لما انشئت المدرسة الحربية بباردو سنة 1838 كانت بمثابة التحول الكبير فى منهاج التعليم التقليدى فى تونس اذ علاوة على اللغات الحية التى ادرجت فى برنامج المدرسة فانها اختارت اساسا لتلقين تلامذتها العلوم الصحيحة من رياضيات وهندسة وغيرها . فلم تكن مدرسة حربية بالمعنى الصرف غايتها تخريج الضباط فقط بل كانت تصورا جديدا لما يجب ان تكون عليه الحضارة الجديدة . ألم يقل أحد مدرسيها الشاعر محمود قابدو :
فمن لم يجس خبرا أربا وأهلها ولم يتغلغل فى المصانع فهمه
فذلك فى كن البلاهة داجن وفي مضجع العادات يلهيه حلمه
هم غرسوا روح التمدن فرعه الر ياضى والعلم الطبيعى جذمه
أيجمل يا اهل الحفيظة انهم يبزوننا فخرا لنا كان فخمه
لقد قتلوا دنيا الحياتين خبرة فمن لم يساهمهم فقد طاش سهمه (
هذا هو رد فعل العناصر الحية فى البلاد فى ذلك الوقت امام الثورة التكنولوجية التى شاهدوها فى اوروبا وليس من الغريب فيما بعد ان ينشأ من هذه المدرسة جيل يؤمن بهذا الاتجاه من اعظمه وابعده اثرا المصلح خير الدين التونسى صاحب كتاب أقوم المسالك فى معرفة احوال الممالك " ولقد فهم حقيقة التحول الذي يجب ان تسير فيه البلاد وطاقتها على تحمل ذلك بحكم شريعتها الاسلامية اذ كتب متحدثا عن اوروبا مضمنا قوله ما يجب ان تكون عليه الامور فى تونس فقال :
" ولا يتوهم ان اهلها وصلوا الى ما وصلوا اليه بمزيد خصب او اعتدال فى اقاليمهم اذ قد يوجد فى اقسام الكرة ما هو مثلها او احسن ولا ان ذلك من آثار ديانتهم . . وانما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسى وتسهيل طرق الثروة واستخراء كنوز الارض بعلم الزراعة والتجارة . . . " ) 2 (
وقد ضمن مقدمة كتابه المكتشفات والمخترعات من القرن الرابع عشر الى القرن الثامن عشر وغرضه " من ذكر الوسائل التى اوصلت الممالك الاوروباوية إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية ان نتخير ما يكون بحالنا لائقا ؛ لنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا على ان نستخرج منه ما اخذ بايدينا ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا . . . " )
ويعتقد خير الدين ان أصول الشريعة الاسلامية تقتضى ما عليه ممالك اوروبا من النظام لا ما عليه الممالك الاسلامية من اختلال ( 4 ) وهكذا فان خير الدين عند اقدامه على تأكيد الاتجاه الذي رام ان يجر البلاد اليه ، لم يقصد فقط مثل اصحاب الرحلات او العلماء وصف المخترعات والمكتشفات واحوال المدن المتقدمة بل غابته ذكر الوسائل التى اوصلت الممالك الاوروباوية الى ما هى عليه من المنعة والسلطة الدنيوية وهذه الوسائل انما هى تقتضى تطويرا فى التفكير وطريقة اخرى فى معالجة الامور وهو ما يسميه قابادو تارة " روح التمدن " وطورا " الخبرة " وثالثة " تغلغل الفهم فى المصانع " وهما يعنيان بالضبط هذا التكوين الذي هو بين العلم والتقنية وهذه الصورة من التفكير العلمي التي تقتضى تداخلهما المشترك وتمازجهما . واذا كان هذا هو القصد فانهما لا يعنيان في الواقع إلا ما أحدثته الثورة التكنولوجيا فى أوروبا التى وسعت من مفهوم الثقافة الكلاسيكية خاصة وان " التكنولوجيا " هي فى الواقع تكوين ثقافى عام مثل اللاطبنية أو الفرنسية غايتها أعمال العقل تحليلا وتأليه مع فرق واحد هو ان التكنولوجيا تنطلق من الشئ والثقافة الكلاسيكية ترتبط بالعواطف ) ٥ ( اى ما يقابل الاشياء فى جمودها وانعدام الحياة فيها وقد قال الفيلسوف الفرنسي آلان : يمكن أن نتعلم من الشئ كما نتعلم من الفكر
فالتكنولوجيا هي موقف فكرى اذ هي تقتضى قبل كل شئ دراسة الوظائف التقنية التى استنبطها الانسان ليرضى حاجاته ) 6 ( وهي لا تزدهر الا بوجود ظروف تقنية صرف " من اختراع آلات جديدة وتحسين للطرق المتبعه ولا تنمو النمو المنشود الا عندما تتهيأ لها الظروف الاقتصادية الملائمة كانشاء سوق قومية واسعة النطاق وعندما تتوفر لها ايضا الظروف العلمية بتقدم العلوم مثلا وخاصة علم الحيل والكيمياء والهندسة .
