الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

افريل والذكرى ...

Share

افريل فى الجنوب ليس شهر الاكاذيب والاقاويل ... ولكنه شهر احتضار الربيع وبدء الخماسين اللافحة والاعاصير المحملة بالتراب... شهر المناجل ، والسنابل ، والبيادر ، والنوارج ... فأنت فى الريف بين اسراب الفلاحين والفلاحات السمر السواعد وقد لوحت الشمس وجوههم بلون البهار ، انتشروا بين المزارع كالنمل فى عناق مع سنابل القمح والشعير لا ينتهى حتى تلملم الشمس آخر اذيالها بين الربى والسهول ...

ما اجمل منظر العذارى الضاحكات يحتضن السنابل ويحلمن بالعرسان والاعراس فى صيف هادىء جميل فيترجمن حلمهن أغانى تذوب حلاوة ولذة وتشيع البهجه والنشاط فى نفوس الشبان وسواعدهم فاذا هم من الطرب والشوق فى انبهار وحنين ... وما ارشق منظر الجمال تدور على البيدر تجر النوارج وراءها فى هدوء وسكينة واستسلام وما احسن وألذ أغانى الراكب على النورج (( بارك فيهم يا رب . يا رب نزل البركات بين ايديهم )) أغنية (( الدارس )) فى الجنوب . يمد بها صوته فى اناة امتداد اعناق الجمال تطأ التبن والحبوب وتجتر فى اطمئنان وسكون ...

هذا ما سحرنى فى قرية صغيرة فى الجنوب الشرقى من وطنى . صور رسمت فى الذهن مع نعومة الاظفار ولا يزال لها فى نفسى صدى واشعاع بعيد .. حتى انى استطيع ان أشم رائحة التبن واسمع ثغاء القطيع وأحس انفاس الجمال كلما تداعت الذكريات وولت مع الماضى تنبش الامس البعيد ...

ومع ذلك فلى مع افريل اليوم ذكريات فواحم سود اغتصبت منى دموعا وزفرات وفعلت باحلامى ما يفعله الجدرى بوجوه الملاح ! .. كان ذلك فى فجر شبابى عندما تلقيت رسالة من أختى (( سميرة )) طمست حروفها العبرات فبدت كما تظهر لنا المنظورات من خلال الدموع : كاسفة حزينة .. و كانت تنقل الى خبر اشتداد مرض والدى ، وقد تركته فى عطلة الربيع يشكو ألم القلب ورأت فى لونه الحائل آنذاك ما يرى فى مزارع الشعير فى افريل : خضرة ينازعها اليبس وحياة تعانقها الموت ...

(( اسرع يا عزيزى فقد لا تدركه حيا .. ))

خرجت من منزلى وكانت افكارى ومشاعرى كالجيش الذى وضع فجأة فى حالة فزع : فوضى ، واضطراب ، وارتباك ..

وفى القطار اعدت فتح الرسالة فما رأيت اثار الدموع حتى بكيت .. لكأنى بالدموع تنتقل بالعدوى كبعض الامراض .. وجاءت الى الذهن أفكار وافكار .. كلها قائم يائس حزين ... فكرت فى كل شىء . فى أختى سميرة التى ورثت عن أمى الفقيدة رقة المشاعر ورهافة الحس ، ونحافة العود ، وطيبة الارانب مع جمال قروى حزين كان محل رعاية الوالدة فنما حينا وازدهر فذكرت الحالة التى آلت اليها بموت أمها وكيف نحف عودها وذبل شبابها قبل الاوان . فكيف يا ترى تتحمل المصيبة اذا قدر الله وفقدت النسخة الثانية من كتاب الحنان الخالد ؟ ! . فكرت فى مصير شاب كان بالامس يشيد قصور الامال ويحلم بالعز والمجد فاذا كل ما بنى يخر كما تفعل موجة متمردة بقصور غلمان ... فكرت فى المسؤولية التى يجب ان احملها على غير هدى او حنكة فتصورت ان الحياة اصبحت جحيما لا يطاق .. وسميرة أختى ؟ ! بنت تلزمها أم لترعى شبابها وتهدهد احلامها برفق وتكبح جموحها ، ان كان ، ببلاسم العطف والحنان ! .. ومن للبنت غير الام قسيس محبوب تعترف له بكوامن النفس فى صدق ورجاء ؟ ! لو كانت ولدا لعبرنا الحياة كما شاءت الايام ولأدلينا بدلونا فيها على وجه من الوجوه أما وهى بنت فكن لها يا رب ! ..

