الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

الأدب المعاصر والتراث

Share

عاودت مؤتمراتنا الادبية مرة بعد أخرى دراسة موضوع (( التراث والمعاصرة )) معاودة تشير الى أهمية الموضوع . والحقيقة أن الموضوع مهم والعودة إلى البحث فيه تكشف كل مرة بطبيعة الحال عن جانب يجب الاطلاع عليه ودراسته . وأهمية هذا الموضوع عند انعام النظر لا تقل عن أهمية وقوف الاديب العربى فى مكانه الصحيح من الحضارة الراهنة ، حضارة القرن العشرين ، والمشاركة فى قيادة أمته قيادة سديدة وليس من الهين أن يعيش الاديب حياته ويجرد قلمه ويكرس جهده ثم يتبين أن أساس أدبه غير صحيح وأن وجهته خاطئة . واذا توخينا الحقيقة فان وضع الاديب العربى من هذه الناحية وضع مغلوط فى كثير من الاحيان ، وفى كل بلد عربى . ولا يحزنن هذا القول أحدا ، فان الكشف عنه ومعالجته جديرة بأن تصل بنا الى الوضع السليم ، وتوفر علينا كثيرا من الجهد وتعود على الامة بكثير من الفائدة . واننا لنشارك فى هذا الوضع ادباء غربيين لا يقل الخطأ فى مواقفهم عن الخطأ فى مواقف بعض كتابنا .

واذا عرف الاديب العربى موضعه الصحيح من التراث والمعاصرة ، واستجاب للدافع الوطنى والانسانى الشريف الذى يجب أن يدفع كل أديب الى العمل ، وتضافر الادباء العرب فى الكتابة والنضال اللذين يقتضيهما الوضع الصحيح ، فان الامة العربية كلها توضح عندئذ فى الاتجاه الصحيح وتندفع نحو اهدافها المرسومة بزخم متزايد متسارع لا وناء فيه ولا تراجع .

ولا ننسى هنا أن الاديب يشمل الكاتب ، وكلاهما يعبر بمختلف الاشكال الادبية . ويدخل فى هذا الباب أيضا المفكر الذى قد لا يكون لما يضعه على

القرطاس شكل فنى ، ولكنه يغذى الاديب بالمعنى الذى يشتمل عليه أدبه . ولا ننسى أيضا أن المفكر والاديب هما اللذان يوحيان الى رجل السياسة فى الغالب بالوجهة التى يجب أن يوليها .

ولكن كيف يضع الاديب المعاصر نفسه وضعا صحيحا ويتوجه وجهة سليمة فى هذا الخضم المتلاطم من مشاكل الامة العربية ومشاكل العالم كله ، لكى يقعد عند القمة ويكتب لنفسه شرف البقاء ولأمته القدرة على بلوغ أهدافها ؟ ان الامر يقتضى معرفة المقصود بالمعاصرة والتراث معرفه واعية ثابتة . وربما كان أيسر طريق نستطيع الدخول به الى ذلك هو التذكير بمعركة القديم والجديد التى ثارت فى مصر أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من هذا القرن .

فقد كان طه حسين ورفاق له قد عادوا من أروبا يومئذ واخذوا ينشرون مقالاتهم الادبية وكتبهم الاولى . وهنا أحب أن أشير الى كتاب طه حسين الصغير (( فى الشعر الجاهلى )) المعروف لديكم والذى أثار به عاصفة من النقد تحولت الى معركة حامية أدبية سياسية وصلت يومئذ الى قاعة مجلس النواب المصرى . وقد تولى الرد على كتاب طه حسين بكتاب كامل أكبر منه محمد لطفى جمعة والشيخ خضر حسين وغيرهما .

وتصدى لطه حسين مصطفى صادق الرافعى بأسلوب مقذع بلغ حد الاتهام ، ليس من أجل كتاب الشعر الجاهلى وحده ولكن من أجل ادب طه حسين الجديد كله . وقد قسمت هذه المعركة الادباء فى مصر والعالم العربى الى فريقين ، فريق أيد طه حسين ، أو المعاصرة ، وفريق أيد الرافعى أو التراث، والحقيقة أن الخلاف تحول إلى انقسام حول الادب الجديد والادب القديم . وكان من الطبيعي أن تنحاز الاجيال الصاعدة الى الفريق الذى يتزعمه طه حسين ، وكان هذا الفريق فى النهاية هو المنتصر .