واذا كان المناخ الذي يمكن ان تظهر فيه الثورة التكنولوجية كان معدوما فى ذلك الوقت او يكاد فان العزم كان صادقا والاتجاه واضحا ناهيك ان خير الدين قام في مدة وزارته بين سنتى 1873 و 1877 بتنظيم عدة مصالح واهمها الفلاحة
والتجارة والاقتصاد والاحباس واولى عناية خاصة الى تنظيم التعليم فعصر بقدر الامكان جامع الزيتونة واسس المدرسة الصادقية التى ترتكز فى برامجها اساسا على العلوم واللغات الحية
ولكن هل اثر هذا الاتجاه على الادب والادباء ولو فى نخبة قليلة ؟ لا شئ يمكن ذكره اللهم الا ما ورد على لسان محمود قابدو او ما ساقه المؤرخ احمد بن أبى الضياف فى تاريخه من مظاهر الحضارة فى اوروبا .
وتأتى الحماية الفرنسية لتكبت هذا الاتجاه ولكن بعض الاصوات بقيت عالية نحاول الاستمرار فى هذا المنهج ولكنها مجرد دعوة افلاطونية كما يقولون لم بتبعها تجدد حقيقي ولا تطور علمي تقني ومن هؤلاء اديب كان مكافحا سياسيا ولكنه كان كما اكده الفقيد ح . ح . عبد الوهاب في مقدمة التونسين المحافظين على التقاليد القومية مع السعى الحثيث لتقليد الاوضاع الاوروبية الحديثة واستعمالها واستثمارها ) 7 ( وهذا الاديب هو محمد السنوسي ) 1850-100 ) البارع فى كتابه الرحلات والتراجم ولكنه اهتم ايضا بالمخترعات الغريبة فقال مثلا فى رتل البخار :
أرأيت كيف تقارب البلدان بالمزجيات جرت على القضبان
يمتد من سكك الحديد ممرها بالارض وهي جوالب العمران
وفروعها بين البرارى خططت خطا اقيم بآلة الاتقان
اشكاله صبت بوضع مهندس فى ملتقاها حار ذو العرفان
ولها دوالب تستدار بها الى حيث المراد بقصد اى مكان "
وقال فى وصف التليفون :
وكل كان يسبقها سوى صوت امرئ فوحدت الاسلاك بالاشجان
حتى المقله ) بالتليفون ( انبرت للسامعين على قصى مكان
اذ انها تسرى كبرق خاطف ويحل موقعها من الاذان "
وختم قصيدته الطويلة قائلا :
ومفاخر العصر الجديد معارف فيمن يقوم بخدمة الاوطان
وبمثل ذاك تقدم المتسابقو ن الى العلي فى واسع الميدان
فانشط ولاتك عند قرنك عبرة لاضاعة الأزمان بالخسير ان
والجد يبلغ كل ذى عقل الى ما يرتجيه بمنحة المنان " ) 8 (
وهكذا اتصف هؤلاء الداعون الى التجديد بثنائية ستبقى عالقة بالنفوس دهرا وهى الحفاظ من جهة على ثقافة كلاسيكية تجاوزها الزمن بكل ما فيها من قوالب ومناحى تفكير ومواقف ايديولوجية ومن جهة اخرى الدعوة الصريحة للتجدد والتجديد ويشهد بذلك ما وجده محمد عبده فى النخبة التونسية التى اتصل بها من تشابه فى التفكير حتى ان شارل اندريه جوليان