فى عشية اليوم التالى كنت بالقرية فقصدت سانيتنا وكنت كمن يتفقد اخا له فى خطوط النار بعد سكون معركة ضارية . ان وجده فعلى احسن الفروض كسيرا أو جريحا .. وراعنى الصمت المسيطر على بيتنا فقلت : لعله شفى ، يا رب اجعل مرضه كذبة افريل !. وفى الحياة حوادث نستكثر خطرها فنحاول ابعادها حتى بالاوهام والاكاذيب ! لكن هل تدفع الاوهام اقدارا ؟ ! ...

عندما دخلت الدار كانت سميرة أول من رآنى فهاجت شجونها واخذت تقضقضها العبرات والشهيق ، فتركتها الى الوالد فلما رآنى حاول ان يجلس فى سريره فلم يستطع فارتد الى الخلف وفى اليد رعشة وفى العيون دموع ، وكلمات ترحيب فقدت قوة الصوت فبقيت على الشفاه سرا مكتوما ... ملت اليه اقبل جبينه فأخذ يدى وأشار الى سميرة فأخذ يدها ووضعها على قلبه ضاغطا عليهما بعزمه المكدود ، ثم اخذ يجيل البصر بينى وبينها كأنه يريد ان يقول كلاما حين استعصى عليه الكلام . وعرفت انه يوصينى بأختى خيرا ويحملنى مسؤولية لم تمهله الاقدار حتى يفى بها .. هكذا فهمت منه وكثيرا ما تتفاهم النفوس بالرمز والايحاء اذا غاب الكلام ، وهالنى أن رأيت أبى يودع الدنيا ومشاكلها فاحسست بانه لم يعد من أهل الحياة ، وطفرت من عينية دموع اسالت عبراتى وحركت فى نفسى هوامد السنين ... فحاولت

ان أكلمه فلم يجب الا بحشرجة اهتز لها بدنه كله كانت آخر حركة يقوم بها فى الحياة ...

لا تسلنى ماذا فعلت سميرة صاحبة الحساسية المرهفة والشعور الرقيق فأنت ادرى بما فعلت ! . الطائر الذى يفقد الجناح الثانى لا يفر ، لا بد له ان يذوب حسرات فى مسرح الفجيعة ...

فى اليوم الثانى من هذه الحوادث كنت كالربان الغر وقد دفعت العاصفة بزورقه المكدود الى جزيرة بعيدة فهو لا بد ان يتفقد الالواح المرضوضه والحبال المجهدة والشراع المهزوم قبل ان يواصل صراع الموج ، وكانت رياح ماى تلفح الوجوه بهجير الصحارى وتثير الغبار والرمال فى زوابع ثائرة رعناء والنخل مرسل لها سعفه فى صبر المستسلم الى الاقدار ، وكان البئر الذى يسقى منه أبى مزروعاته رابضا فى ركن السانية الجنوبى تدلى من دولابه دلو كبير عبثت به الريح فاحدث فى الدولاب صريرا متناوحا خلت يومها انه يندب به الراحل العزيز .. وشجيرات الرمان المصطفه فى تعاطف أخوى والتى كان أبى ينام تحتها تدلت منها ثمار كعهدى بها ، ولكن ما لها اليوم تخدش الارض بذوائب اغصانها كأنها تخط لحودا ؟ ! ثم سرت نحو جملنا البارك تحت النخلة (( الحمورى )) فوجدت على مآقيه ترابا تجمع مع الدموع فخلت انه يبكى فى صبر وسكون ، وكان سعف النخلة تعزف عليه الريح لحنا كاسفا حزينا كأن هذه النخلة تندب الماضى بما فيه من مسرات واحزان .. فذكرنى ذلك عهد صبى ولى الى غير رجعة والفا فرقت بينى وبينه الايام نرى اين أنت يا رفيق الطفولة اليوم ؟. ماذا فعلت بك الايام ؟. اتراك تذكر هذه النخلة ؟ اتذكر يوم نصبنا تحتها فخا لهدهد وقع فيه اسيرا ؟ أما قلت يومها : ان البحث عن الكنوز دائما وخيم العواقب وهكذا وقع للهدهد الباحث عن كنوز سليمان ؟ ..

