفقة حسين .. ان مشاعرى اليوم تبدو جديدة على .. انها تعطيني أرضا أقف عليها .. وان لها لغة خاصة تغذى روحي المتعبة ..
نظر أمجد الى وجهى باهتمام . . احتضن كفى . . وركز نظراته فى عينى بحنان بالغ ثم قال :
" كل شئ فيك يبدو طبيعيا . . حتى وجهك . . لا أثر للمساحيق فوقه . . من النادر أن يعثر الرجل على وجه طبيعي في أيامنا هذه . . انى اكره بطبعي الوجوه المستعارة . . أكره أن أظهر على غير حقيقتى ..
أكره ان أزيف نفسي " . تذكرت ما قاله لى حسين بالأمس .. كان ينظر الى بتمعن .. وكأنه يشاهدني لأول مرة .. سألنى فى دهشة .
" يبدو أنك مازلت صغيرة .. لم تتعرفى الى الحياة بعد " . قلت : " كيف ؟ أنا لا أفهمك " . قال : " كيف تصل فتاة الى هذه السن ولا تهتم بزينة وجهها ولا بصبغ رموشها " ولا حتى باقتناء فساتينها .. أمر يبعث على التساؤل .... كأنك تلميذة فى طريقها الى الفصل " .
عيناى تزدادان اتساعا .. أكاد لا أصدق ما أسمع كدت أصرخ في وجهه .. منذ أيام فقط قال لى . . وبعد حوار طويل حول حرية المرأة وتحررها " المرأة فى بلادنا لا يشغلها شئ قدر الاهتمام بقشورها الخارجية .. لا شئ يستحق اهتمامها سوى ذاتها .. انها وعاء فارغ .. طبل أجوف .. قطر مدللة .. دمية عيناها من زجاج ..
بهرني . . بآرائه الجريئة . . وأعجبني فيه اهتمامه بجوهر المرأة .. بذكائها المشع وباهتماتها التى تتجاوز ذاتها ..
اليوم غير وجهه . . مات فيه الانسان المثقف الواعي . . عجبا كيف يتغير الانسان بين لحظة واخرى ؟؟؟
أقنعت نفسي أخيرا أن حسين ليس الا واجهة ثرية لمعروضات ثمينة وجميلة ولكن لمن أراد ان يقتني شيئا منها فهو لا يجد غير معروضات رخيصة مبتذلة .. انه يتبنى أفكارا لا يؤمن بها اساسا .. هذه مشكلته .. أفقت على صوت أمجد يناديني .. . . كأنك لا تسمعيننى ؟؟ ..
انظر مليا فى عينيه . . اقول : " أنا سعيدة بك يا أمجد . . ان حبك لى ينير أفقى ويبعث فى الرغبة فى أن أصنع العالم صنعا جديدا " . يجذبنى برفق اليه . . يقول : - وما الذى تريدين صنعه ؟؟
اقول : " أضيء الشموع فى بيوت التعساء . . أرفع عن ايديهم الأغلال . . أقطع السلاسل وأنشر بينهم الحب والحرية " . يضحك أمجد ويقول :
" ان الحب فى داخلك ما زال قويا . . وفطريا . . انك لا تشبهين الأخريات .. حوارك يدفثنى . . يشدني . . اليك اكثر " .
كأننى قد عثرت فيها عن جزيرتى الضائعة .. حديثها خدر القلق فى نفسى أجاب عن كل الأسئلة التى كانت تحتمل فى صدرى ..
عرفت نماذج كثيرة وأرهاطا متعددة من النساء . . فى عيونهن يسكن جوع فاحش . . وفراغ مهول . . لهن أكثر من وجه . . واكثر من صورة . . يومها كنت ضائعا في قرارة نفسي . . لم أعثر بعد على مضمون لحياتي . . عندما تعرفت اليها شدني اليها صمتها ومعنى الحنان المرتسم فى عينيها بدا لى يومها ان فى عينيها أسئلة لم تطرح بعد . . وان فى قلبها حبا كبيرا . . وحولها احلاما لم تر النور . .
