لم نزل منذ بروز هذه المجلة (*) ندعو الى الادب الاصيل ونذكر بقداسه رسالة الاديب في المجتمعات البشرية منادين بضرورة الخروج بالادب عن طور السفاهة واللامسؤولية إلى طور الرشد والتكليف حتى نواكب ركب الحضارة ونحظى بشرف المساهمة فى انماء التراث البشرى الباقى المتجدد على وجه الارض .
ولم نزل كذلك نؤمن بحرية الاديب المطلقة لا نفيدها بحدود الزمان او المكان ولا نحصرها في نطاق مذهب فلسفى او اقتصادى او دين سماوى او قضية قومية مهما تأكدت ، اذ وظيفة الاديب من حيث هو اديب الخلق والابداع وحريته فيهما كاملة او لا تكون . وليس معنى هذا ان الاديب فى حل من قومه بل لقومه عليه حق كفرد من جماعة ولوطنه عليه واجبات كمواطن صالح فمن الواجب ان نميز حينئذ بين المواطن والاديب وان نرفع الالتباس عن جوهر وظيفتيهما من حيث هما وان نصون الاديب من عملية " التسخير " التى قد تؤول به الى الببغاوية وبفكره وفنه الى العقم والنضوب .
ومن دواعي الارتياح ان وفق ادباء العرب الذين ائتمروا بالقاهرة من 9 الى 15 ديسمبر وعالجوا قضية الادب فى علاقته بالقومية العربية وموقف الاديب منها سواء كان ناثرا أو شاعرا او ناقدا الى ادراك خطورة الموضوع وصرف عنايتهم الى اوجه التوفيق بين ضرورتين كلتاهما تفرض نفسها فرضا : ضرورة بعث ادب عربي منسجم مع القومية العربية ، مغذ لها ، عامل على صالحها وضرورة احترام حرية الاديب وصون حرمته ودرء اسباب العجز والعقم عنه .
والحق ان الموضوع ليس سهلا كل السهولة وقد عولج بما يستحق من العناية والقيت على مختلف جوانبه شتى الاضواء وقد سادت المناقشات الصراحة وان عنفت احيانا وشملها الجد وان تغلبت العاطفة والحماسية على بعضها احيانا اخرى فكانت اعماله مجدية ونتائجه هامة نرجو ان يكتب لها التنفيذ حتى يكون الادباء العرب قد قاموا بالرسالة التاريخية الخالدة التى حملوها فى هذا الظرف الدقيق الحاسم الذي تجتازه الشعوب العربية اليوم
وبعد فان مجلة " الفكر " ترى من اوكد واجباتها ان تنشر لقرائها بتونس على وجه الخصوص أهم المحاضرات والدراسات التى القيت اثناء المؤتمر الذي شارك فيه ادباءنا مشاركة فعالة وتشرفت اسرة " الفكر " بتمثيلها فيه ، مساهمة منها فى التعريف بنشاط المؤتمر .
عسى ان يكون العرب خلاقين فى ادبهم وعسى ان يخلق ادبهم العروبة التى نريد .
فلقد حان الوقت اذن للعمل على توفير لغة تاريخية علمية دقيقة (*) تساعد المؤرخ على الكتابة باللغة العربية ومن الثابت ان التأليف والنشر باللغة الاجنبية لا يفيد العالم العربي الفائدة المرجوة بل النشر باللغة الاجنبية من قبل العرب اشعاع لاصحاب تلك اللغة ولحضارتهم . فعندما نعرف بما قد يجد عندنا باللغة الفرنسية مثلا تكون النتيجة أن الجمهور الفرنسي أعلم من جمهورنا مما يقدمه التونسيون فى شتى الميادين فواجب علينا ان نقدم هذه النتائج الى الجماهير العربية ولا فائدة فى الجهود الجبارة التى نقوم بها ان لم تستفد منها الجماهير العربية العريضة على مختلف مستوياتها الثقافية ولعل اثراء المكتبة العربية بدراسات لغتها العربية من انجع الوسائل للتعريب واثراء الثقافة العربية واللغة العربية .
نعتقد فى هذه المجلة ( * ) ان الادب لا يصدق ولا يحرك النفس الا اذا كان مرآة للعصر الذى يظهر فيه والجماعة التى ينبثق منها ، لذا سلطنا الفكر على احوال هذه الامة ووقفنا عند مشاكلها دارسين محللين معالجين ، وصورناها طامحة الى العلا نافضة عنها ادران الرجعية والتقهقر متجددة متحفزة ، وقد عبرنا في عددنا الماضى عن شعورنا بمناسبة عيد الاستقلال واستخلصنا منه العبر ، ونرى لزاما علينا اليوم ان نؤكد معنى مررنا عليه - حينذاك - مرا سريعا .
ذلك ان ابتهاجنا بالاستقلال لن يكون كاملا حتى نستتقل ثقافيا ونبني بأيدينا صرح هذا النظام التعليمي التونسى الخالص الذي يضمن لنا طرافة الشخصية ويهيئ اسباب بعث الثقافة القومية الخالصة ، فلا بد اذن من اعادة النظر فى اصول البرامج حتى ينسجم التعليم مع الواقع التونسي وتتيسر عملية " التاصل " تاصل الاجيال الصاعدة فى بيئتهم وربطهم الى وطنهم بحيث يعطفون عليه ويعتزون به ويستمدون منه .
وليس معنى ذلك انا ندعو الى التعصب او نريد ان نعيش فى حدود الوطنية الضيقة منغلقين منكمشين ، بل نحن نريد - بعكس ذلك - ان نشارك غيرنا من الامم بقدر الامكان ونمتن علاقاتنا معها جهد المستطاع الا اننا نعتقد ان " الاممية " من غير " وطنية " سليمة تطفل وادعاء ، فلا بد ان تساهم كل امة بزادها وتفيد غيرها بقدر ما تستفيد هي حتى لا تبقى عالة .
نريد اذن استقلالا ثقافيا يتمخض - طال الزمن او قصر - عن ثقافة تونسية وادب تونسى طريف - ينزلنا المنزلة اللائقة بين الامم . وليس بالانتصارات الحربية فقط يعظم نفوذ الشعوب بل ان اعلاما فى الفن والادب وافذاذا فى العلوم الصحيحة اكسبوا اوطانهم من النفوذ ما تحسدها عليه دول عظمى لا تنقصها الثروة ولا يعوزها العتاد الحربى .
واجب اذن ان نفكر في الاجيال الصاعدة ونوفر لها اسباب الخلق والابداع واجب ان نستمد من عيد الاستقلال الذى صادف يومه عيد الشباب ، الايمان بحق شباب اليوم والغد في الحياة .
