الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

الأسس الاختبارية فى نظرية المعرفة ، عند ابن خلدون

Share

-٣ - (*) أما وقد استقامت لدينا الصور الثلاث المجسمة للبعد الرياضى من حيث هو مستند أصولي ضمن الكليات المنهجية يأتى مكملا للبعد البيولوجى والبعد العقلانى فقد تعين على الباحث تجاوز مستوى التقرير الواصف للخروج بهذه الدعامة المعرفية من السمة الصورية بغية استنباط توظيف البعد الرياضى فى التفكير الخلدوني وهو ما يسمح باستشفاف الوزن الاصولى لهذا المنحي التشكيلى عموما .

ان مراودة ابن خلدون ، ومعالجة نصوصه ، واستكشاف ثنايا منطلقاته ، والغوص ، في أغوار مظانه ، كل ذلك من شأنه أن يوقفنا على القانون الكلى الذي ينظر به ابن خلدون فاعلية مبدأ التناسب بوعى قاطع ، وهذا القانون معرفي أو لا يكون ، وقد جاء كذلك فعلا ولنصطلح عليه بقانون استخراج المجهول من المعلوم ، على حد ما يكون لديك سلسلة من المعادلات فيها المعاليم وفيها المجاهيل ، فاذا كانت المعادلات على نسب مخصوصة كما وكيفا توصلت الى تحديد العناصر المجهولة انطلاقا من العناصر المعلومة .

ان هذا الأس المعرفي من الاطراد لدى ابن خلدون بحيث يصبح قانونا غالبا ينسحب على كل المقومات المنهجية لديه فهو " صورة العمل فى استخراج المطلوب " حينا ، وهو " استخراج للجواب من السؤال حينا آخر " (24) ثم هو * " اقتناص المطالب المجهولة من الامور الحاصلة المعلومة " ، وذلك عندما يتصل بالمنطق ، لأنه الضابط لعلاقة الفكر بالموجودات حينما يلتمس حقائقها (25)

على أن هذا القانون يتبلور بما يؤهله الى الصياغة التجريدية ذات الطابع التنظيرى فيجىء على تصريح قاطع بالترابط الوثيق بينه وبين مبدإ التناسب ، فالتناسب بين الاشياء - حسب منصوص المقدمة - هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس وطريق لحصوله لا سيما من أهل الرياضة ، فانها تفيد العقل قوة على القياس وزيادة فى الفكر وقد مر تعليل ذلك غير مرة " (26) .

فقانون استخراج المجهول من المعلوم طبقا لمبدإ التناسب هو السند الاصولى الذي يجسم معطى كليا يتصل بفلسفة المناهج ونظرية الادراك ، وبموجب ذلك سوغنا حمله محمل الأس المعرفي .

ويتجلى اذن كيف ان هذا القانون بالنسبة الى المقوم الرياضى هو جنيس قانون الحاجة في المقوم البيولوجى ، وكلاهما جنيس قانون المطابقة فى المقوم العقلانى ، على أن المقوم الرياضى ذاته انما جاء بمثابة البعد الثالث من ابعاد الحجم في الوجود المعرفي ، فقد كان كل من المقوم البيولوجى والمقوم العقلاني مستوفيين حق الطول والعرض من حيث التصور حسا وتجريدا ، وهو ما

يرتسم بمناط الهندسة المستوية ، أما بدخول المقوم الرياضى فان التركيبة المعرفية قد اكتسبت بعدها الثالث وهو بعد العمق ، فكان الأس الرياضي بمثابة جسر العبور من الهندسة المستوية الى الهندسة الفضائية ، بل قل هي - على حد اصطلاحات علم الضوء والمرايا في العصر الحديث - بمثابة شعاع لازار .

فالي تعاضد هذه المقومات المعرفية الثلاثة يعزي اصطباغ نظرية ابن خلدون بصبغة الحجم الكثيف بعد تجاوزها نمط التصوير المسطح ، والى تعاضد القوانين القابعة وراء تلك المقومات يعزي اتسام الاصولية الخلدونية بالسمة الاختبارية ، وهي السمة التى أعثرنا عليها المنطلق الذى نصدر عنه ، أى منظور عالم اللسان الملتزم بشمولية المعارف وحيرة التقصى الاصولى بينها على ما أسلفناه حالما جلونا الركيزة المبدئية التى استقطبت خصائص الاختبارية فى منهج البحث داخل شبكة النسيج المعرفي فى الفكر العربى ، وقد رأيناها تتجسم فى اطراد الطرح اللسانى باعتباره أم الثوابت فى المقدمات الاصولية العربية .

