اعادت الدار التونسية للنشر مؤخرا طبع ديوان " السعيديات " الذي كان الشاعر سعيد ابو بكر ( 1899-1948 ) أصدره للمرة الاولى سنة 1927 وقد جاءت الطبعة الجديدة فى ورق رخيص وقد حذف منها الاهداء ومقدمة المؤلف والفهرست وكان يتعين اثبات ذلك اذ ان الاهداء يشير الى التزام الشاعر بقضايا عصره الاصلاحية كما ان المقدمة لا تخلو من فائدة اذ يشرح فيها الشاعر كيف أنه لم يبوب اغراض الديوان على الطريقة التقليدية وذلك لانه حسب قوله لم ينظم " شيئا فى كثير من الابواب التى اعتاد الشعراء ان ينطموا فيها مثل المديح والهجاء والفخر والرثاء والغزل (*) ". أما غياب الفهرست فهو خطأ منهجى ليس له اى مبرر . ورغم هذه الانقاص المؤسفة فان الطبعة الجديدة تمكن القراء والباحثين من دراسة هذه المجموعة الشعرية التى كان لها صدى كبيرا ابان صدورها رغم ما يعلق بها اليوم من عتاقة وغبار .
يحتوى ديوان " السعيديات " على 41 قصيدة تتخللها مقطوعة منها ما هو ثنائى الابيات ومنها ما هو ثلاثى ومنها ما هو رباعى ، وقد كان الشاعر نشر هذه المقطوعات فى جريدة " النديم " تحت عنوان " زهرة بعد زهرة ".
وهذه الزهرات لا تستحق فى الواقع أن نقف عندها طويلا فهى عبارة عن مجموعة من الخواطر والانطباعات والحكم السياسية والاجتماعية لم يوفق صاحبها الى صياغتها فى شكل فنى مستساغ علما بأن هذا الشعر يحتاج أكثر من الشعر المطول الى التحكم في المعدات والوسائل . ولذلك جاءت هذه الزهرات فى جملتها باهتة اللون فاترة الرائحة ، من ذلك قوله :
قولوا لذى شغف بالعسف يعشقه مستعملا نغمة الطلاب للثار
فتش ديار الالى لا يعرفون الى ما أنت آتيه غير الخزى والعار
لا يرجع الحر عن اسباب نهضته حتى ولو سكن البوليس فى الدار (2)
أو قوله :
بني الغرب كونوا لدينا كما لما أردتم . . فان الامانى بعيده
وصبوا علينا الشدائد ما اســ ــــتــطتم بتلك الايادى الشديده
ولا تنكروا مجد تونس أو تقولوا عليها " بلاد جديده " (3)
" الطلاب للثأر " ، " سكن فى " تقولوا عليها " مثل هذه التراكيب عديدة فى هذه الزهرات ، ومعلوم أن صدق النية والاحساس لا يكفيان لتمرير الرسالة ، وفي اعتقادنا ان الشعر الذى يكون دون مستوى النثر فى التعبير لا يستحق حتى ان يسمى نظما فالنظم يفترض مستوى معينا من الصناعة والاحكام ، وبوجه عام فان هذه المقطوعات لا تعدو ان تكون تعاليق صحفية موجزة كان يحسن ان تصاغ فى شكل نثرى طريف يعتمد التهكم والسخرية على غرار ما نقرؤه فى بعض الصحف الكبرى . ومهما يكن من أمر فان حكمنا لسعيد ابي بكر ، أو عليه ، لا يمكن ان نصدره استنادا الى هذه الابيات المتناثرة التى لم تحتج الى معاناة واعمال فكر ، لذلك ينبغى ان نوجه اهتمامنا الى القصائد المطولة ، وهي تنقسم شكلا الى قسمين قسم عمودى موحد القافية وقسم متعدد القوافى تصرف الشاعر فى اوزانه على غرار ما فعل شعراء المهجر وهذا القسم يهمنا بالدرجة الاولى اذ نلمس فيه بوادر التجديد الحقيقي فى شعر سعيد ابى بكر وفى الشعر التونسى عموما فشاعرنا هذا كان بحق رائد التجديد عندنا وقد سبق فى ذلك ابا القاسم الشابى نفسه . ولكن محاولاته ظلت محدودة اذ لا تتجاوز قصائده المجددة العشر تقريبا ، وهى وان كانت تشكو ضعفا عاما فى اللغة والتعبير تتضمن صورا شعرية ومشاعر تنم عن طاقة خام لم يحسن الشاعر بالتأكيد استخراج كوامنها صافية .