المؤرخ الفرنسى المختص فى تاريخ المغرب العربى قال : " ولعل الشيخ محمد عبده استنبط مذهبه فى تونس العاصمة اثناء اقامته الاولى بها ) 6 ديسمبر 1884 - 4 جانفى 1885 ( بعد المحادثات التى اجراها مع الزيتونيين المتفتحين فلقد كانت مبادئ التجديد تتجاوب تجاوبا عميقا مع ميول النخبة فى تونس العاصمة ( 9 ) وفي اقامته الثانية بتونس ) من 9 الى 24 ديسمبر 1903 ( التقي الشيخ فى خريف حياته " بجيل جديد " جمع بين العلم والعمل واهتدى بهدى استاذ كان يعتبره " أبا النهضة الثاني " بعد خير الدين الا وهو البشير صفر ( 1917-1865 ( وكان تربى تربية صارمة تغلب عليها الروح العسكرية وبرز بروزا عندما كان تلميذا بالصادقية واستنجبه خير الدين مؤسس هذه المدرسة ثم واصل دراسته بباريس بليسيه سان لويس وعاشر بالحى اللاطينى طلبة الشرق الاوسط والمهاجرين منهم المتعصبين لحركة الاصلاح
ولكن ما تأثير كل هذا على الادب ؟ فى الواقع لم يبرز الى ظهور الشابي من كان قدوة لغيره يشحذ العزائم بأدب جديد شعرا كان او نثرا بل ان مسرح الاحداث انفتح للزعامة السياسية رغم ان جماعة الشباب التونسي قد اتفقوا مع الشيخ محمد عبده على الا يهتموا الا بالعلم مما يؤكده رشيد رضا عندما كتب " نحن نعتقد ان السبيل الوحيدة المفتوحة امام فرنسا تتمثل فى حسن معاملة الاهالى وانه على التونسيين والجزائريين ان يتركوا السياسة جانب ويولوا كل عنايتهم العلم " ) 11 (
ولكن الواقع اضطر النخبة التونسية فى تلك الفترة الى الاهتمام بالمشاكل السياسية والذود عن الشخصية القومية فاصبح الاتجاه الاول الواضح الذي مكن البلاد من نخبة تؤمن بمزايا الثورة التكنولوجية معرفا بظاهرتين اثنتين الاولى : تتمثل فى عزم نظام الحماية على صرف التونسيين عن كل تعليم غايته اشاعة التقنية وتغلغلها فى المجتمع ، والثانية : اجبرت النخبة التونسية على نوجيه معظم طاقتها الى الدفاع عن الكيان العربى الاسلامى وان هي تمكنت من بعث جمعيتين كان لهما تأثير كبير فى تطوير العقول وبعث الوعى فى النفوس وهما جمعية الخلدونية وجمعية قدماء الصادقية . ويكفى هاتين الجمعيتين فخرا ان كان لهما ضلع كبير فى تكوين أبى القاسم الشابى
ورغم زخارة الحياة الفكرية فى اواخر القرن التاسع عشر واوائله فان الحياة الادبيه لم تتسم بالتجديد ولم يبرز لا من بين الشعراء ولا من بين الكتاب من سما بانتاجه الى ما تدعو اليه النخبة المذكورة وبقي الادب تقليديا فى اغراضه وقوالبه لم يتأثر الا قليلا بمآتي العصر ومستحدثات التقنية .