ان تلك المعركة التاريخية تقرب من الاذهان الموقف من المعاصرة والتراث . فطه حسين كان فى الحقيقة حامل لواء المعاصرة فى حين كان الرافعى يحمل لواء التراث وهنا يجب أن نوضح فورا أن طه حسين لم يكن يمثل المعاصرة الادبية بعمقها وشمولها ، وأن الرافعى أيضا لم يكن يمثل التراث وحده ، ومع أن طه حسين كان ملما الالمام كله بخصائص التراث العربى ، ومدافعا عنه ، فان الرافعى لم يكن ملما بأبعاد الادب المعاصر ومستلزماته . وعلى كل حال

يظل طه حسين أقرب إلى الاديب العربى الذى نعتبره نموذجا لادب المعاصرة ، لان أديب المعاصرة يجب أن يكون مطلعا على الأدب القديم بكافه ابعاده وخلفياته من العلوم التى كانت تؤلف جملة المعارف فى عهود التراث الذى نبحث عنه . ويصح ذلك على أى أدب ، عربيا كان أو غير عربى .

فاذا عدنا الى المثلى وتساءلنا عن التراث الذى مثله أدب الرافعى ، فما هو الجواب الذى نزود به مثقفينا وأجيالنا عن معنى التراث ومضمونه وابعاده ! يشمل التراث كل ما كان فى حينه ذا قيمة من الشعر والنثر والتاريخ والتشريع والعلوم الطبيعية والحياتية والفلكية والاجتماعية والفلسفية وسائر ضروب المعرفة التى كونت حضارة الامر على مر العصور والاجيال . ويصح هذا بالطبع على التراث العربى .

وأكثر ما نفهم نحن العرب من هذا التراث هو الشعر الجاهلى وما وصل الينا من نثر الجاهلية واخبارها ومختلف فروع المعرفة فيها وان كانت قليلة. وبالطبع فان مركز القوة والغزارة فى تراثنا هو العصور العربية والاسلامية من عصر النبوة والى العصر الاموى والعباسى والفاطمى والمغرب والاندلسى وغيرها من عصور الدول العربية التى نشأت فى الوطن العربى الاسلامى . ويشمل التراث بالطبع ما نسميه الآن الادب الشعبى أو الولفكلورى .

وهنا لا بد من أن نلفت الاذهان الى النظرة العابرة التى نلقيها عادة على تراث العصر الجاهلى . ان هذا العصر يوحى فى الحقيقة بأن ثمة خفايا عظيمة من العلم والمعرفة لا بد وأن تكشف عنها الايام . والقد حددنا نهاية العصر الجاهلى ببداية ظهور الاسلام ، ولكننا لم نحدد بدايته . ان مرتبة الشعر الجاهلى التى بلغتنا ، بمنزلتها العالية وقوة نماذجها اللغوية ونضجها ، لتدل على أن خلف هذه المستويات العالية من الادب مراحل من التطور لم تصل الينا اخبارها . ولو عرفناها لكان مكانها ضمن التراث العربى المجيد .

ومن التراث العربى جانب آخر مهم ومتسع ، تكاد لا تحصره حدود ، وهو الجانب الناتج من المعارف التى تتيحها لنا المخطوطات والالواح التى تظهرها الحفريات السابقة واللاحقة فى اليمن وحضرموت والخليج العربى والعراق ومصر . وانى اقصد هنا ما تكشف ويتكشف لنا من تراث الفراعنة والبابليين والاشوريين والكنعانيين والفينيقيين وغيرهم من الشعوب والقبائل العربية الاصول التى عمرت شبه جزيرة العرب ومصر والهلال الخصيب ، وما يتصل