بدت لى الأشياء يومها قزحية اللون . . ساطعة . . وبدت لى معالم الطريق واضحة " لم تتحدد معالم الطريق امامي الا فى ذاك اليوم " .
وعدت أذهب الى هناك . . كل ايام الاسبوع تقريبا . . الى حيث كنت اراها .. لأرقبها من بعيد بكثير من الحذر . .
أمي تسألني عن الوقت الذى امضيته خارج البيت . . ماذا أقول لك يا أمي ؟ ببساطة وجدتها . . كدت اقول لك يا أمي . . كل شئ ..
ولكنني . . داريت فرحتى فى صدرى . . كتمت عواطفى وأرجأت مفاتحتك فى الأمر .. من يدرى ..؟؟ لا شئ فى هذه الحياة ثابت .. لا شئ حقيقي صدقينى يا أمي .. انا بحاجة الى حب كبير .. الى كائن حي ينثر الاضواء فى طريقي ويعطيني مفتاح الأمان ..
يومها سأحل كل مشاكلي . . سأحمل بيدى . . المشاعل وسأسير أحصد الشوك وأستنبت عشبا أخضر يوقظ الحياة ..
عرفت نساء كثيرات .. بحثت بينهن عن الحب ولم أجده . . بحثت عن ذاتي فى عيونهن . . كانت عيونا زجاجية جامدة .. تجمدت بينهن .. شعرت بالقرف وأصبح الملل يكبر بى يوما بعد يوم ..
علم يا أمي ان تصرفاتى اتسمت دوما بالاستهتار وباللامبالاة . . واعلم ان الجنس فى حد ذاته كان غايتى ومطلبى .. كنت أستخف بكل شئ ولكن ثقتى انى قد مللت حياتى هذه وان سلوكى قد بدأ يتجه وجهة ثانية .. التجربة والخبرة يساعداننا على اكتشاف وجه الغلط فى تصرفاتنا .. ولكن الغد .. توقع الفشل يخيفني ..
صوت أمي الدافيء يعيد الى طفولتى وينقلنى الى موطنى الحبيب . . وأهلى الطيبين . . عيون أمي تشع بالبراءة وبصفاء اهل البادية ..
كم احبك يا أمي . . لقد اعتنيت بي جيدا . . أهديتني أجمل أيامك . . عشت أيام الحرمان . . ايام الفقر والألم . . وكنت على الدوام طيبة وصالحة . لم تغيرك أيام الترمل . . صمدت . . قاومتها بشدة . . احتملت منظرها البشع ولم تصبغي في يوم وجهك ولا رموشك . . كنت شابة وجميلة ولكن احترامك لأبى وقد واريناه التراب كان عظيما . . وكان حبك له وبعد رحيله عنا كبيرا . لا تسعه الدنيا وان اتسعت . . علمتني باصرار ألا أزيف نفسي والا آكذب . علمتني الوضوح وعلمتني الوفاء . . ذات يوم وقد أصبحت شابا تركت البيت وخرجت الى الشارع أبحث عنك وسط الزحمة بين النساء . . انظر فى العيون اتفرس الوجوه . . لم أجدك يا أمي . . قابلتني وجوه ممسوخة . . عيون زائفة نساء بدون طعم ولا رائحة . . بكيت . . صرخت بصوت عال ..
" انا وحيد .. وحيد " وعدت اليك لاختبي بين أحضانك .. ضممتني اليك فى قوة ..
قلت لى يومها : "لم تعد بعد طفلا يا أمجد .. لقد أصبحت رجلا .. مهندسا ناجحا يحق لى ان افتخر به " رفعت يدك الى شفتى . . لأ لثمها .. نظرت اليك .. قلت :
" أمي .. لقد اشتقت اليك . . اشتقت الى سواد عينيك لأختبئ وراءه " كأنك أحسست بما أعانى .. ضممتني الى صدرك اكثر وبكيت ..