فطبيعي ان تأتي بحوث ابن خلدون فى الظاهرة اللغوية ضاربة جذورها فى منهجية اختبارية تتحرى التشريح الموضوعي وتستكشف نواميس الحدث اللسانى من حيث هو أداة للمعرفة وموضوع لها فى نفس الوقت .

ومفتاح التصور العلمي في شأن الظاهرة اللسانية يأتى عند ابن خلدون فى مستوى التعريف الذي يحدد به اللغة . ويستند هذا التعريف إلى كل عناصر التفكيك الاختبارى اذ يستجمع جملة من القواعد أهمها التصويت والتواصل والعقد الجماعى : " اعلم ان اللغة فى المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لساني فلابد ان تصير ملكة متقررة فى العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو فى كل أمة بحسب اصطلاحاتهم " ( 27) .

ولئن كان ابن خلدون فى هذا المضمار وريث سنة مطردة عند كثير من أعلام الفكر اللغوى فى الحضارة العربية الاسلامية فانه ما أن يزيد الظاهرة اللسانية كشفا وتمحيصا حتى يهتدى الى تنزلها فى صميم البعد الاجتماعى للتواجد

البشرى ، فتتحول إلى نسيج رابط لكل أضلاع الهرم العمرانى ، لان ملكة تأليف الكلام على مقتضى أساليب المجموعة البشرية ، وقوالب لسانها هو الذي يفضى الى تركيب المقاصد والاغراض بين الفرد والجماعة .

على ان هذا البعد الاجتماعى فى تقدير الظاهرة اللغوية يمثل هو الآخر أسا متواترا في الفكر العربي أجمالا ، بل لعله يجسم نقطة تقاطع المؤثرات المعرفية التى استقي منها ابن خلدون تصوراته المنهجية وحتى التعبيرية ، ولا شك ان مدونة صاحب العبر تكشف عن تفرد فى مستوى المصطلحات وفى مستوى الصياغة الاسلوبية أيضا ، ولكن هذا التفرد ليس تولدا بالطفرة اطلاقا ولكن له حذورا لو سعينا الى استقصائها لحددنا لها مراجعها فى ميراث الفكر العربي (28) وحيث لا يسمح المقام بالاستطراد الى هذا الاشكال الفرعى فاننا نكتفى بضرب نموذج نورده دون استيفاء حقه فى الكشف والتعليل ، ومقصدنا منه الاستدلال على أن ابن خلدون قد كان يهتدى بمنارات ذهنية أضاءت فكره الاجتماعى ، وفتقت قريحته فى وضع علم العمران ، بل ان هذه النصوص قد كانت مثل الضوابط المؤثرة فى لغة ابن خلدون ذاتها حتى انك لو أصغبت اليها عفوا أو استدرجت اليها من يصغى - بالروية أو بدونها - ولم تنسبها ، لحملها السامع على أنها نصوص خلدونية ، وهذا الاختبار وان لم يكن في حد ذاته ذا معبار مطلق فانه يتخذ فى علم التحليل اللغوي رائزا من الروائز الدالة : ولتأخذ عن ذلك شاهدا :

" إن السبب الذي احتيج من أجله الى الكلام هو أن الانسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في حياته ، ولا بالغ حاجاته فى تتمة بقائه مدته المعلومة

وزمانه المقدر المقسوم ، احتاج الى استدعاء ضروراته فى مادة بقائه من غيره ، ووجب بشريطة العدل ان يعطى غيره عوض ما استدعاه منه بالمعاونة التى من أحلها قالت الحكماء : ان الانسان مدني بالطبع ، وهذه المعاونات والضرورات المقتسمة بين الناس ، التى بها يصح بقاؤهم وتتم حياتهم وتحسن معايشها هي أشخاص وأعبان من أمور مختلفة وأحوال غير متفقة ، وهي كثيرة غير متناهية ، وربما كانت حاضرة فصحت الاشارة اليها ، وربما كانت غائبة فلم تكف الاشارة فيها ، فلم يكن بد من أن يفزع الى حركات بأصوات دالة على هذه المعانى بالاصلاح ، ليستدعيها بعض الناس من بعض وليعاون بعضهم بعضا فيتم لهم البقاء الانسانى وتكمل فيهم الحياة البشرية ".

