- 4 - .. فلما أهل القرن التاسع عشر الميلادي اكتسب الشعر التونسى ، تبعا لحياة الفكر فى تونس ، دما جديدا ، جاءه هذه المرة ، م، مصدر غير قومي ، عكس ما حققته الحركة الادبية فى القرنين قبله ، لان المجتمع العربى لم يقف فيما سبق على مستحدثات النهضة الصناعية الاروبية .
أما وقد تعرف الاديب التونسى اليها ، وهب يتلمس جوانبها الثقافية ، او بعض جوانبها ، بواسطة اساتذة غربيين مختصين استقدموا للافادة من علمهم المستجد ، فان ظلال هذه الثقافة المبتكرة انعكست على الادب ، وطفق الشاعر يفيد من حصاد ثقافته الجديدة ، ويستمد من فتوحات الصناعة الحديثة ، ومفاهيم مفكريها : موضوعات طريقة حولت مجرى الشعر عن البضاعة المردودة الى غابر ، وصرفته الى صميم جديد أغترفه لا من ماض طواه التاريخ ، وانما من حاضر معاش فى واقع الحياة المتطورة ، بل لم يستنكف عن التبشير باسس تلك النهضة ومثلها ، ولم يتهيب السعى للاخذ منها بنصيب .
أ - وكان محمود قابادو ( 1813 م - 1871 م ) حامل لواء هذا النمط المستجد فى : اتجاه مخضرم ، أعد له من تلاميذه ، ثم ترسمه عنهم تلاميذهم ، بيكونوا جميعا روادا نابهين مثلوا ثالث اطوار مدرسة التجديد فى الشعر التونسى ، وهو :
3 - طور الخضرمة :
فى طور الخضرمة استمرت طريقة الشعر العمودى شكلا ومضمونا ، إلا أن ذلك لم يحل دور ظهور الفئة المتفتحة فيما اشترعه قابدو النابه بما سبق اليه من استلهام دخائل الذات الصميمة ، وتحسس حياة المجتمع ، والاقبال على مجريات التطور التى تمخض عنها عصر الآلة ، والفتوح العلمية ، فنال الشعر من تفتحها نفحة من اصالة ، ومسحة من التجديد .
وغدا له عند قابدو ، ومحمد السنوسى ، وسالم بو حاجب ، والباجى المسعودي ، وغيرهم .. عصر يحدده ، وموطن ينتسب اليه ، وشخصية اقل
بحرانا فى انماط التقليد الصرف مما هو اقرب الى شعراء الخيل والليل ، والنوق ، والاطلال ، والبيداء ..
ومن شعر قابدو فى معرض التنويه بالمنهج العلمى الحديث ، يحرض أمته على الأخذ به ، قوله فى قصيد عنوانه : " أوروبا " :
أيجمل ، يا أهل الحفيظة ! انهم يبزوننا فخرا لنا كان فخمه ؟ !
لقد قتلوا دنيا الحياتين خبرة فمن لم يساهمهم فقد طاش سهمه
أنبه هنا - فقط - الى كلمة " الحياتين " ، والى الاضافة التى وقعت فيها : " دنيا الحياتين " بينما العبارة المالوفة : " الحياة الدنيا " ، انبه الى ذلك كابلغ دلالة على عمق فهم الشاعر لاصالة الثقافة الغربية ، وهي تعنى بتطوير الحياة المادية ، والحياة الذهنية معا .
ولئن بدا - الآن - الاقرار بتطور المعرفة الذهنية فى بلدان الغرب فى القرن التاسع عشر أمرا عاديا ، لا يدعو الى الاستغراب ، فالواقع على خلاف ذلك فى مضاعفات القرن الماضى ، اذ ليس من السهل على رجل دين ، يفترض فيه الاعتزاز بالارث القومى ، والشك بما يصدر عن المخالف فى العقيدة حد نكران ان تكون له مزية فكرية سليمة من الدس والبهتان ، ولا يطعن فيها بالافك والسفه والتضليل خاصة في عصر ما يزال يحتفظ بفوارق اللغة والمعتقد والجنس فى قضايا التعديل والتجريح ، لا فقط عند العرب والمسلمين ، ولكن عند غيرهم من الشعوب الاخرى ايضا . لكنها سماحة قابادو المثقف الواعى ، والعبقرى المعافي من داء المكابرة ، وآفة التعقيد ، لم يدع فى ذهنه المصقول اى شائبة من شوائب التعصب والحفيظة .