معذرة يا صديقى فقد تداعت افكارى ونحن فى لحظات الحزن كثيرا ما نذكر ايام الهناء والسرور كأن غريزة الفعل ورد فينا لا يفقدها الهم قانونها - شردت ببصرى وانا واقف بجانب الجمل فظهرت لى السانية كلها بنخلاتها العجاف وزيتوناتها المسنة وشجيرات التين واللوز كأنها فى مناحة كبرى تتمايل مع الريح كما يتمايل القراء بالاذكار فى موكب الجنازة ...

اسندت ظهرى الى جذع النخلة افكر فى مصابى واحاول ان ارسم خطوط المستقبل الغائم فلاحت لى احلامى واملى - كما قلت لك - كوجه مليحة عبث به مرض الجدرى فلم يترك من ملاحته الا اطلالا ... لم يبق لى على موعد امتحان انتهاء الدروس الثانوية غير ايام قلائل ، ولم تترك لى الحياة سندا اترك عنده أختى سميرة التى هى آخر حبة فى عنقود اسرتى الصغيرة فلمن اتركها يا ترى ؟. اعند جارنا محمود ؟ ! هلا أخاف عليها غدر الايام ؟ وهل

ترضى هى بذلك على كرهها لابنه الذى كثيرا ما شكت لى سوء سلوكه ؟ .. اين اتركها اذن ؟ . كانت هذه أول مشكلة عاجلة طرحتها على الحياة ، فأنا يجب ان اشارك فى الامتحان مهما كانت الظروف والا وجدت الحياة ثغرة اخرى تشن منها على الهجوم ..

بعد لاى قررت ان أترك أختى عند مدير مدرستها وهو شيخ طيب على ابواب التقاعد من اصدقاء الوالد له بنات يحببن سميرة وتحبهن خصوصا وقد عرض على ذلك مشكورا وهو أب لبنات يعرف الشرف ويذود عنه ...

فى اليوم التالى كنت اطبع على جبين أختى قبلة وداع حسبته سهلا ميسورا ، فما راعنى الا تشبثها بى شأن الغريق مع آخر لوح من الزورق الذى عبث به الموج فهوى حطام ، فتحايلت حتى اذا جاء الهزيع الاخير من الليل كنت اكفكف عبرة بمنديلى فى الظلام واقارن بين هذه السفرة والسفرات السابقة فوجدت نفسى هذه المرة كالجندى الذى يتقدم فى صفوف الاعداء وليس بيده بندقية واحدة تحميه ! ..

وصلت العاصمة فانكببت على دروسى بهمة من له مع الحياة ثأر وان كنت أشرد بذهنى احيانا بعيدا عن الدرس والكتاب لأعود الى القرية واحداثها ، ودخلت الامتحان ولعلك تسأل عن النتيجة فهى كما تحب انت !. فمن ميزات الانسان انه يتحالف مع أخيه الانسان ازاء الهم والالم فقد نجحت ونجحت ! . من هى ؟. انت تعرف من بقى لى فى الحياة اهتم بشؤونه : سميرة نجحت هى الأخرى واخدت الشهادة فى هذه السنة فصب ذلك على جروحى بعض البلاسم وان كان النجاح نفسه قد فقد عندى كثيرا من معانيه ، فاين منى زغاريد الأم وفرحتها العارمة واين بسمة الوالد الرصينة ونظرته المستبشرة الى أمى كأنه بقول لها فى كبرياء : أرأيت ماذا انجب الفلاح الفقير وزوجته النحيفة ؟ . شىء واحد ، بقى لى : هدايا سميرة المتواضعة يمكن ان اظفر بها ولكن من اين تأتيها الهدايا بعد ما دفنت صندوق كنزها الثمين ؟. ما اشبهنى الآن بالقائد الذي يكتشف بعد ان يكسب المعركة انه لم يبق من فيالقه غير جندى صم فلمن يحكى قصة الفوز ومع من يحتفل بالانتصار ؟..

قررت قبل الرجوع الى القرية ان اقوم بجولة فى انحاء العاصمة وضواحيها لاودع كل البقاع التى شهدت التلميذ الريفى ينزوى بكتابه ويستعد للامتحانات لانى اشعر بان تلك البقاع عزيزة على شاركتنى ايام المحنة فى نضالى مع الحياة .. قصدت حديقة البلفدير وعند خميلة فى جنوبها تقوم بجانبها نخلة عقور جلست اسمع الاصوات التى كانت تطربنى وأنا التهم الصفحات ، العصافير ماضية فى صخبها المسحور كعهدى بها . والنسيم يوقع الحانه على الاغصان فتتمايل تيها كأنما تعابث اسراب الفراش الحائم حولها فى نزق . وتذكرت انى فى يوم من الايام اخذت معى رسالة من والدى

