" أنت تريدين إبادة الصرصار . . . وهو يريد انقاذه من يدك " توفيق الحكيم ( مصير صرصار )
أصابعي تجر المحلق ، كان شاربى طويلا وذقنى كثيفا ، كانت هنا منذ ساعة ، عبثت بشاربى ، تمرغت فوق الفراش ، ضحكت ، بكت ثم صرخت " أنت لست ككل الرجال ، لست ككل الرجال " ثم غلقت الباب خلفها وخرجت ، كانت امرأة ، ككل امرأة ، لا تختلف عن بقية النساء ، كانت جسدا يحمل نهدين وفخذين و ... و ... و... أحسست بثقل تغوص تحته رقبتى ، وعندما نظرت في المرآة المعلقة أمامى تبين لى أننى أحمل رأسين ، فما عسى أن يكون مصير رجل يحمل رأسين . . المحلق يدب فوق ذقنى ، فوق وجهى ، فيترك وراءه قطرات حمراء . . دماء حمراء داكنة تشوه وجهى ولاول مرة فى حياتى شعرت أننى دام ، أن أصابعي تتراخى ، فيعبث المحلق بوجهى ، أصابعي تعبث بوجهى ، أنا اعبث بنفسى . . وتدخل دماغي عبارتها " لست ككل الرجال " ، وقفت أمامى ، ثم حيت تحية الصباح ، لست أدرى ماذا أجبت , رتعشت ركبتاى ، تحركت شفتاى ، تلعثمت كلماتى ثم ماتت فى حلقى ، جميلة كانت ، نعم لقد كانت جميلة ، ابتسمت ، تحدثت ، تحدثت ثم ضحكت موعدنا غدا ها هنا فى ... " ثم ابتلعتها الحافلة وغاصت فى الطريق الطويلة . . . طريق طويلة ضيقة ومرآة مربعة صافية لا تكذب وأناس ذهابا وإيابا ورأسان لا يتشابهان . أنا احمل رأسين لا يتشابهان . . هكذا تبينا ! فى المرآة . وانتظرت فطال انتظارى وعلمت اننى لا محالة مفلس كالعادة ككل النساء كانت مغرورة ، تريد أن تشعر اننى فى حاجة اليها ، هكذا تفعل النساء ، وتركتها تعيش بغرورها ، فهكذا تعيش النساء ، تركتها للغرور رغم اننى تأكدت أن مصيرى سيكون الافلاس لا محالة . وفى آخر الطريق بان وجه جميل ، كانت هى ، بفستانها الوردى وشعرها المتدل . . كانت لعوبا , سألتها " لماذا تأخرت " ثم قلت عندما لم أجد جوابا " تتأخرين ككل النساء " فابتسمت ثم ضحكت - كما تفعل النساء - كان الوجهان يطلان من المرآة ، كانا بتشابهان ، كان كلاهما يحمل حاجبين مقوسين ، عينين سوداوين غائرتين , أنفا مستقيما شفتين منفرجتين وسمرة شاحبة ، كانا يتشابهان ولكنهما لا
يتشابهان ، قالت لى ما الحياة ؟ ماذا أجيبها ؟ ماذا أعرف عن الحياة ؟ . وتيقنت أننى مفلس لا محالة الحياة حركة ، الحياة نضال ، الحياة ثورة ، الحياة دماء الحياة . . الى أخ . . الى أخ . . ثم يبس حلقى ، لم أجد ما أقول ، فاضطربت الكلمات فى خاطرى ، ازدحمت ثم اندمجت فقلت " الحياة حياة فى النهاية " ثم سكت وانتظرت ، كانت الطريق طويلة وكانت عشية مسودة تعج بالحسان , فملنا الى منعرج الطريق حتى ولجنا قاعة فتهالكت على كرسى . قالت " ألا ترقص معى " أشعلت سيڤارة وطلبت كأسا ، أنا لا أرقص ، غريب أننى لا أرقص ، حنقت ثم تهالكت على كرسى بجانبي " أنت لست ككل الرجال " وقف رجل تدلى شعره ، حيى وابتسم ولما رأيت انها ابتسمت عرفت فقلت " هى لك " وخرجت ، وتيقنت أننى لا محالة مفلس . .