ب - ثم نقع على مظهر عال آخر من مظاهر التطور الذهنى فى شعر عبقرى آخر ، هو ، الشيخ : سالم بو حاجب المتوفى سنة : 1339 ه - 1920 م ، أبرز تلاميذ قابادو فى جامع الزيتونة ، تستدل عليه ببيتي أبى حاجب التالين :
علينا ، عباد الله خدمة ارضنا فما هي إلا ، فى الحقيقة ، أمنا .
فمنها تكونا ، وفيها معاشنا وان عافنا الاهلون فهي تضمنا .
هذه نظرة جديدة الى " الارض " التى كانت مهبط سخط المتصوفة العلماء اعراضا منهم عن " الدنيا الدنية " وهروبا من معركتها المغرر بالانقطاع عن مزالقها الى الخلوة والمجاهدة الصوفية تاففا من منحدرها الزلوق ، وطمعا فى الاستعاضة عنها بنعيم الروح ولذة الالم ، وجنان الخلد . لكن نظرة جديدة جرت على لسان متدين مشهور ، ومصلح لامع لملمت فى البيتين ، وهى :
العقيدة الوطنية المستحدثة ، كما اختصرت نظرية الارتباط بارض الوطن
فى مفهوم هذه العقيدة المستحدث ، وفى نفس الوقت المبحث الى : صلة الانتاج بالارض ، ودورهما فى ازدهار الاقتصاد الوطنى ، وتحسين مستوى الحياة .
أما من مثل هذا الاتجاه الشعرى من شعراء المشرق العربى ، فهم : أ - عبد الله البستانى ، المتوفى سنة 1930 ، وهو من لبنان . ب - حافظ ابراهيم ، المتوفى سنة 1932 . ج - أحمد شوقى ، المتوفى سنة 1932 ، وهما مصريان . د - معروف الرصافى - العراقى - المتوفى سنة 1945 .
يؤلف هؤلاء ونظراؤهم اتجاه المخضرمين فى شعر النهضة الادبية الحديثة بالمشرق على غرار من مثلها فى تونس امثال (( قبادو )) و (( أبى حاجب )) و (( السنوسى )) و (( أبى الضياف )) و (( الباجى المسعودى )) . . لكن المشارقة امتازوا بمأثرة جليلة لم يعرفها الشعر التونسى إلا فى زمن متأخر ، بل وبطريق زملائهم الشرقيين ، وهى : الشعر المسرحى ، فى محاولات عبد الله البستانى ، وأحمد شوقى ، ثم محاولات آخرين بعدهم . .
والى سبق ظهور المخضرمين فى تونس ، عن ظهورهم فى المشرق : مرد خلو شعر اولئك من : المسرحيات الشعرية التى ظهرت فى محاولات المشارقة . ذلك ان سبق الشاعر التونسى الى الاستمداد من الحياة العصرية والثقافية الغريبة لم يمض عليه متسع من الوقت للتغلغل فى آدابها ، فالاطلاع على ما لا عهد للآداب العربية به من فنون الشعر ، والنثر .
4 - طور التحرر :
ومع الأجيال التى نضجت مواهبهم خلال الربع الأول من القرن العشرين ، فما بعد ، وكان حظهم من الثقافة الغربية ، واطلاعهم على الادب الفرنسى اعمقين ، : اصاب الشعر التونسى ، فى محاولة شعرائهم ، تحولا جذريا :
1 - فى الموضوع والمضمون ، وقد تجاوزا فى تطورهما المقادير الجزئية التى كانت من نصيبهما فى عهد سابق .
2 - فى الهيكل والاسلوب ، مما سيؤول الى تحرر صريح كامل من اوزان الخليل ، واعاريضه ، وخروج سافر على التعبد بوحدة الوزن ، والقافية ، والبيت ، وذلك لما اشتد التفاعل بالشعر الغربى ، منذ خمسينات القرن الحالى ، اما مباشرة لدى دراسى الادب الفرنسى نثرا وشعرا ، أو بتأثر رواد
هذا الاتجاه الجديد من شعراء المشرق العربى ، فى محاولات خولت : طور التحرر ان يتبلور اكثر فاكثر ، وما تزال . .
1 - وقد ظهر هذا التحول المزدوج ، فى تونس ، اول ما ظهر ، على ما انتهيت اليه حتى الآن بعد طول بحث ، فى عدد من قصائد المفكر التقدمى ، والمصلح الثائر ، الفيلسوف : سالم بن حميدة (1) . فى محاولات هذا العبقرى نحا الشعر منحى فلسفيا : انسانيا تارة ، التزاميا وطنيا ، تارة ثانية ، ذاتيا تارة اخرى .