هذا النص " ذو الطابع الخلدوني " كما نزعم ، هو لابن مسكويه ( 320 - 421 ه ) من المصنف المشترك بينه وبين أبى حيان التوحيدى (29) .

ومن دلائل المنهج الاختبارى وثماره فى نفس الوقت تحليل ابن خلدون لظاهرة التحول اللغوي بموجب سلطان الزمن على الانسان : الحيوان الناطق باللسان ، فاللغة هي أحد مفاعلات الوجود الانسانى اذ هى طرف المعادلة النوعية لثبوت خصوصية الانسان ، ولما كان الانسان حصيلة تعادلية بين طرفي وجود المادة زمانا ومكانا ، فان معادلة التفاعل تنصهر فيها عناصر اللغة والمكان والزمان فينتج حتما التغير والاستحالة (30) .

فالاقرار بسلطان الزمن على اللغة - وان تلبس بموقف معيارى - فانه صفاء في الرؤية الاختبارية لانه ناطق بقانون التغير اللغوى ، ولقد تمكن ابن خلدون بفضل ما حظى به من بعد زمني وعمق أصولى ان يرى هذه الظاهرة وبمجهر الزمن المكبر ولم تختلط عليه السبل فى شىء عندما صور حتمية التطور النوعى الطارىء على المؤسسة اللغوية بحكم انضوائها تحت ناموس الزمن ، وانطلاقا من استقراءاته اللسانية الحاضرة فى زمانه استطاع

ان يرتقب مراحل الزمن صعودا الى الماضى ، فاستكشف قوانين التغير منذ مطلع النهضة العربية الاسلامية وبذلك استطاع أن يسقط النواميس المحركة للظاهرة اللغوية من حاضره المعاين الى الماضى الغيابى ، فتسنى له أن يقيم جدلية تطورية اساسها مبدأ التراكم والتغاير .

وينظر ابن خلدون ظاهرة التحول والانسلاخ انطلاقا من مبدأين أساسيين هما المخالطة والغلبة ، فأما المخالطة - التى هى احتكاك بالمجاورة - فتمثل النقل الاجتماعى فى القضية اللغوية ، وهى بذلك نموذج الضغط "العمرانى" بالمعنى الخلدوني الصائر بعده الى دوركهايم . وأما الغلبة فهى المحرك الحضارى والسياسي في تطور اللغة اذ تمثل قانون التداخل اللغوى طبقا لميزان القوى فى الصراع السياسى بين المجموعات المتغايرة .

على أن صاحب العبر وان احتفظ شكليا بالموقف المعيارى من ظاهرة التغير فظل ينعتها بما لا يخلو من شحن تهجيني دأبت عليه سنن الفكر الصفوى فى تاريخ الحضارة العربية ، وبـموجب تلك السنن سمى التغير فسادا - فانه قد نفذ الى حقائق الظاهرة ولا سيما فى نشوئها وتسربها الى الفرد ثم الى المجموعة حتى يتوطد عليها اللسان باعتباره المؤسسة الجماعية المثلى .

فمجئ الاسلام الى العرب وخروجهم به من الحجاز الى حوزة الامم الاخرى ثم طلبهم الملك : كل ذلك قادهم الى مخالطة غيرهم من المجموعات اللغوية ولما خالطوهم " تغيرت تلك الملكة بما ألقى اليها السمع من المخالفات التى للمستعرين ، والسمع أبو الملكات اللسانية " وهكذا تغيرت " بما ألقى اليها مما يغايرها لجنوحها اليه باعتبار السمع ".

ويزيد اين خلدون مشكلة التحول عن طريق التسرب بالاحتكاك والتداخل كشفا واستنطاقا ، مقيما قانونه الجدلى الذى بموجبه يتمازج العنصران فيصدر عن انصهارهما عنصر ثالث مغاير لكليهما : " ثم انه لما فسدت هذه الملكة لمضر بـمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل صار يسمع فى العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التى كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ، ويسمع كيفيات العرب ايضا - فاختلط عليه الامر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة " (31) .