وما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها وامكن للتونسيين ان يستأنفوا نشاطهم فى ميدان التعبير والنشر حتى ظهرت الحركات السياسية والادبية وتفتقت العزائم وخاصة الجيل الذى بدأ حياته العامة ابتداء من سنة 1025 ذلك ان ما ظهر قبل هذا التاريخ سواء فى السياسة او الادب انما هو رد فعل للخيبات التى منيت بها الحركات السابقة فكان الانكماش والتشسث بالقيم القديمه ومحاولة دغدغة العواطف الدينية او القومية من دون اعتبار للتطور الذي حدث فى الربع الاول من القرن العشرين وبروز شباب بعدد اضخم قد نعلم اللغة الفرنسية او على الاقل تشبع بالفكر الغربى بصورة من الصور
وان ابرز مثال هزته الثورة التكنولوجية او على الاقل ما امتد الى المجتمع التونسى من آثار الحضارة الغربية هو أبو القاسم الشابى ومن كان يؤيده او بنحو نحوه مثل الطاهر الحداد وزين العابدين السنوسى بمجلته " العالم الادبى " ومحمد الحليوى ومحمد البشروش وغيرهم . ذلك ان كل من دعا من الشعراء والكتاب قبل الشابى وجيله الى التطوير والتجديد على اساس الاخذ بمآتي الغرب والاعتبار بالثقافة الاوروبية التى رجتها الثورة التكنولوجية لم تزعز كيانه مثلما زعزعت كيان الشابى واضرابه بل كانت مع الثقافة التقليدية مجرد طلاء فيه ايمان لا محالة بجدوى تغلغله وتعميقه واندماجه ولكنها الثنائية التى لا تفرز ادبا حيا ولا تعمل فى نفوس الناس العمل المنتظر
لهذا فان روعة ادب الشابى سواء فى قصائده او رسائله او دراسته عن الخيال الشعرى عند العرب هى فى تعبيره عن لوعة مزدوجة متأتية من فقدان شعبه لحريته من جهة وضياع مجد أمته بضياع عناصر الحياة فيها . يقول الشاعر :
فمالك ترضى بذل القيود وتحنى لمن كبلوك الجباه ؟
وتسكت فى النفس صوت الحياة القوى اذا ما تغنى صداه ؟ ) 12 (
ولبس المقام هنا مقام الحديث عن تألمه من استعباد بلاده وهو معروف مشهور بعرفه الخاص والعام غير ان حزنه وأساه من فرط ما يجده حوله من تدهور وانحطاط علمي بين ابناء جلدته هو الذي من الواجب ابرازه هنا ، يقول فى الاديب ) 13 ( :
" ان الاديب كزهرة نفاحة تعنو اليها الصادحات وتسجد
بل بلبل ما بين انسام المنى تلقاه صداح الصدى يتغرد
نشجيه ذكرى مجد شعب باذخ ملأ الفضاء تلهبا لا يخمد
فينوح منتحبا على ما لم يعد الا اذكارا مؤلما يتجدد
ويقوده الوهم الجميل للجة ال - أحلام منها ينتقى وينضد الخ . "
هو يصور هروب الاديب من واقع شعبه وكانه هنا يستنكر عليه هذا الموقف وربما يحشره فى زمرة " العلماء النحارير " ويقابله بالشاعر الموهوب يقول
الشاعر الموهوب يغرق فنه هدرا على الاقدام والاعتاب
وبعيش في كون عقيم ميت قد شيدته غباوة الاحقاب
والعالم النحرير ينفق عمره فى فهم الفاظ ، ودرس كتاب
يحيا على رمم القديم المحتوى كالدود فى حمم الرماد الخابي
والشعب بينهما قطيع ضائع دنياه دنيا مأكل وشراب " ( 14 )
ولكنه رغم هذا فانه يستشف الامل من بعيد
ان ذا عصر ظلمه غير انى من وراء الظلام شمت صباحه
ضيع الدهر مجد شعبى ولكن سترد الحياة يوما وشاحه " ) 15 (
وهذا الوشاح لن يكون الا بالعلوم اذ يصور في قصيدة غير مشهورة سبب هذا الظلام فيقول :
" مزقت ثوب سكون الليل انات كليم
فتحسست مكان الصوت فى ذاك الاديم
فاذا بالارض ملقي هيكل نضو كلوم
فتأملت مليا وجهه تحت الغيوم
فاذا الملقي بوادى وطني جسم العلوم " ) 16 (
ويتمنى ان ينقشع هذا الظلام ويحيا هذا الجسم فيتساءل قائلا
" ليت شعري يا بلادي هل تصافيك العلوم "
لقد شعر الشابى حاد الشعور بالمأساة التى يعيشها شعبه خاصة وهو غير قادر ان يبدل من امره شيئا فيعزو ذلك الى الجهل ولكن مما يزيده حيرة ويمزق نفسه هو ان شعبه قادر على ان ينهض نظرا لمجده التالد وسبيله الوحيد هو ان يريد الحياة وليس من شك فى ان منشأ هذه الحيرة وهذا الاسى وهذه اللوعة هو وعى الشابى بهذه الصدمة العنيفة التى اصابت شعبه عندما غلبه على امره غالب قوة الحياة فيه متأتية من قوته المادية التى اتاحتها له الثورة التكنولوجية وهذه الصدمة هى التى جعلت أبا القاسم الشابي بنشد التجديد ويحاول ان يبتعد عن الصور والخيالات المطروقة . فجدد في كثير منها حتى أنه قال في قصيدة :
" كهرباء الغرام فى الاعين النجل وتيارها بسلك الجفون
وليس قصده من هذا إلا الازورار عن المسالك المطروقة والارتباط بالعصر بالتأثر بالتطور العلمي والتقنى ، وعلاوة على هذا فان فى شعره نبرات وايقاعات وموسيقى تحس بانها نابعة فى دفقها وتناغم الجرس فيها من روح قد امنت حقيقة باقبال شعبه على طور جديد فى حياته سواء فى الحقل السياسي أو الاجتماعى وتشبعت اكثر من ذلك باجواء العصر ومقتضياته وان فى مرارة وميل الى الهروب .