لعل احسن نموذج للمحاولات التجديدية عند سعيد أبى بكر قصيدته " أيها الليل " وفيها يفضى الينا بخيالات سهران تشغل باله شؤون وقضايا وفيها كذلك مناجاة لليل صديق الشعراء وكاتم اسرار الكون :
كلما اقبلت راح الظالمون حيث ناموا
كلما أدبرت عاث المفسدون حين قاموا
ما استقاموا عبثا تمضى السنون ما استقاموا (4)
كذلك يتصور الشاعر الليل فترة هدنة تستريح فيها غرائز الشر وتريح ويتمكن خلالها المتأمل من استجواب الطبيعة الساكنة :
اين أقلام لها السم مداد للكتابه
ويد مدت الى الشرق الحداد فأصابه
مزقت قلبا بسكين العناد وثيابه (5)
واذا استثنينا كلمة " ثيابه " التى جاءت بها القافية بصورة تعسفية فان هذه الابيات لا تخلو من صفاء جرس ومن صور دالة ، ومعلوم ان هذا الضرب من الايقاع الشعرى سخره شعراء المهجر للتعبير عن الحنين وعن الغربة المادية والروحية فى لغة رومنسية يعرفها الجميع . ولكن هموم سعيد تتمحور فى اغلب الاحيان حول منزلة الانسان العربى الذى يعانى ويلات الضياع والتمزق فى ليل الاستعمار :
ورجال الشرق ؟ هل خلفى همو او أمامى
كيف ناموا ؟ عنهم قد سلموا من سقامى
ما اعتراهم يا ترى هل علموا بالرامى ؟ (6)
ولئن دلت هذه التساؤلات على الحيرة التى تنتاب الانسان المتلزم عندما يحس بالانفراد ، فهى تدل ايضا وبالخصوص على حدة الوعى بما ينجر عن ذلك من اوجاع وأحزان ومن أمل يرتعش كالمصباح فى مهب الريح :
هل أرى الشرقى ان قام غدا قام حيا
وتماشى للعلا واجتهدا وتهيا
والى نجم السها مديدا والثريا (7)
ولا شك في أن مثل هذا الشعر كان في تونس خلال العشرينات بمثابة لحن جديد يحمل في انغامه بذور التغيير شكلا ومضمونا . وفى قصيدة أخرى بعنوان " اتق الرزايا " يدفع الينا الشاعر بمجموعة اخرى من خواطره وهواجسه اذ يناجي هذا " الافق " المشحون بالكوارث والذى اصبح أليفا له ، ويلجأ سعيد الى ضروب من الطباق اللفظى والمعنوى ليست كلها متكلفة :
انت شوك ناعم فى لمسه طبب الاوجاع
انت يوم مطرب فى حسه شنف الاسماع
انت موت مخرج من رمسه ميتا قد ضاع (8)
والقصيدة تكاد تكون نشيد تفاؤل رغم عنوانها فالشاعر تعمد فيها رؤية الجانب الايجابي من الاشياء والتماس اسباب الحياة من كل شئ حتى الموت .
وضمن قصائد التجديد تندرج قصيدة " رفقا بالانسان " وهي مشهورة بل لعلها اشهر قصائد سعيد ابى بكر ، ولا تقوم هذه الشهرة فى الواقع الا على المطاع الذي لا يخلو من طرافة ظرفية . فالشاعر يتعجب من كون جمعيه الرفق بالحيوان لا تشمل الانسان المضطهد بعطفها :
جمعية الرفق بالسنور والديك ماذا عن الرفق بالانسان يلهيك (9)
وبديهى ان الشاعر كان يشير الى تناقض الحضارة الغربية فى مفهومها للقيم الا ان القارىء قد لا يشعر الا بالتهكم او الاعتراض على مبدأ الرفق بالحيوان :
كفكفى دممع الكلاب وامسحى دمع الحمير
واذا المرء اشتكى الــ ـجوع بالدمع الغزير
فاطعمى القطة لحما ربما لم يذق ما دونه منذ سنين (10)
ان أولوية الرفق بالانسان امر مفروغ منه ولكن لا يمكن ان يكون هناك وجه للمقارنة او الموازنة بين الانسان والحيوان ، هذا علاوة على ما فى طلب الرفق فى هذا السياق من حط من منزلة الانسان المناضل