وبلغ نفاذ الحس الاختبارى عند ابن خلدون نموذج الأوفى فى المطارحة اللغوية عندما يهتدى الى ان التغير المتسلط على اللغة العربية قد جرها من صنف اللغات التأليفية الى صنف اللغات التحليلية وذلك فى الممارسة الحيوية المعيشة وان سقوط حركات الاعراب قد استعاضت عنه اللغة بقوانين داخلية انتظمت بموجبها العربية انتظاما جديدا . على أن صاحب المقدمة - بثاقب الرؤية الموضوعية - يقرر في جزم حكمة البناء اللغوى وقابلية اللسان ، أيا كان ، الى العقلنة : " فى أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير ، وذلك أنا نجدها فى بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضرى ، ولم يفقد منها الا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول ، فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد (..) ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربى لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الاعرابية فى دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تـخصها ، ولعلها تكون فى أواخره على غير المنهاج الاول فى لغة مضر ، فليست اللغات وملكاتها مجانا " ( 32 ) .

على أن قانون التغير والاستحالة لا يتسلط على اللغة من حيث هى نظام مغلق وانما هو يبدأ بالنفاد الى مسامها عبر جهازها الدلالى ويتطرق ابن خلدون الى ظاهرة تغير الدلالات في الكلام من خلال كشفه لحقائق العلم البلاغي الموسوم بالبيان - فى معناه الموسع - وهو اذ يعمد الى تحسس مقومات هذا العلم بمنظار الأصولى الباحث فى الركائز المعرفية التى تقوم عليها أفنان العلوم الانسانية يهتدى الى استنباط طريف لا يستطيع الناظر اللساني المعاصر الا أن يقربه من منهج العلاميين فى بحث أسرار اللغة .

ومفاد ما يقرره صاحب العبر هو ان تحويل دلالة الالفاظ عن وجهتها الابتدائية يخرج بها أصلا عن دلالة اللغة من حيث هى نظام خطابى معين ويلج بها الدلالة بالهيئات والاحوال والمقامات ومعناه ان الذى يدل فى حالة تركيب الكلام على المجاز ليس هو ذات الالفاظ بقدر ما هو مواضع بعضها بالنسبة الى بعض من جهة ، ومواضعها بالنسبة الى العقل المفكر والمدرك لعلاقتها من جهة اخرى .

وهكذا يغدو تولد المواضعات داخل اللغة تحولا من دلالة اللسان الى الدلالة العلامية المنضافة إلى الحدث الخطابى ، فهذه الاساليب من مجاز واستعارة

وغيرها " كلها - كما ينص عليه ابن خلدون - دلالة زائدة على دلالة الالفاظ من المفرد والمركب ، وانما هي هيئات ، وأحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها احوال وهيئات فى الالفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التى للهيئات والاحوال والمقامات " (33) .

على ان البحث في أمر تولد المواضعات المعجمية يقترن بتولد العلوم والمعارف لانه يحقق مبدأ أصوليا يتصل مباشرة بالادراك المعرفي عن طريق قضاياه اللسانية ، وهو أن لا مناص لأهل كل علم وأهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم وليختصروا بها معانى كثيرة ، ولهذا التقرير بعد معرفي بما أنه يربط الفكر باللغة من حيث هو يعلق العلم على ادواته اللغوية ، كما ان لهذا القانون انعكاسا مباشرا على الرابطة العضوية المعقودة بين العقل البشرى والمعرفة الكونية .

وذلك ان نفاذ الفكر لمحصول العلم بالادراك ، فالتمثل ، فالاستيعاب ، لا باب له الا ثبته الفنى مما يجعل اللغة مسؤولة بريئة فى نفس الوقت : هى مسؤولة عن ايصال الفكر لمضمون المعرفة . وهى كذلك بريئة لان قصور الانسان عن ادراك المخزون العلمي الذي هى حامل به لا تلقي تبعته على اللغة وانما ذلك يعزي الى قصور فى ملكات الادراك التى للعقل .