يخبرنى فيها عن الزرع والزيتون وان العام عام خير وبركات وتداعت الذكريات فوجدتنى غارقا فى لجج الذكرى عندما انتبهت على صوت نسوى رقيق : (( أتبكى يا ( ... ) انك نجحت .. هاك الجريدة .. )) ورفعت بصرى فاذا بى حيال صديقتى وداد رفيقتى فى الدراسة وشريكتى فى المقعد فعز على ان ترى دموعى فكفكفتها وجمعت اطراف شجاعتى وقلت : اهلا وداد . كيف الحال .. مبروك ألم أقل لك ؟. اين الرهان !

- وانت أيضا .. معذرة فقد حيرتنى دموعك .. اتبكى وقد نجحت ؟ زغاريد فى مأتم وبكاء فى افراح . عهدى بك صاحب ذوق فنى رفيع فكيف هذا ؟.

- لا يا وداد أنا ما بكيت من اجل الامتحان . لكنى حزين بما ضمت عليه جوانح صدرى ..

- انى اراك تخفى عنى سرا منذ عطلة الربيع ! قل بالله ما بك !.

- ها أنت قد لمست موضع الداء يا وداد . أنا منذ عطلة الربيع أعانى مصائب وهموما .

- أحك لى كل شىء أنا صديقتك .. أنا وداد .. أتنسى ؟.

وقصصت على وداد كل قصتى وكانت رقيقة المشاعر ولى فى قلبها مكان فبكت لمصابى وبكيت أنا لبكائها - لا تعتب على يا صديقى فأنا كما قلت لك تعدينى الدموع وتهيجنى العبرات حتى فى حالاتى العادية فكيف وأنا يتيم ألقت به المدرسة على ابواب الحياة وحيدا - وتعانقنا فى بكاء وذقنا من قبلتنا الاولى طعم الدموع نفس الطعم الذى كان لقبلة أختى عندما كانت تبلل خدها العبرات .. ثم قمنا فتمشينا فى الحديقة وتواعدنا على تحقيق حلم بعيد ..

رجعت الى القرية فاذا كل شىء فى سانيتنا هادىء ساكن فى وحشة الموت وصمت القبور : النخلات العجاف التى حدثتك عنها ، والزيتونات المسنة وشجيرات الرمان واللوز والتى كلها استسلمت لقيظ الصيف ولفح الهواجر . فقضيت اجازة الصيف مع أختى هناك حتى اخذت سحب ايلول ورياحه المتناوحة تذكرنى بشد الحقائب فقررت الرحيل وتذكرت اعزاء رحلوا عن هذه الديار الى غير رجعة .. تذكرت قبلات أمى ودموعها التى تودعنى بها فى كل خريف .. تذكرت المنشفة التى كانت تخبىء لى فيها كل ما جمعته من دراهم البيض والدجاج . ودعواتها لى بالحفظ والستر والنجاح تذكرت جلستى مع الوالد يمد لى يده بالنقود قائلا : هل يكفى هذا ؟ فأخذت اكرر وحدى : يكفى يا بابا . يكفى فقد اوصلتنى الى مسافة استطيع معها ان ادرك

ساحل النجاة فى امان .. وكانت سميرة تجمع متاعها هى الاخرى وكلما نظرت اليها وجدت شفاهها ترتجف كأنها تغالب بكاء يهاجمها فى الحاح ...

غادرنا القرية يا صديقى وجئنا العاصمة فاشتغلت أنا موظفا صغيرا وفرت لأختى ولى العيش الشريف وضربنا فى الحياة بمناكبنا كما يضرب الآخرون حينا من الزمن ذقنا فيه حلو الحياة ومرها .. غير ان الايام التى شردت شملنا وقست علينا صغارا عادت فضمت الى شملنا شخصين عزيزين على ما كنت احسب ان الحياة على قساوتها تجمعنى بواحد . فكيف بالاثنين ؟ اظنك تعرفهما ؟ أنسيت وداد ... وصديق طفولتى اما حدثتك عنه . عادت الحياة فجمعتنا الاربعة . كنا اشتاتا وخلانا . فاصبحنا اليوم ازواجا وعرسانا .. هل رأيت الآن ماذا تفعل بنا الحياة ؟ وماذا تحقق من احلامنا الغوالى ؟ ..

- بنقردان -

اشترك في نشرتنا البريدية