ورغم هذا فان الشابى لم يتمكن وهو فى ذلك الطور من تاريخ الشعر العربي ان يدخل الجديد فى قالب شعره بل بقى محافظا في تمسكه بالقصيد ) 18 (
وإذا كان الشابى واضرابه وهم في درجة اقل من حيث سمو ادبهم ، قد اهتز كيانه للصدمة المزدوجة التى تلقاها شعبه والمتمثلة فى الثورة التكنولوجية وتحدياتها من جهة ومن جهة اخرى فى الممثل لها وهو النظام الاستعمارى بقهره وظلمه ولم يقوى بدنه الضعيف وقلبه العليل على احتمال كل هذا الانهاك فان جيلا آخر بعده كان اكثر تيها فيه من الشعراء مصطفى خريف ولكن فيه من الكتاب ومن كتاب القصة كاتب فنان من الجماعة التى تدعى " تحت السور " وهو على الدوعاجي
وكان علي الدوعاجي في حساسية الشابى ولكنه اكثر التصاقا بالعلم الغربي لانه يحدق الفرنسية اولا ولانه زار بعض بلدانه فكانت له الملاحظة الدقيقة
لكل ما يجرى فى اوساط الشعب . لهذا فان انتاجه بالفصحى ينقسم الى قسمين مجموعة قصصية تصور فى معظمها نماذج من حياة الشعب بماداتها التى اخنى عليها الدهر وباشخاصها فى نزواتهم وعواطفهم التى تخرج عن المعتاد والقسم الآخر يحتوى على " رحلة بين حانات البحر الابيض المتوسط بصور فيها نماذج من المجتمع الغربى . واذا كان على الدوعاجي يظهر في ادبة صاحب دعابة لطيفا ، دقيقا فى ملاحظاته فانه كذلك مثل الشابي ، لم يقو على تحمل ما ينوء به شعبه ، رغم اعتقاده انه لا فرق بين الغالب والمغلوب ١ بالظروف الصعبة التى يجتازها هذا الاخير ولا ادل على ذلك من النماذج البشرية التى صورتها ريشته ، وهو الرسام ايضا فألبسها لباسا غريبا مرة والبسها هى نفسها لباسا تونسيا ليعبر فى الواقع على أن الانسان انسان ولكن مظاهر الحياة هى التى تفرق بينهم ولعله يريد ان يعلل نفسه فى هذا البريق من الامل الذي يدفعه الى الاعتقاد بان ليس بين الغالب والمغلوب اى فرق اذ كلهم بشر ولكنهم يختلفون فى المظاهر
على كل فان الدوعاجي قد صور ما لم يصوره اديب قبله ، بفعل ما وعاه من تغيرات العصر وما احسه من وطأة القوة المادية على شعبه الضعيف قبل وبعد الحرب العالمية الثانية ، وقد عرف ايضا كيف يخلص لغته من الرواسب القديمة ويكتبها فى سهولة وعفوية نادرة حسب هياكل ونبرات متلائمة مع الواقع .