وتلامس ، لديه ، بعض النظريات العلمية او الفلسفية اوتار العاطفة فتحركها للغناء الشعرى على غرار ما جرى لفئة من الفلاسفة أو العلماء ممن غلبت الصبغة الادبية على نتاجهم العلمى أو الفلسفى ، امثال : (( بركسون Bergson H. )) الفيلسوف الفرنسى (2) ، سيما فى أجود كتبه : (( التطور الخلاق )) و (( انشتاين Einstein Albert )) (3) فيما ختم به فصل (( الغبطة )) . .
وتثير نظرية (( دروين Darwin )) المتعلقة بما بين الانسان والشمبانزى - اشبه القردة بالنوع البشرى - من شبه ، ثم ما فسرت به من قبل المولعين بها من ادعاء تحدر البشر من قرد تطور الى انسان ، يثير هذا الراى جدلا على شتى المستويات ، وتبلغ اصداؤه العالم العربى والاسلامى ، فتختلف ردود الفعل بين الرفض ، والقبول ، والتوقف ، والمناقشة .
ويقف ابن حميدة ازاء هذه النظرية مناقشا ، يتحدى الزعم وينقضه ، ويجرد نثره وشعره للرد بما يتفق وطبيعة كلا الفنين ، من ذلك ما قاله فى قصيد طويل ، منه :
اعجز العلم مبدئى ومعادى اى عجز يضل فيه رشادى
جهل (( فرودى )) وعلم (( دروين )) فى نوادى (( القرود )) كل ينادى
جئت من اين ؟ والى اين امضى ؟ ما حياتى ؟ ما نشأتى ؟ ما مرادى ؟
ما نعيمى ؟ ما لذتى ؟ ؛ ما شقائى ؟ ما عذابى ؟ ما ضلتى ؟ ما سدادى ؟
اعجز العالمين تحقيق كونى فاضلوا ، ولم يلموا بهادى
فدعى العلم للتخرص عبدا ما اراد البناء إلا وهدا
يرتقى بالدليل حتى اذا ما ساء فالا اولاه صدا ، وردا
كلفته ظواهر الكون مالا قد يطيق ، ان رام حصرا وعدا
فانثنى جاحدا كفورا بحق مفسدا ، عابثا ، مكدا ، ملدا
فاهجرى هجره الى صفو حلمى واشربى كاسه اذا رمت جدا
ويمضى الشاعر فى اشارات موحية ينتقد افراط (( فرويد Freud )) فى التركيز على الغريزة فى باب التحليل النفسى مما اصبح مقترنا باسمه لدى علماء النفس .
كما وضع فى قبالة نظرية (( تطور الادنى الى الاعلى )) عكسها القائلة (( بهبوط الاعلى الى الادنى )) مما هو معروف بالمسخ ، ليطلب الى القاطعين بتحدر الانسان من فصيلة القرد ما يرحجون به احد الاحتمالين بطريق الدليل الموجب ، لا الميل المجرد ، ليسبق ما ظهر اخيرا من نتائج مختبر علم الحيوان لدى العالمين (( فرنون رينولدز )) و (( اندريان كورتلانت )) من تاكيد ان الانسان لا يمكن ان يكون متحدرا من القردة ، بل على العكس ، فالفردة قد تكون هى المنحدرة جانبيا من بنى الانسان .
ثم خلص ، فى اسلوب شعرى ، الى ابراز نقطة الضعف فى منهج العلم مما عرفناه لدى كبار الفلاسفة الغربيين فى تحليل اسلوب البحث فى مجال العلم لاحصاء خصائصه : ايجابا ، وسلبا فجاء المقطع الثانى بابياته الخمسة يختصرها اختصارا طريفا .
فدعى العلم للتخرص عبدا ... يرتقى بالدليل ...
وكان فى نزعته الفلسفية على طريقة المدرسة الاشراقية فيما توليه الروح من اعتبار الى جانب الادراك العاقل ، كما يميل الى تاكيد ما بين الانسان والكون من صلة .
غصت فى لجتى اسائل نفسى عن حياتى ، ما بين يومى ، وأمسى
بين ماض ، وغابر ، ضاع حسى يا حياتى هل فيك سر دفين ؟
فى مكانى ، فى ساعتى ، فى ظروفى فى سمائى اذا أجلت حصيفى
فى اختلاف الفصول كم من صروف حبة القلب هدفها والعرين
كل ما فى هذى الطبيعة منى ، كل ما فى جزؤها ، فامتحنى
تلفها مسرحا يمثل كونى ، تلفنى مسرحا لها قد اكون
...