بها من شعوب وقبائل خرجت من قلب الجزيرة وأنشأت حضارات عريقة هى أقدم حضارات البشرية المعروفة ، والتى يجب أن يحسب لها حساب عظيم حيث نتحدث عن تقلب الحضارات العربية وعن التراث الذى نحن بصدده . ان خير ما انتجته هذه الحضارات بلغاتها التى انحدر معظمها من العربية الاولى (proto - Arabic) والتى تنسب فى كتب التاريخ التى تعلمنا فيها الى الشعوب (( السامية )) أقول أن خير ما انتجته هذه الحضارات يجب أن تدخل فى التراث العربى . فملحمة الطوفان السومرية ( 4000 ق . م ) مثلا ، وملحمة جلجاميش فى الموت والخلود ( 3300 ق . م ) وشرائع حمورابى البابلية وغيرها تعتبر طليعة للتراث العربى الضخم . وان اختلفت لغاتها أو لهجاتها ، التى يجب أن تنقل كلها الى اللغة العربية الفصحى ليسهل فض مكنوناتها .

فالتراث العربى الذى نعتمد عليه اذن ذو ثلاث مراحل كل واحدة منها تكون حضارة : تراث الشعوب والقبائل العربية الاولى من سومرية وعقادية وبابلية وآشورية وكنعانية وفنيقية وغيرها ، وتمتد تواريخها ولى نحو عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، وتراث الجاهلية الذى يشمل الجاهلية الاولى فى اطراف الجزيرة من اليمن الى حضرموت والخليج العربى وينتهى بالتراث العربى الاسلامى الذى يشكل الدعامة الرئيسية لحياتنا الحضارية .

هذا هو التراث الذى ورثناه ، وهو بمجموعه الذى يكون الشخصية العربية ، وان كان التراث الاحدث أعمق أثرا فى تكوين هذه الشخصية . ولما كان الانسان الفلسطينى مثلا قد نشأ منذ نحو عشرة آلاف سنة قبل الميلاد ، والانسان الكنعانى ، كمثل آخر استقر فى سوريا وفلسطين وجهات أخرى من بلاد العرب منذ نحو أربعة آلاف سنة قبل الميلاد ، فان من الخطأ المزعج أن نجد سياسيا أو كاتبا يرجع تاريخ العرب فى فلسطين الى العهد الاسلامى فقط ، فيقول باستمرار (( منذ أربعة عشر قرنا )) !

ولم تخرج هذه الحضارات العربية جميعا عن قاعدة التأثر بالحضارات الاخرى ، وهذا طبيعى . وقد تأثرت الحضارة العربية الاسلامية بحضارات فارس والهند واليونان والافلاطونية الجديدة فى الاسكندرية ، كما هو معلوم. ومعلوم كذلك أن الحضارة العربية وتراثها لم يقفا جامدين أمام الحضارات الاخرى وانما تفاعلت معها ونشأ لها كيان خاص وطابع مستقل . وذلك بعد أن تأثر العلماء والأدباء العرب والمسلمون بتراث الامم الاخرى ، وكونوا بتراثهم المستقل طابعا خاصا هو الطابع العربى الاسلامى الذى نعرفه .

وكذلك كان للتراث اليونانى مثلا طابع خاص به ونتيجة تفاعل الفكر اليونانى مع ما سبق من الافكار الايونية والفيثاغورية والايلية . وقد أدى هذا التفاعل الى فكر يونانى مستقل .

ولقد أثرت الحضارة العربية الاسلامية بدورها فى الحضارة الاوروبية الحديثة . واسباب هذا التأثير وأساليبه معروفة لدينا ، فكما نقل العرب كتب اليونان الى العربية ودرسوها وتأثروا بها ، كذلك نقل الفرنجه عن العرب كثيرا من كتبهم وآثارهم وعاداتهم ودرسوها وشرحوها وتمثلوها .