أحيانا حين أعود الى البيت فى ساعة متأخرة من الليل أجدك بانتظارى وفى عينيك عبارات اكثر قسوة من ضربات السوط ..
لا أطيق ان انظر فى وجهك . . أدخل بيتى سريعا واندس فى فراشى بملابسى كطفل صغير اكتشف حدة الخطأ الذي وقع فيه فخاف العقاب . . فى تلك اللحظات ومن البيت المجاور يصلني صوتك خافتا . . هادئا . . مسالما .. اسمعك تبتهلين الى الله .. تتضرعين اليه فى صلوات طويلة تمتد الى وقت متأخر .. متأخر جدا .. وأسمع اسمى يتردد على لسانك اكثر من مرة ..
ما ذنبك تتعبين كل هذا التعب لأجلى ؟؟
لو اصبح لى طفل فى المستقبل هل سأعطيه من وقتي كل هذا الاهتمام والرعاية ؟
لقد عرفنى أمجد بوجه حقيقي . . علمني الصدق وعلمته الوضوح . . معه عيش الأحداث وأتعاطف مع مشاكل الآخرين . . وهو فى رفقتى لا يشعر بحاجة الى ان يزيف اوراقه . . علاقاته بنساء كثيرات هدمت في داخله اشياء كثيرة . . يقول اننى قد أعدت اليه توازنه . . أعدت اليه ييقينه بان امه موجودة بين الأخريات . . ومنحنى أمجد اليقين بان حسين ليس كل الرجال . . أمجد هو الآخر يتوالد كل يوم بينهم ..
ولأول مرة فى حياتى أحس بالدفء يتسرب الى كياني وأبدى حرصا عجيبا على ان احيا . . واحسست بالامان . . الامان الذي افتقدته طوال سنوات ..
كنت احس باعتزاز غريب كلما دخلت بيتي . . وكانت لهفتي لرؤية حمدى وهو بين ذراعي جدته تناغيه لا تعادلها لهفة ..
كانت حماتى قد تخطت سن الخمسين . . تبدو عليها علامات الوقار والصحة والنسب الرفيع . .
كانت امراة فاضلة وكانت دعواتها الصالحة تلاحقني إثر كل صلاة لها ..
وكان حمدى طفل الجميع يتابع صبيحة كل يوم فى صمت وربما فى عجب لحظات الابتهال الصوفى التى كانت تستغرق فيها جدته والتى كانت تشد انتباهه اكثر من اى شئ آخر ..
وكنت - اثر انتهائي من عملى - لا يشغلني شئ سوى التفكير فى العودة الى البيت . . أعود لأرى أمجد ولأحضن حمدى .. ولكي تقابلنى نظرات تلك المراة الطيبة التى هى حماتى لأرى نفسي فيها ..
وكان شوق أمجد الينا جميعا لا تعادله قوة ..
وأحببت هديته لى فى آخر كل نهار .. أصبحت أنتظر موعدها بلهفة .. وربما بجنون . . انتظرها أيام المطر والبرد وأيام الصقيع والحر .. أيام القيظ وايام الاعصار .. أيام المرض وايام الصحة ..
فى كل تلك الأيام أظل أتطلع الى قدوم أمجد وكأنني رضيع يتطلع الى ثدى امه .. كنت أنتظر قدوم أمجد لأستمع الى كلمات كانت تنساب انسيابا وتقطر لهفة وعذوبة وسحرا ..
أظل أرهف السمع لأنصت اليه يقول بعد ان يضمني اليه فى قوة " اشتقت اليك يا أم حمدى .. " ويغمرنى عطر أنفاسه فأرى الجنة .. وكانت حياتنا فجرا وأيامنا تمر كالخيال ..