فاذا تقرر مبدأ اقتضاء كل علم لتثبت اصطلاحى مخصوص به انبسطت الاشكالية الجوهرية التى هى كيفية اشتقاق هذا الثبت من صميم المواضعة اللغوية القائمة ، وهنا ، بالضبط والتحديد ، تكمن طواعية اللغة فى تحريك شبكة مواضعاتها بالتوليد والتناسخ ، وفكرة ثبت العلوم قد تبلورت فى ذهن ابن خلدون بكيفية سمحت له بأن يتحدث عنها مجردا لها عبارتها المخصوصة دونما احساس باختلاط أو تلابس : فهو يقرن المعرفة بمصطلحها الفنى مما يجعل صاحب العلم محتاجا " الى معرفة اصطلاحاته ليكون قائما على فهمه " (34) .

والذى يخص مبحثنا فى هذا المقام هو ان ابن خلدون قد صور بحس لسانى طريف كيفية نشوء ثبت العلوم ابتداء من رصيد اللغة القائم فعلا ، وذلك بواسطة التحويل التواطئى الذى يرتكز على اشتقاق اقتران دلالي حادث من

اقتران سالف . ومن أوضح الأمثلة الخلدونية على هذه الظاهرة اللصيقة باللغة ما نستقرئه من ثبت اصطلاحى فى علم الحديث يورده صاحب المقدمة استدلالا على اكتساح العلم أجهزة اللغة بالتحويل والتوليد ، ومما صاغه علماء الحديث بالوضع الاصطلاحى الطارىء طبقا للمراتب المنتظمة فى فنهم "الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب والمشكل والتصحيف والمفترق والمختلف" لكن أطرف ما في استقراء ابن خلدون انتهاؤه الى ان معرفة هذه الاصطلاحات هى ذاتها علم الحديث فيكون بذلك قد طابق بالتمام بين المعرفة وثبتها الاصطلاحى المحول عن وضعه الدلالى المشترك الى الوضع المعرفي الحادث (35) .

ومما يبدو على حظ وافر من البداهة ان احكام ابن خلدون لنظرية الاكتساب والتحصيل فى شأن الظاهرة اللغوية انما جاء ثمرة من ثمار منحاه الاختبارى ومنزعه الى الاستقراء التجريبى فقد نفذ بحس دقيق - كاد يتفرد به - الى مفاعلات الاكتساب اللغوى متحسسا قوام الظاهرة الكلامية انطلاقا من فكرة الملكة وملابساتها التجريبية ، وأول ما يتقرر لديه فى هذا المضمار أن الملكة فى الحدث اللغوي تستند الى حصوله كلا لا يتجزأ ، أى ان ممارسة الانسان للغة بالملكة تنفي عنه أن يكون واعيا بانفصال مفرداتها عن تراكيبها (36) وهو ما ينم عن بصيرة عميقة عند صاحب المقدمة فى أمر الظاهرة اللغوية مما يلحق الاكتساب عن طريق المنشا الطبيعى بقوانين الادراك الشمولى حيث يعى الانسان الكل دون أن يكون حتما قد وعى أجزاءه .

وبعد ان يقرر ابن خلدون كيف " ان اللغة فى المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده " يتطرق الى تحديد فكرة الملكة بالاعتماد على مستويين : الاول فصل أبنية الدوال فى الكلام عن أبنية المدلولات ، والثاني بيان مراتب التعبير ابلاغا أو ابداعا . ويحلل في هذا المضمار كيف تنحصر مواضعات اللغة باعتبارها جملة القوانين المرتبة لبنائها فى نسيج الدوال اللغوية لان الذي في اللسان والنطق - على حد عبارته - انما هو الالفاظ ، وأما المعاني فهي فى الضمائر ، موجودة عند كل واحد وفي طوع كل فكر . وهكذا يكون

تأليف الكلام للعبارة عن المعانى محتاجا للقوالب التى تفرزها المواضعة اللغوية .