غير ان هذه الصدمة لم تخفف من وطأتها الاحداث فى نفوس كبار الادباء بل عمقت الجرح اكثر فاكثر وخاصة بين الذين تشبعوا الى ابعد حد بالثقاف العربية الاسلامية وبالثقافة الغربية . ومن هؤلاء محمود المسعدى الذى كتب رواية " السد " وهى فى الواقع ، اذا نظرنا اليها من الوجهة التى نحن بصددها ، تصور صراعا بين ثقافتين ، بين ثقافة هي حصليلة الثورة التكنولوجية فى اوروبا وثقافة اصيلة منبعثة من اعماق التاريخ
وما رواية " السد " فى اغراضها الانسانية التى تدور حول الفعل وجدواه الا انعكاس للتيارات الفكرية والفلسفية الموجودة في اوروبا فى تلك الفترة اى الاربعينات ) 20 ( مما جعل طه حسين يحشرها فى زمرة ادب " العبث " وه فى حقيقة الامر تعكس قمة الفكر الاوروبى فى مشاغله وفي تبرمه بالحضارة التكنولوجية ووطأتها على الانسان الاوروبى لانها لم تحقق له السعادة المرجوة ولم تضمن له رغم تقدم العلم والتقنية ، العدالة وطمأنينة النفس ، والحرية
ولو كتبت رواية " السد " بالفرنسية لوضعناها فى هذا الاطار ولكن محمود المسعدى صاغها باللغة العربية ، بلغة جيدة ، أنيقة موغلة فى مجاهل عصور ازدهار الثقافة العربية الاسلامية . فأتت تمثل صراعا قويا بين الفكرة فى صفائها وعصريتها واللغة فى متانتها وقوتها ، فكأن الرواية ترمز الى تلك النماذج البشرية الغربية التى رسمها على الدوعاجى وألبسها لباسا شرقيا وكأنها خارجة عن الزمان والمكان فأتت فى آخر الامر ، وفي انسانيتها الصارخة وابعاد تهويماتها الذهنية قديمة الاطار بكهنتها وفؤوسها وصحرائها ودعائها . فهي عندى تمثل خوف صاحبها من الغربة والضياع والسفر المطلق ( ولهذا فلم يجد ملاذا يشده الى نفسه والى أمته غير هذه اللغة التى هى اكثر من " لباس بل هي المعبرة عن حضارة كاملة وتصور للحياة نوعى
لهذا فان المسعدى بانتسابه الى مناخ فكرى اوروبى قد صور اخفاق الثورة التكنولوجية مثل كثير من الكتاب الفرنسيين وصور كذلك اخفاق هذه الثور امام لسان الشعب وضميره وهى لغته .
وينتصر الشعب التونسي فى ثورته التحريرية سنة 1955 وينفتح الامل وينتفي ذاك العائق الذي كبل التونسيين منذ ان انتصبت الحماية سنة 1881 والذى اختلطت من جرائه السبل وعطل السير الطبيعي لهذا المجتمع وبدأت من ذلك الوقت تتسع حركة النشر شيئا فشيئا وشمر الادباء للكتابة على صفحات الجرائد وعلى المجلة الوحيدة فى ذلك الوقت " الفكر " يصورون المجتمع الجديد ويرسمون المستقبل على ان الفترة الاولى اتسمت بظاهرة طبيعية سواء فى الشعر أو القصة وتتمثل فى انحناء الأدباء على الماضي ليصوروا ما كان عليه الشعب من ضنك وليهئوا فى الواقع المجتمع الجديد ، وان المنظار الذى كان ينظر به كلهم الى هذا الماضى متأثر أشد التأثر بالحياة العصرية التي قلقلتها الثورة التكنولوجية ، فنجد العروسي المطوى مثلا فى قصته حليمة يتحدث عن ليلة الراديو فى القرية وما احدثته من رجة قال :
" حليمة تعرف الراديو ، رأته بعينى رأسها ، انها لم تنس تلك الليلة التى تجمع فيها سكان القرية حول جهاز عجيب قالوا عنه انه الراديو ، لقد بقيت القرية تتحدث اسبوعا كاملا عن هذه الاعجوبة الغريبة " ) 22 ( ويسترسل فى تأثير تلك الليلة على حليمة وعلى غيرها من سكان القرية .