ويحس الشاعر أحيانا بانعدام جدوى الحرف فى مجتمع جاهل غليظ الحس فيدعو الى الكف عن ممارسة الكتابة :
كسروا أقلامكم وامسحوا ارقامكم
واجعلوا قدامكم
صفحة الماضى وما عنه انطوى - واعبدوها
قدسوا هذا الوطن أو أذيقوه الفتن
كله شر . اذن
كفكفوا الدمعة فالامر استوى - كفكفوها (11)
واثر الصياغة المهجرية واضح فى هذا القصيد كما هو واضح فى قصيد * الغصن المجرد " الذى يذكرنا بقصيد " النهر المتجمد " لميخائيل نعيمة :
يا غصن كم غنت عليك بلابل الروض الجميل
من نغمة فيها ارتياح للمتيم والعليل (12)
وعلى نفس هذا النسق التجديدى ، نقرأ قصيدا غراميا حزينا لا يخلو من رقة وقد أفلت من رقابة الشاعر بعد أن نبهنا فى مقدمته الى انه قد انصرف عن الغزل . يقول تحت عنوان " بين أمسى ويومى " :
اسدل الليل ستارا عن نفوس العاشقين
فاذكرى قبلة ثغر أسكتت
نفسينا فى الهوى منذ سنين
... هكذا سلمى قضينا عهدنا الماضى الامين
فاذكرى الآن شقائى واهنئى
واتركى الاحزان للقلب الحزين (13)
هذه هى اذن نماذج من الشعر الذى كان فيه سعيد أبو بكر رائد تجديد ومن خلالها نتحسس شخصية الشاعر وبعض لمساته الفنية الاصيلة ولكن معظم قصائده جاءت على الشكل التقليدى تمشيا مع الاسلوب الكلاسيكى الذى سار عليه معاصروه وخاصة الشاذلى خزنه دار ، وفى هذا الصنف من القصائد لا يسلم الشاعر من عيوب الوعظ والطريقة الخطابية :
الا أيها الشرقى هل من تأثر يحرك ذاك القلب ؟ يكفى من الذعر
وهل لك من هذى الرزايا منبه وهل لك عند المدلهمات من عذر
الى القبة الزرقاء ! سعيا الى السما الى مجلس ما بين انجمها الزهر (14)
ومن الصور والرموز التقليدية الرائجة فى العشرينات ما جاء فى قصيدة " الفتاة الباكية " التى التقى بها الشاعر فى حديقة اثناء جولة صباحية فأراد أن يسليها بالغزل فاغتاضت وصدته عن نفسها ثم كشفت له عن هويتها :
أنا تونس الخضراء ! ويك الى متى على السير فى نهج العلا تتغافل
كأنك لا تلقي المعرة اذ ترى بلادك فى خطب ولا تتقلقل (15)
ولعل خير ما يلخص تصور سعيد ابى بكر لوظيفة الشعر ، والبلاد على ما هى عليه من بؤس وجهل ومهانة ، قصيدة " أيها الشعراء " التى يدعو فيها الى ترك الاغراض التى لا طائل من ورائها :
دعونا من الاطناب فى وصف غادة دعونا من الاطناب فى مدح سيد
وكيف بدت سلمى وكيف تكللت بكف خضيب أو بحلى ومسجد
الى تهضية بالشعب قبل مماته إلى قطع أسباب الهلاك المهدد
الى كشف اسباب النجاح بربكم عسى غافل للخير من ذاك يهتدى (16)
ويجب الاعتراف بأن الشاعر قد ظل طوال حياته وفيا لهذا المنهج مسخرا قلمه للايقاظ ودفع الشعب الى السير فى درب الكرامة والشرف ، ولكنه لا يتمالك من أن يسقط الى حضيض التكلف حين يلخص فى قصيد " الى الدرس " (4) التقدم الحضارى فى ترك العيس وفى ركوب الباخرة والمنطاد ، أو حين يتحدث عن جهده وعن كده المتواصل من أجل القضية الوطنية : (17)
ايها الشعب كفانى شرفا أن ترانى خادما كالمجتهد
ليس يثنى العزم منى جمعة لا ولا سبت ولا يوم أحد (18)
ان الكاف فى عبارة " خادما كالمجتهد " تضعف المعنى والمبنى أما استعراض ايام آخر الاسبوع فيدعو الى الابتسام.