وينتهى ابن خلدون الى ان " الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه على مقتضى ملكة الانسان اذا حاول العبارة عن مقصوده ولم يحسن ، بمثابة المقعد الذي يروم النهوض ولا يستطيعه لفقدان القدرة عليه " (37) فيكون مفهوم الملكة اللغوية متطابقا مع مبدأين أساسيين هما مبدأ العلم والمعرفة ، ومبدأ القدرة أو الاستطاعة وبينهما من التفاعل العضوى مثل الذى بين الادراك والتعبير أى مثل ما بين التلقى والبث ، أو قل : التفكيك والتركيب . ويتناول ابن خلدون - على عادته فى تعقب مزالق الدارسين حينما تفوتهم صرامة المصطلح أو تغيب عنهم أسرار المفاهيم - فكرة الملكة بمقارنتها بمختلف العناصر الحافة بها أو الملابسة لها ، ولا سيما تلك التى جرى على لسان بعضهم أنها بدائل لفكرة الملكة كما أسلفنا ، فاذا به ينقد بالتجريح والتعديل قضية الطبع والجبلة باعتبارهما من مقومات مفهوم الملكة ، فينتهى به البحث والاستقراء الى الفصل الصريح بين الطبع والاكتساب مما يعزل البعد اللغوى عن معطيات الجبلة من حيث هى الطبيعة الاولى للانسان ، ذلك ان الملكات اذا استقرت ورسخت ظهرت كأنها طبيعة وجبلة " ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات ان الصواب للعرب فى لغتهم اعرابا وبلاغة أمر طبيعي ويقول : كانت العرب تنطق بالطبع ، وليس كذلك وانما هى ملكة لسانية فى نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت فى بادىء الرأى أنها جبلة وطبع " . ثم يحتكم ابن خلدون الى جوهر قضية الاكتساب ليتدعم به رأيه فى تمييز الملكة عن الطبع فى شأن اللغة مؤكدا ان " هذه الملكة انما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه ، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية فى ذلك الذى استنبطها أهل صناعة اللسان ، فان هذه القوانين انما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل فى محلها " (38) .

ولكن ابن خلدون تستوقفه قضية ارتباط الملكة ، من حيث هى استعداد ما قبلى فى الانسان ، بمشكل الاكتساب باعتباره ترويضا لطاقة الانسان على الحركة والابتكار ، فيحاول فى هذا المجال ان يخلص محور الملكات مما يستوعبها من فكرة الصناعات فيبين كيف تنقسم الصنائع الى بسيط

ومركب ، فالبسيط يختص بالضروريات والمركب يكون للكماليات ، والمتقدم منها فى التعليم - وهذا هو بيت القصيد فى معضلة الاكتساب - هو البسيط لبساطته اولا ولأنه مختص بالضرورى " ولا يزال الفكر يخرج اصنافها ومركباتها من القوة الى الفعل بالاستنباط شيئا فشيئا على التدريج حتى تكمل ، ولا يحصل ذلك دفعة وانما يحصل فى أزمان وأجيال ، اذ خروج الاشياء من القوة الى الفعل لا يكون دفعة لا سيما فى الامور الصناعيه فلابد له اذن من زمان " .

وهكذا يتضح خط الفصل بين الملكة والصناعة كفكرتين اختباريتين فى علاقة الانسان بمعضلة الاكتساب فى الوجود عامة ، فيتبين - من استقراءات ابن خلدون خاصة - أن الصناعة هى ملكة فى أمر عملي فكرى ، بمعنى أن الصناعة والملكة تلتقيان فى ممارسة المحسوس من الاحوال فتكون " الملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته ، وعلى نسبة الأصل تكون الملكة " ( 39 ) .

على أن ابن خلدون يبلور مبدأ اجتماع عنصرى الملكة والصناعة فى مفهوم اللغة وذلك بادخال محلهما جميعا وهو اللسان فيتخذ منه محورا مركزيا ينسب اليه الاستعداد بالملكة والرياضة بالصنعة ، فيصبح الكلام مهارة مكتسبة بالاستعداد والمران في نفس الوقت ، فتتنوع عبارة ابن خلدون فى وصف اللغة : فهي " ملكة اللسان " مرة ، وهي " صناعة ذات ملكة " طورا ، وهي " ملكة في اللسان بمنزلة الصناعة " تارة اخرى ( 40 ) أما طرائق الاكتساب اللغوى فانها تكتسي عند ابن خلدون بعدا مزدوجا من التنظير والاختبار لان صاحب المقدمة يزاوج بين تفحص ملابسات التحصيل واستكشاف نواميس الكلام من خلال تلك الملابسات فى نفس الوقت ولكن أول مبدإ ينطلق منه اختباريا هو تقرير ان " السمع أبو الملكات اللسانية " (41) والسر فى ذلك - حسبه - ان النفس تجنح لما يلقى اليها ، لذلك كان لسان الانسان صورة للسان من ينشأ بينهم لانه يسمع كلامهم وأساليب مخاطبتهم وكيفيات تعبيرهم عن مقاصدهم ابتداء بالمفردات فى معانيها وانتهاء بالتراكيب فى انتظام بعضها ببعض ، ولا يزال يتجدد فى كل لحظة ومن كل متكلم واستعماله يتكرر الى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة .

وهكذا يتركز على يد ابن خلدون مبدأ الارتياض بالمعاودة فيكون اكتساب الحدث اللغوي محصول معادلة الممارسة والتكرار ، أى هو منتج الفعل مضروبا فى الزمن ، وهذا هو حد الملكة كما أسلفنا " والملكات - كما يقول ابن خلدون فى هذا السياق بالذات - لا تحصل الا ، بتكرار الافعال ، لان الفعل يقع أولا وتعود منه للذات صفة تتكرر فتكون حالا ، ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة ثم يزيد التكرار ، فتكون ملكة ، أى صفة راسخة " ( 42 ) وبديهى أن يلح ابن خلدون - ومنطلقاته على ما تبين من الصرامة الاختبارية - على تميز ملكة الحدث اللسانى عن مجرد الفهم او الادراك لان القدرة على فهم قوالب المواضعة اللغوية لا تتضمن وجوبا القدرة على صياغة تلك القوالب أو مثيلاتها ، فلحظة عقد الاكتساب تتحدد اذن بحصول القدرة على التصرف في التعبير بحسب ما وعاه الانسان من تراتيب الالفاظ وأساليب النظم (43) .

ذلك اذن ما يمكن ان نطلق عليه لحظة التحول من الاختزان الى الانجاز بالتصرف العفوى والابتداء التلقائى ، وهو ما يسميه ابن خلدون " فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة " (44) أما الطريف على الصعيد النظرى بعد محاصرة قضايا الاكتساب عمليا فهو اهتداء صاحب المقدمة الى تحديد اللغة بأنها مثالات مجردة تقوم مقام المنوال أو القالب أو الاسلوب - وكلها من مصطلحاته - وما اكتساب الكلام الا استرساخ لجملة منوالاته المولدة له ، لان " مؤلف الكلام هو كالبناء والنساج ، والصورة الذهنية ، المنطقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذى ينسج عليه " ( 45 ) .

فحصول ملكة اللسان رهينة المعاودة المفضية الى ارتسام المنوال الذى نسجت عليه مواضعات اللغة فى مخيلة المتعلم بحيث اذا هم بالخطاب نسج من حيث يشعر أو لا يشعر على منوال سننها (46) والسر فى ذلك ان ما تلقاه وحفظه عند الاستعمال والاختبار ، وان ذهب رسمه الحرفى الظاهر من الذاكرة فقد تكيفت النفس به حتى انتقش الاسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه (47) .

ويدقق ابن خلدون قضية المنوال التوليدى - وبه تتحدد اللغة - عندما يقرنه بفكرة الاسلوب في الصياغة الفنية التى هى أيضا تركيب لنفس الادوات الكلامية الاولى - وهذا المزج ينتهى الى تعميق فكرة الطاقه المولدة لمواضعات اللغة إذ يقرر أن الاسلوب " عبارة عن المنوال الذى ينسج فيه التراكيب او القالب الذي يفرغ فيه " وترتبط هوية هذه القوالب " بصورة دهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها فى الخيال كالقالب أو المنوال" بحيث إذا هم الانسان بالمخاطبة والمحاورة انتقى التراكيب المواليه " فيرصها فى ذلك المنوال رصا كما يفعله البناء فى القالب ، أو النساج فى المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام " ( 48 ) .