وهكذا التراث العالمى ، سلسلة متصلة الحلقات ممتدة من أقدم العصور الى أحدثها تتعاقب حلقاتها ممثلة لتراثات الامم المختلفة تراثا بعد تراث ، فكان الواحد منها جيل يعقب سالفه ( وقد يتداخل معه ) ويقتبس كثيرا من علومه ومعارفه وغاياته ، ويضيف اليها الاحداثات الخاصة كبيرة أو صغيرة ، طارئة أو أصيلة . ويخطئ الذين يظنون أن تراث أمة شئ منفصل منعزل ليس له ماض يرتكز عليه ولا مستقبل يؤثر فيه ، ولذلك نرى هؤلاء الذين يشهرون سلاح التهمة بالافكار المستوردة انما يشهرون سلاح الجهل والتعصب الاعمى . فالعلماء والخلفاء العرب المسلمون هم الذين ترجموا ونقلوا آثار الحضارات الاخرى والافكار المستوردة أكرم من السلع المستوردة . والدراسات الواعية تعرف الغث من السمين فتأخذ ما صفا وتدع ما كدر .

فتراث الامم وحضاراتها اذن سلسلة ممتدة متصلة الحلقات لكل أمة شاركت فى الحضارة نصيب منها . ويتصل هذا النصيب بما قبله وبما بعده من تراث تلك الامة . وهو ، أى تراث الامة ، متصل أيضا ومتداخل بالتراث العالمى . وبصفة الانسانية ظاهرتان مرتبطتان فى هذه السلسلة . وكعرب يحق لنا أن نفخر بأن نصيبنا من التراث العالمى كان واسعا ضخما وعظيما . ومع أن قيما وآثارا كثيرة من التراث العربى ثابتة على الزمن الى اليوم ، فان قيمة التراث تقدر بقيم زمانه كما أشرنا من قبل .

والطرف الاحدث من تراثنا ، وهو الطرف العربى الاسلامى ، موصول مباشرة بوضعنا الراهن وأدبنا المعاصر ، وان كانت المسافة الزمنية بعيدة عنه بعض الشئ ، اذ بوضعنا الراهن وأدبنا المعاصر ، وان كانت المسافة الزمنية بعيدة عنه بعض الشئ ، اذ تفصل بينهما حقبة لا تقل عن أربعمائة عام ، أناخ الاستعمار التركى فى اثنائها بكلكله .. وعاق تطور الامة العربية من المحيط

الى الخليج ، فكان حلقات سلسلة التراث المتصلة تضعف فى أماكن وتدق فى أخرى فلا يكون جهدها أكثر من أن تصل فترة من التراث بفترة أخرى سابقة لها أو مضافة اليها ، كما أن فترات زهو التراث فى هذه السلسلة حلقات قوية ضخمة ترتفع بحجمها عن حلقات السلسلة التراثية الاخرى ، وتمتد بطرفيها من خلف ومن أمام كطرفى المغزل . وعلى هذه الصورة يمكن أن تمثل صلتنا العربية الحديثة بالتراث منذ بداية القرن التاسع عشر . واذا كان لكل أمة شاركت فى الحضارة حلقات تمثل الفترات الضعيفة من تراثها وحلقات تمثل الفترات الزاهية ، فان سلسلة الحضارات الانسانية التى تشترك فيها كافة الامم فى هذا العالم متصلة كذلك . وتظهر عليها حضارات الامم المختلفة منتظمة فى هذه السلسلة ، متباعدة أحيانا ومتقاربة احيانا اخرى ومتطابقة أحيانا ثالثة ، ومتوقفا ذلك على تواريخ ظهور فترات التراث الزاهية الغنية فى البلاد المختلفة .

فهل الادب المعاصر يبتدئ من بداية النهضة العربية الحديثة ، أو هو يبتدىء بعد ذلك ؟ وهل البداية واحدة فى المغرب العربى والمشرق العربى على السواء .