ما علمت أن المرآة تفضح الا اليوم ، مرآتي لا تكذب ولكنها كانت تغالطنى , أما اليوم فقد أعطتنى حقيقتى ، كانت أصابعى ترتعش وكان المحلق يحصد شعراتى بلا رحمة وصرخت المرأة : أنت رجلان " نعم كنت رجلين ولكنهما يتشابهان ، كانا نقيضين رغم أنهما واحد ، الغثيان يجتاحنى ، فيدور رأسى ويتحرك دماغى وأظل فى دائرة شاسعة ثم سرعان ما تضيق بى ، فيسرع الدوران ، قلبى يدور نفسى تدور ، الوجود يدور ، الحياة تدور ، الكل فى دوامة . قالت " لماذا تهرب منى ، اتخافني ، الرجال لا يخافون النساء " تورد خدى واحمر ، كان المحلق لا يزال يدب فوق طرف وجهى الأيمن كانت الشعرات ننسل واحدة فواحدة فتترك مكانها نقطة حمراء ، نقطة حمراء دامية . هل أنت رجل ، هل أنا رجل ، كل ما أعرفه هو أننى ذات يوم شعرت بحاجة الى حل ذقنى كما تحتاج صبية فى الرابعة عشرة الى حصر نهديها برباط حتى يبرزا ويظهرا . . وعندها بدأت أرى الدنيا بدأت أفرق بين الرجل والمرأة بين الحسناء والعجوز ، وأجاب المحلق " أنت رجل " وصاحت فى المرآة " أنه رجلان . . أنت اثنان " يجب أن تقتل أحدهما ، يجب أن تستأصل شطرك , يجب أن تقسم نفسك ، أنت خدان ، قلت وعلى شفتى ابتسامة مريرة " أنا أخافك " فقالت " لم تركتنى اليه البارحة ، ألم تكن بك رغبة " نظرت اليها " ماذا أقول " كانت حسناء ولكنى أعرف النساء . . حركت ساقيها فكشفت عن فخذين بضين ، ثم نهضت وهمست فى أذنى " هذه الليلة سأكون لك فلا تدعني اليه " ولم أجد الوقت لأجيب فقد ذهبت تتضاحك . . وانخذلت وآمن أن موعد افلاسى قد حان .
واستقبلتها ثم قدمتها الى أحبائى ، قلت لها انى أفهم كثيرا ، اننى أهواهم وقدمتهم اليها ، كانوا واقفين فوق المنضدة ، يبتسمون ، ولما علمت أننى أعيش فى بطون الكتب قالت " هؤلاء أحباؤك ، أنت مجنون . . مجنون " ثم كانت
حسدا ، فعادني الغثيان ، وحدقت " لست امرأة ، لست امرأة " قالت بكل هدوء " وهذه هي الحياة ، شئت أم أبيت ، الحياة أنا وأنا الحياة " وصرخ هاتف فى أعماقى " أنت رجل والحياة امرأة ، الحياة فاتنة ، تشجع ، تقدم ، خذ نصيبك " وتحرك . . بل وتحركت فصرخ بي هاتف آخر " أنت رجل " أنت رجل ، الحياة هى أنت فلا تعبث ، وانهارت قواى ، وتراخت عضلاتى وتقيأت على نهدها العارى فصرخت " النهد فضيحتك ، النهد لعنة الله عليك ، النهد وصمة تحملينها عبر الزمان ، النهد هزيمتك " ولما نهضت ابتسمت قائلة " أسفى لست ككل الرجال ، انت ما تلبى رغبة امرأة ، وابتسم شطرى , وخرج الصرصار من الحوض ، تمرد الصرصار ، فحطم الحوض ، لقد رأيته كيف خرج ، كان منهكا ، كان متعبا لكنه رغم ذلك كان متفائلا ، مستبشرا , يشعر بلذة الانتصار ، ولكن نقطة استفهام انتصبت أمامى " ما معنى أن يبقى الحوض فارغا ، مامعنى أن يخرق الصرصار الحوض " كنت أرى الرجلين أمامي ، كانا يتخاصمان ، وكانت بي ازمة عنيفة فنظرت الى المرآة وفجأة وجدت نفسي ، وتحسست وجهى ، كان داميا . وسألت المرآة " هل أنا ذاك الرجل فأجابتنى وقد كتبت على مساحتها الملساء بدمائى الداكنة " أنت رجل مفلس " وعندها أخذت منشفتى وانسحبت وعند المساء جاءتني فأوصدت دونها الباب . فقالت " مصيرك الافلاس " .
م. ب .