هكذا يفضى المنحي الاختبارى بابن خلدون الى تحديد طاقة الشمول فى الظاهرة اللسانية عموما انطلاقا من علاقة الانسان باللغة اذ للانسان قدرة على استعمالها رغم عجزه عن استيعابها (49) وهذا ما يستجليه صاحب المقدمة بعين الاستغراب والاستطراف فى نفس الوقت ، وفعلا فلا اللغة من حيث هى قاموس ، ولا الكلام من حيث هو أشكال نحوية متنوعة ، ولا الخطاب من حيث هو نمط مخصوص من النسج اللغوى بداخلة تحت طاقة الحصر لدى الانسان : لذلك فان مظاهر القصور فى الانسان تنعكس أبعادا من التجاوز الاستيعابى لدى اللغة .

هكذا نتبين - رغم اقتضاب المنعرجات التحليلية ضمن ما أوردناه - كيف يتسنى اثبات عراقة البحث الاصولى فى الحضارة العربية الاسلامية ، كما يتسنى بيان خصوصيته الكامنة فى ازدواج فلسفة العلوم بنظرية في المعرفه وهما عمقان متظافران قد حددا مسيرة المنهج النظرى والمنحى الاختبارى في مجمل تراث الفكر العربي ، ولئن ظلت الاصولية العربية قطاعية تتوزعها أفنان المعارف فان مقدمة ابن خلدون قد جاءت ماسكة بأزمة الفروع لتصوغ أصوليه كلية هى مدار الاستقراء الجامع والتنظير المانع .

ولا ريب ان الروح الاختبارى قد كان مركز النظر ومعول الفحص عند ابن خلدون ، بل كان عدسة أوقفته على حقائق كثير من الامور مما يخفى عن العين

المجردة فلا يتجلى الا لذوى المجاهر المعرفية ، وقد نحت ابن خلدون لنفسه هذا المهجر المكبر فشحنه بعدسات اختبارية متكاثفة كانت له منطلقات فى البحث التجريبـى ، وسندات فى الكشف التجريدى ، ومنارات فى التحقيق الاصولى فتظافرت لديه الابعاد وتقلصت أحجامها فى مركز الدائرة الادراكية ، فغدا المنطق والعمران والحساب والمعاش حلقات من لولب واحد يهتز محصلا لصاحبه المعرفة الكلية ، ثم كان استقراء البعد اللسانى سياجا يحاصر المعرفة ويحميها فى نفس الوقت ، وكان طبيعيا أن تأتي نظرية ابن خلدون فى اللغة مجمع الرؤى الاختبارية التى تتحدى الفكر المعاصر بصرامة مقولاته وعنف موضوعيتها .

وليس من الشذوذ ان يلقي - ابن خلدون الى مسامعنا اليوم - صيغا من القول تستفزنا اذ تتحدانا ، فهو أبدا راغب عن الخصام اللفظي ، ولكن الذى يتحدانا منه كما تحداه هو ذاته انما هو هذا الفكر " الخلدوني " الجامح ، هذا الذي استبد بصاحبه حتى أذاب المسافة بين أوائل الامور وأواخرها فكاد يحرم على الانسان عملا لم يتضح منه مطافه منذ بدئه ، وكاد يطعن فى كل صنعة تتلكأ عبر الخطا والصواب ، فاذا به يهمس همسا يشبه الوخز : " ومن شرط الصناعة أبدا تصور ما يقصد اليه بالصنعة ، فمن الامثال السائرة للحكماء : أول العمل آخر الفكرة ، وآخر الفكرة أول العمل " (50) .

وما من شك في ان الذى أنطقه بهذا التقرير الجازم انما هو يقينه المطلق بأن كل ما فى الوجود يتحرك طبق نواميس مطردة تتحكم فى بناه الكامنة فيه ، فليس فى الوجود من الظواهر ما يكون عفويا ، فمن باب أحرى أن يكون عشوائيا ، وانما الامور اذا خفيت عنا أسرارها فالطعن فينا دون الشك فى انتظامها ، وبما ان هذه الحقيقة الكونية والمعرفية قد تملكت فكر ابن خلدون ، فقد صدح بها في ما يشبه الصرخة : " اعلم أرشدنا الله واياك أنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والاحكام وربط الاسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات الى بعض لا تنقضي عجائبه فى ذلك ولا تنتهى غاياته " (51) .

كذا أمسك ابن خلدون بمفتاح الفكر الاصولى فتسنى له ان يبنى علمه النقدى من خلال نقده العلمى .

اشترك في نشرتنا البريدية