ولكن سعيد أبا بكر يبلغ منتهى الضعف عندما يلجأ إلى التقريرية الجافة فى قصيد " واقعة بنزرت " وفيه يتحدث عن أضراب عمال الرصيف فى شهر سبتمبر من سنة 1924 وكيف عمد اعوان الشرطة الى اطلاق النار لحل الاضراب وفى ذلك يقول الشاعر :
فأرعد رأس المال واشتد غيظه وأصبح فى ثوب من العجب والكبر
رأى لآذان الحكومة أمره وانى لها الاغضاء عن ذلك الامر
هناك رأي أن الهدوء مخيم عليها ... ولكن ظنه شدة الذعر
فحاول أن ينهى الخلاف مسيطرا عليهم فلم يظفر بمنشوده القسرى
فأعمل فيهم طيشه باشارة لاعوانه كانت مخالب للشر (19)
ويمضى القصيد فى شكل حديث وصفى اولى بالنثر الصحفى العادى ان يقوم به ، وبديهى ان الشعر الوقائعى محدود جدا فى الزمان وفى المكان وهو أشبه بالزبد يذهب جفاء ...
وكذلك الشأن عندما يسجل الشاعر واقعة مؤلمة أخرى سماها " حادث سوق الاربعاء " حيث عمد احد المعمرين الى التنكيل بعاملين من عمال ضيعته اتهمهما بسرقة عنقود عنب فربط ايديهما وراء ظهريهما وعلقهما عدة ساعات فأدى الامر الى قطع احدى يدى كل منهما ، وفى هذا القصيد يشهر الشاعر وحشية المستعمر الذى يدعى مع ذلك انه جاء للتمدين والحماية ، ولكن الشاعر لم يفلح في اداء المعاني بما تقتضيه من احكام فنى ومن صور أخادة محركة ، بل انه استهل كلامه بمطلع من أضعف مطالع الديوان ان لم يكن اضعفها على الاطلاق :
أيها العائش فى هذى البلاد تظهر الدرس الى هذى العباد (20)
ثم يشير الى ما جرى من احداث بطريقة أقل ما يقال فيها انها سطحية :
هل من التدبير والحكمة ان يشنق الشرقى ! وهل هذا سداد
هل إذا ما مس عنقودا من الـ ــعنب المبذول يرمي بالصفاد
وهو ساقيه وحامية وخا دمه من غير أجر يستفاد (21)
ان هذا القصيد يبدو لنا محاولة صبيانية بالقياس الى القصيد الذى قاله الشاذلى خزنه دار فى نفس الموضوع (22)
سعيد أبو بكر شاعر أصيل وقد أكد حضوره فى حديقة الشعر التونسى بالتزامه الدفاع عن قضية الانسان العربى وبمحاولاته التجديدية فشارك بذلك فى تركيز الشعر السياسى وفى هبوب انسام التغيير والحداثة ، ولكننا نندهش فى الكثير من الاحيان أمام ما ينتاب شعره من ضعف عام يتمثل فى السطحية وفي أخطائه اللغوية ( ومنها خلطه بين حروف الجر : لـ والى ، عن وعلى . . ) وحتى العروضية ، فما هى الاسباب التى أدت بشاعريته من المخاض الى الاجهاض ؟ .
يمكن ان نجد الجواب عن هذا السؤال فى عاملين اثنين أولهما اشتغاله بالصحافة التى تقتضى سرعة التحرير وقلة المراجعة وثانيهما ما يرويه
زين العابدين السنوسي فى كتابه " الادب التونسي فى القرن الرابع عشر " او يقول متحدثا عن طفولة الشاعر ايام كان تلميذا باحدى المدارس " جاء يوما متفقد التعليم وشاء أن يستكتب التلاميذ شيئا فأملى عليهم :
الشعر صعب وطويل سلمه اذا رقى فيه الذى لا يعلمه
زلت به الى الحضيض قدمه وليس يقدر عليه قلمه
فكتبت الفرقة الابيات وانتهت منها ورفعت رؤوسها من أوراقها الا واحد كان ما زال يكتب ، هو الطفل سعيد الذى أبى الا أن يذيل البيتين ببيتين من عنده :
لكنه سهل قصير السلم إذا رقى فيه امرؤ التعلم
يخطو به الى العلى بقدم عندئذ وكل عبد يكرمه (23)
فى هذين البيتين اللذين يدلان على ذكاء طفل وسرعة خاطره يكمن سر ضعف سعيد ابى بكر ، ذلك ان " الشعر صعب وطويل سلمه " ولكن الشاعر لم يدرك هذه الحقيقة فاستسهل الامر وانقاد الى السهولة ولم ينفذ الى اعماق ذاته بالكد والمعاناة ومصارعة الكلمة