والقصيد طويل مثبت بديوانه (( الزهريات )) المخطوط ، نورد منه البيتين التالين ، ايضا - للتدليل على وطنية الرجل ، ومبلغ التحامه ببلاده :
لو تجردت من بلادى وارضى لو أضعت من ارض تونس حظى
لن ترانى ، وقد جفانى ، بعضى غير وهم ، تهيم فيه الظنون
وعلى لسان الامة التونسية نفث سخطه على الدول القوية المغرورة بالشعوب
الضعيفة باسم الحرية وحقوق الانسان فى قصيدته (( الانسانية )) تعقيبا على خطاب (( ولسن )) فى : (( عصبة الامم )) سنة 1919 فيما ردده هناك من دعوة لحماية السلام ، ودعم حقوق الانسان ، ومنها :
ضاق ذرعى والكون رحب فسيح لم اجد ملجأ به استريح
من خيال ما انفك يدعو يصيح ايها الانس ان جفنى قريح
باكيا ما نكثتمو من ذمامى
ضل صبرى ، وما دريت خطابا صالحا ، ان يكون منى جوابا
فالتفت إلى الأنام عتابا ابتغى الحق ، فاجتنيت عقايا
حال بينى وبين ذاك المرام
غللونى بادهم من حديد قيدوا مقول بقيد شديد
قرنوا نظرتى ببطش شديد وسبوا فكرتى بشر وعيد
وادعوا اننى عدو النظام
بلغت ابيات هذه الملحمة ستا واربعين بيتا عدا الأشطر التى تلى كل بيتين ، وزعت على سبعة فصول ، ودار الحوار فيها بين : 1 - الشاعر نفسه . 2 - واحدى ثلاث غوان تمثل فيهن : الحق ، والحرية ، والسلام .
تعد من اروع ما اعطى الشعر العربى الجديد مبنى ، ومعنى ، نشرها الشاعر كاملة فى جريدة (( مرشد الامة )) فى عددها الصادر يوم 27 رمضان 1338 - 28 جوان 1920 ، ثم أعاد صاحب الجريدة : سليمان الجادوى ، نشرها فى كتابه : (( الفوائد الجمة فى منتخات مرشد الامة )) سنة 1925 ، بالصحيفة 360 فما تلاها .
أما فى الشكل فشاعرنا لم يشذ عن مزاجه الثورى ، بل خرج عن القوالب المتبعة الرتيبة وصرف الموسيقى فى جانب من اشعاره الى تنويع الوزن والقافية ، وفى جانب آخر تحلل من انماطهما المألوفة تحللا مطلقا .
وفى (( الزهريات )) الذى سبقت الاشارة اليه نقع على عدة قصائد من هذا السياق ، وفيه اكثر من سابقة جديدة ، ومن ابرزها ما يعرف فى النقد الادبى اليوم بـ : (( وحدة الديوان )) اهم مظاهر التجديد فى الشعر العربى الحديث .
لقد تهيأ لابن حميدة أن نضد قصائده (( الزهريات )) فى باقة واحدة ، كرست جميعها لغرض مشترك ، ظل المحور الذى دارت حوله على تنوع فى
التجارب ، واختلاف بين الدوافع . وهى ترجع - زمنيا - الى ما قبل سنة 1932 لأن الشاعر كان فى شهر جانفى من هذه السنة قد انتهى من نسخ مسودة الديوان ووضعها فى صورتها المعدة للطبع كما هى عليه الآن . ومن تلك الزهريات ، قصيده : (( المناجاة )) ، ومنه :
يا لقلبى
ذاب لببى
من لقربى
من ملاك فاز منى بالحشا
ظل يوحى لفؤادى ما يشا
فى هيامى
فى سقامى
فى ظلامى
ضاء لى فى الافق ، من سف الدجا
باسم ، من ثغر برق ، اجهشا
فى رياض
فى غياض
فى تغاض
زرت روض الزهر حياه الحيا
فاحتساه الزهر راحا فانتشى
يا لزهر
ضم بدرى
لست ادرى
فى سماء انت ، ام بدر السما
قد تدلى ، فاعتلى منك الحشا
لدينا اكثر من دليل على ان شاعرنا كان مغرما بالادب الفرنسى ، اقبل عليه بالمطالعة ، والحفظ ، بل كان ينتقى منه نماذج لتلاميذه . حدثنى محمد البهلى النيال ، وهو ممن تتلمذ على سالم بن حميدة مع زمرة من رفاقه فى لعقد الاول من القرن العشرين - سنة 1909 و 1910 - أن استاذه كان يتخير لهم مختارات من شعر فولتير Voltaire الثورى فيما روج به لمبادىء الثورة الفرنسية : الحرية ، والديموقراطية ، والعدالة الاجتماعية .