يعتمد ذلك على تعريف (( المعاصرة )) ولست أعرف ان اتفاقا قد تم على تعريف كهذا . ثم هل يتخلف فى ثنايا المعاصرة أثر من التراث أو ينشأ فيه شئ من أدب المستقبل أم أن حدود المعاصرة بينة فى البداية والنهاية ؟

واننا ننفى عن فترة المعاصرة أن تكون اللحظة التى يفكر فيها الاديب ، ليس قبلها شئ سوى القديم ولا بعدها شئ سوى الحديث ، كما يريد بعضهم أن ينظر . ليست المعاصرة مشابهة للنقطة الهندسية التى لا ابعاد لها . ونحن لسنا فى مجال رياضى نظرى لتعريف مجرد عن الواقع . فأعمار الحضارات وفترات التراث لها تاريخ ، وان لم يكن من السهل دائما تحديد مبتدئه ومنتهاه . وعصر النهضة العربية الحديثة قد بدأ فى أواخر القرن الماضى أو أوائل هذا القرن ، ولا يمكن تحديد ذلك الا اصطلاحا . وعصر النهضة هذا لم ينته بعد على وجه التحقيق ، ولا هو قد بلغ شوطا بعيدا من بداية مراحله الاولى .

وليست المعاصرة فترة تمتد الى زمن قصير فقط حول الوقت الذى يفكر فيه الاديب ، وانما هى فترة الهول تحددها وجهة الحضارة أو حلقات سلسلتها

التى تمتد بين ظهور فكر جديد أساسى وانقضاء أجله . وبعبارة أوضح هل بدأت فترة المعاصرة عندما ظهر أدب طه حسين وشوقى والرصافى والنشاشبيى وكرد على ، أم أن هؤلاء الادباء والشعراء والمفكرين قد سبقوا زمن المعاصرة الذى نبحث عنه ؟

من الطريف أن مجلة ((العربى )) فى الكويت الشقيق كادت تخرج فترة هؤلاء النوابغ من الحساب فتجعلهم سابقين لفترة المعاصرة الراهنة ، فقد نشرت مؤخرا لطه حسين والعقاد قطعا من أدبهم تحت عنوان (( التراث الحديث )) . وتسألوننى فى صحة هذا الاعتبار وهذه التسمية ، التراث .. (( الحديث )) أو خطئهما ، فأقول ان فترة ظهور هذه الفئة من رجال النهضة الحديثة انما يمكن اعتبارها معاصرة بقدر ما أخذت به من أسباب نهضة العصر ، علمية واجتماعية وفكرية . وقد كان ما أخذت به محدودا ليس فيه الاحاطة الشاملة بافكار العصر ومشاكل الامة . فشوقى مثلا نظم فى مديح اسماعيل وفاروق ، كما نظم فى ثورة سويا على الاستعمار الفرنسى . ولكن إذا اضفنا إلى شوقى شبلى شميل واسماعيل مظهر ولطفى السيد وراشد البراوى فاننا نقترب بما مثل هؤلاء المفكرون فى آثارهم مما يفهم من المعاصرة. ان المعاصرة تحمل بالضرورة سمة العصر الكبرى ، وهى الان العلم والطريقة العلمية والنظرة العلمية للأشياء والحياة . انها الموقف اليقينى الاثباتى الذى يطرح جانبا كل خطوة أو ظاهرة لا يستند فيها الى أساس من الدليل الحسى أو البرهان العقلى ، وليس لها صلة بالتفكير الغيبى أو الصوفى أو الاسطورى .

والعصر ليس كله عندنا الآن ، بل هو عند أروبا وأميركا والاتحاد السوفياتى . وتتبع أميركا وأروبا المذاهب المثالية فى حين يتبنى الاتحاد السوفياتى والدول الاشتراكية المذهب المادى . وفى الناحيتين تجد المزارع الحديثة والمصانع الكبرى ومراكز البحث العلمى فى كل جانب من جوانب الحياة عندهما . وهناك نجد الطب الحديث الذى يرقى باستمرار ويصر على اطالة عمر الانسان ومنح هذا العمر اسباب العافية والسعادة ، وهناك تجد الهندسة التى تبحث عن راحة الانسان وجمال حياته ومن ورائها علوم الرياضيات والطبيعيات التى ترتاد الفضاء ، وهناك التخطيط والقياس والمجاهر والمصادر التى توسع آفاق الانسان ، وعلوم الحياة التى تساعده على تطوير الحياة والناس ، والاقتصاد الذى يستهدف الوفرة للانسان ليقضى

أيامه على الارض فى يسار وبحبوحة ، وعلوم الاجتماع التى تمسح شرور المجتمعات والديمقراطية التى تنهى حياة الاستغلال وتوفر نعمة الكرامة البشرية .

كل ذلك يبحث ويمحص بأساليب علمية تقتضى الدقة والصدق والتماس الحقيقة ، ونفى التدجيل والضعف والاستعمار والامبريالية والاستبطان بأى شكل من الاشكال ، والتضحية فى سبيل ذلك حتى يستقر العدل وتصبح السعادة واقعا بسيطا .

وتلك هى أسس المعاصرة وغاياتها التى تنشأ منها روح العصر الراهن . والاديب المعاصر هو الذى أدرك صحة هذه الروح وآمن بها ، وخط بقلمه ما ينسجم معها ويحقق مراميها .

وقد نتساءل ، أو لم تكن هذه روح التراث العربى الضخم الذى وصفناه ؟

والجواب على ذلك أن تراثنا الكريم كان معاصرا فى زمانه وان كان يومئذ يعتمد على قواعد من المسلمات الغيبية أو النظريات الميتافيزيقية ، كما كان يمكن أن يجوز عليه الاساطير والخرافات ، وان كان فى أواخر أيامه قد بدأ بدايته الاولى فى الاعتماد على القواعد والاساليب العلمية التى تشبه قواعدنا الآن وأساليبنا . ويلوح لى أنه لو تجنب العرب فى أواخر نهضتهم العلمية البحث فى الكيميا عن الذهب ، فأضاعوا بذلك جهدا ووقتا لقبضوا على اطراف الطريقة العلمية الحديثة التى ظهرت فى القرن الثامن عشر ولكان لهم قصب السبق فى تنظيم قواعد هذه الطريقة كما نظمها فرانسيس بيكون ومن جاء بعده . ومع ذلك فلا يعتبر العرب الذين خلفوا لنا تراثنا مقصرين . فقد نفذوا فى العلوم الانسانية الى القواعد والاساليب العلمية .

والآن هل يستطيع الاديب العربى اليوم أن يعتمد على التراث العربى وحده ؟ أو هل يستطيع أن يعتمد على أدب الضصر وحده ؟

الجواب : (( كلا )) فى الحالتين ، اذ قد اصبح بينا أن تراث حضارة كل أمة سلسلة متصلة الحلقات ، كما أصبح واضحا أن فهم تركيب المجتمع العربى قديمه وحديثه أمر أساسى لثقافة كل أديب عربى ، لان الحياة والانسان فى المقام الاول هما موضوع كل أديب أو كاتب أو مفكر . ولسنا بحاجة الى

ذكر الاسماء ، لكن الادباء الذين التزموا بأدب التراث وحده قد تجمدوا فى تيار المعاصرة . وأوضح الامثلة كان فى مصر ، فى مطلع فترة المعاصرة ، التى يمكن أن نحدد بدايتها عندنا فى أوائل القرن العشرين . أقول تجمد هؤلاء الادباء ولم يستطيعوا الاستمرار فى خدمة بلادهم . و كذلك حاول بعض الادباء الذين شخصوا الى اروبا قبل أن يكون لديهم نصيب كاف من دراسة التراث ، ثم عادوا وحاولوا المشاركة فى الحياة المعاصرة للبلد ، فلم يتمكنوا من ذلك حتى طالعوا هذا التراث وأجادوا التعبير بالفصحى ، ثم لحقوا بالركب ، ومن أحسن الامثلة على ذلك الدكتور حسين فورى . ومن هؤلاء الادباء من قصر عن اللحاق بالركب أول الامر فانقلب الى بعض النزعات الاقليمة والمذهبية ، ثم استقر به المقام فعرف تراثه وحياة شعبه وهموم هذا الشعب فأخلص لذلك كله ، فاستقام له الطريق وأصبح من قادة الفكر فى العالم العربى .