ولا يخفى ان فولتير كان من قادة الفكر الفرنسى الذى كرسوا انتاجهم لخدمة المجتمع ، وهيؤوه للثورة التى اندلعت سنة 1789 .
واكثر من ذلك ، فقد نشر لابن حميدة شعر باللغة الفرنسية ، كان يشترك فى ترجمة بعضه مع الاديب الجزائرى المشهور (( جان عمروش )) لما كان هذا مقيما بتونس . من ذلك قصيد : (( دموع )) المترجم بعنوان (( Larmes )) المنشور بالمجله الفرنسية (( Mirages )) فى العدد الاول من سنتها الثانية الصادر عام 1932 .
2 - ثم ظهر أبو القاسم الشابى ( 1909 - 1934 ) عبقريا مجددا ، اطلق ثورة عارمة فى شعر تمردى جديد ، جنحت به المرارة ، فى حالات كثيرة ، الى رومنطيقية خصبة ، كانت البداية الاولى لظهور نزعة رومنسية فى الشعر التونسى جمعت خصائص الرومنسية فى مدلولها الدقيق كما عرفها الادب الفرنسى فى اعلام هذه المدرسة امثال (( شتوبرييان F. Chateaubriand )) (4) تخللها عند الشابى الملهم وميض متقطع من الأهل الذى كان يضىء ، من حين لآخر ، نفسه العابسة ، بأناشيد الحب ، والغزل ، والرضا ، والبناء ، فالائتناس الاجتماعى . . ثم لا تفتأ تعود الى العبوس ، والهروب ، والتأفف ، او الى الثورة والتحدى ، او المرارة والألم .
وكان هو الآخر قمة فى التجديد ، وثورة على الاوضاع الاجتماعية والسياسية العفنة .
وديوانه (( اغانى الحياة )) حافل بغرر القصائد من حالات الشاعر تلك ، وهمومه ، ينقل تجاربها بوفاء ، ويرسلها جياشة بالرؤى ، منبجسة بالعبير ، او فياضة بالزهو ، او متجهمة بالقطوب ، صارخة النكير ، داعية للبناء ، منطلقة من هدم الخراب الاجتماعى ، والسياسى ، والقيمى .. ولكم تمنى ان يكون حطابا يهوى بفاسه على جذوع شعبه ، او سيلا يجرف اشباه الاموات من الاحياء :
أيها الشعب ! ليتنى كنت حطابا فاهوى على الجذوع بفأسى !
ليتنى كنت كالسيول ، اذا سالت تهد القبور : رمسا برمس !
... قصيد (( النبى المجهول ))
ويطلق فى وجه الطاغية صرخة الحق المرعبة :
وفى صيحة الشعب المسخر زعزع تخر له شم العروش ، وتهدم
ولعلعة الحق الغضوب لها صدى ودمدمة الحرب الضروس لها فم
اذا التف حول احق قوم فانه يصرم احداث الزمان ويبرم
لك الويل يا صرح المظالم من غد اذا نهض المستضعفون ، وصمموا
... قصيد (( الى الطاغية ))
وديوان الشابى منشور ، بوسع القارىء ان يستمد منه ما شاء من النماذج العالية ، وفيها ظل الشاعر شديد الصلة بانسانيته الرحبة يغترف منها بغير تزييف ، ويستمد استمداد فيض ، ويعطى من ذاته لفنه ، وذوقه ، وأمته ما ظل فيه على وفاء الاصالة قمة من قمم الخلود .
ومن خير ما يذكر للشابى الأبى : انه لم يمتدح بالشعر ، ولم يهن فنه فى التكسب ، شأنه فى ذلك شأن ابن حميدة ، سلفه ، فى جبهة اخرى من جبهات ثورتهما على مفهوم الشعر الموروث فى عصر ما يزال القريض يساق ، فى كثرة منه ، للزلفى او التزلف .
قال الشابى :
لا انظم الشعر أرجو به رضاء الأمير
بمدحة أو رثاء تهدى لرب السرير
حسبى اذا قلت شعرا ان يرتضيه ضميرى
وفى قصيده (( فلسفة الثعبان المقدس )) يلتقى فى المحور العام مع مطولة ابن حميدة (( الانسانية )) وقد ادرك الشابى ، ما ادركه ابن حميدة ، اضمار القوى الشره الوقيعة بالضعيف الغرير ثم افترق الشاعر ان افتراقا بينا فى الابعاد ، والاشواط ، وجوانب الاستمداد ..