وكذلك كان الحال فى أى قطر عربى خلاف مصر كانت له فى النهضة الادبية مشاركة عملية ، وان هى فى الغالب جاءت متأخرة بعض الشئ عن ركب المعاصرة فى مصر . مثال ذلك المغرب الشقيق على ايدى عدد من شعراء القرويين ووطنييهم .

اما كيف نوفق بين المعاصرة والتراث ، فالحقيقة ان ليس هنا من مشكلة ، إذ أن من الخطأ الظن بأن تناقضا أساسيا يمكن أن يقع بين المعاصرة والتراث . ونظير ذلك فى الخطأ الظن بأن ثمة واجبا لفك هذا التناقض .

ان انتهاج المعاصرة يملى علينا فى بداهة ويسر أن ما يتلاءم من التراث مع روح العصر يمكن أن يندرج للفائدة والعبرة مع الادب المعاصر ، وما لا يتلاءم يسدل عليه الستار ، ويظل كما كان جزءا من التراث الكريم ، وتظل له قيمته على هذا الاساس . ونحن الآن مثلا لا نتطلع الى كثير من عادات العصر الجاهلى وأعرافه ، فوأد البنات عادة قضى عليها التراث الاسلامى ، ثم جاء العصر الحالى بوفرته ليساوى بين الجنسين مساواة تامة . ولسنا ندعو دعوة عامدة ، عندما نتبنى المعاصرة الى استيراد عادات ومبادئ سيئة كريهة ، ولكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة قد لا تترك لنا احيانا الا خيارا ضيقا ، بين ما نأخذ وما ندع .

وليس فى مقدورنا أن نضع رجلا فى التراث وأخرى فى المعاصرة ، كما يقترح الدكتور زكى نجيب محمود فى كتابه الجديد (( ثقافتنا فى مواجهة

العصر )) ولا استطيع على حد قوله (( ان احصر النظر فى الظواهر وحدها فى ساعات حياتى العلمية ، وأن اخلع عن نفسى عباءة العلم فى الساعات الوجدانية )) ... لكى أفصل (( فصلا حادا )) بين حياتى هنا وحياتى هناك ، بل يجب الانسجام مع روح العصر - عصرنا الذى سيصبح ادبه تراثا لنا ونحترمه كما نحترم الآن تراثنا القديم . ولا مانع بالطبع من ان نناقش بعض النتائج السيئة التى ستدفعنا اليها المعاصرة حين يكون ذلك ممكنا دون اهمال وتمزق . ان الديمقراطية والاستقلال الاقتصادى للمرأة مثلا يدفعانها الى طلب المساواة مع الرجل . ويدفعها الى ذلك أيضا مستوى الانتاج الذى يجب ان نبز به خصومنا أو الدول الاخرى . فكيف السبيل اذن الى وقف شئ من زحف المرأة فى هذا الاتجاه ، لو كان للمجتمع نفع فى وقفه ، وقد قبلنا الديمقراطية والانظمة الاقتصادية الحديثة وتحديات العصر القاسية !؟

وكلمة أخيرة موجزة جدا تحيط بما ذكرنا كله ، وهى أن تطور الطبيعة والاحياء والانسان والحياة الاجتماعية إلى الافضل على وجه هذه الارض أمر محتوم . تلك هى مقالة التطور العضوى ومقالة الجدلية بحتميتها التاريخية. لماذا الى الافضل ؟ البحث طويل وليس هنا مكانه ، ولكن التطور والجدلية جاءتا على هذا النحو الايجابى ، التقدمى ، وكان يمكن أن تجيئنا على نحو آخر . فمن لم يسر من أدبائنا المعاصرين أو الكتاب والمفكرين سنن هذا الركب ، ركب التطور الى الامام والافضل والأعلى ، فقد حبط عمله وأصابه الجمود والخذلان ، ومن عرف هذا السير وآمن به وجاهد فى عالم الفكر أو الكتابة أو الادب على أساسه فقد بقى ونفع أمته ، واذا تجاوز هذه الحدود فقد نفع البشرية جميعا ، وكان من المخلدين .

اشترك في نشرتنا البريدية