ويكتب البشير خريف فى اقصوصاته ) مجموعته " مشموم الفل " وروايته الدفلة فى عراجينها " ( فى تقصى اخبار المجتمع القديم وتسليط المجهر على
دقائقه ولكنه رغم ذلك ينظر إليه بمنظار رجل امن بالفن قبل كل شئ وتشبت بالانسان وعواطفه ولم يرد الانسياق الى ما ينجر عن الحياة العصرية من تغيير لهذه العواطف فكان موقفه واضحا امام الثورة التكنولوجية وان لم يصرح به ولم يتزعزع كيانه من فرط وطأتها بل آثر فى عفوية وقرب كبير من الشعب الانصات الى ذوقه وفنه من دون ان يترك شائبة من تعقد الحياة تشوبه
ولذلك فان هذه الفترة التى كثر الحديث فيها عن تطوير المجتمع واخراجه من التخلف سواء من المسؤولين السياسيين او ما يكتبه المفكرون ) 23 ( امتازت بانكباب الادباء على الماضي واوصافه
واذا كانت الاقصوصة والرواية قد نهجت هذا النهج فان الشعر لم يتطور كثيرا لا فى اغراضه ولا فى قوالبه وبقى مجرد امتداد للقديم وان وجدنا في بعض الاحيان محاولات للخروج به من اسر العادة
غير ان هذه الفترة لم تطل اذ سرعان ما برز جيل من الشعراء وكتاب القصة خاصة يحاولون مواكبة النهضة الجديدة والتأثير عليها ، وفي الواقع فان المجتمع التونسى بما اصبح يزخر به من طاقات التحول والتطور لم ينتظر ركب الادباء لينطلق فكانت المحاولة للتصدى لبعض التيارات وخاصة الخوف من انزلاق المجتمع التونسى الى الافات التى انجرت عن الثورة التكنولوجية فى اوروبا . فكان مصطفى الفارسي في قصصه يدعو الى انسانية الانسان ويرفض آليته ويعنون مثلا قصة من انتاجه " 2+2=5 " وكذلك بالنسبة للشعراء جعفر ماجد ونور الدين صمود ، فانهما حاولا الابقاء فى المضمون والشكل على حرارة العاطفة من دون الانسياق الى مظاهر الحياة العصرية بل ان رغبة ملحة كامنة فى نفسيهما تدعوهما إلى التشبث بالعفوية والقرب من الحياة البريئة ولكن رغم هذا فان تعاطفا كبيرا بينهما وبين ما يجد في المجتمع جعلاهما يحاولان فهم ما يحدث سواء فى تونس أو فى بلاد الدنيا . ولكن الانصهار التام فى هذه الحياة لا يرضيهما حتى أن نور الدين صمود عندما كتب قصيدة " المداخن " لم يشعر القارىء الا بالتلميح أو الاشارة إلى انه يعنى النهضة الصناعية .
ويطلع جيل ثالث امثال عز الدين المدني في القصاصين والحبيب الزناد والطاهر الهمامى فى شعراء " غير العمودى والحر " لاهم لهم الا ان يتجاوزوا الماضى والحاضر معتبرين ان الادب من واجبه ان يتجاوز الوثيقة ومن واجبه ان
ينبثق من الواقع ويتغذى بالتيارات العصرية ليخلق ادبا اصيلا مترجما عن حياة العصر وعما اثارته فى النفس الثورة التكنولوجيا
فغضبوا على الاغراض القديمة وكسروا الاشكال المتعارفة فى القصة والشعر ونادى بعضهم بالتجريب وبعضهم الآخر بالطليعة وهذا ينادى بالقصيدة المضادة ) محمد المصمولى ( والآخر بغير العمودى والحر ، وكلهم فى الواقع يريدون ان يوجدوا اديا متماشيا مع التغييرات الجذرية التى احدثتها الثورة التكنولوجية فى بلادنا بعد زوال الاستعمار ، فهل وفقوا ؟ الطريق ما زالت امامهم شائكة ودرب الادب طويل
لهذا فنحن فى فترة تشبه فى الواقع من حيث العزم على تطوير المجتمع والانتفاع بالثورة التكنولوجيا تلك الفترة الاولى قبل انتصاب الحماية فلقد عرقل الاستعمار مسيرة الشعب اكثر من سبعين سنة وجعله يتشبث فى بعض الاحيان بمقومات شخصيته حتى الرجعية منها ليثبت امام العواصف وق ثبت ، واليوم ، ونحن على بينة من امرنا ، لم تباغتنا الثورة التكنولوجية مثلما باغتت اوروبا وخافت فيها مضاعفات انسانية عميقة فمن واجبنا وواجب الادباء أن يعملوا على الحفاظ اولا على خصائصنا النوعية مع ملاءمتها مع روح العصر وخاصة التفكير التكنولوجي فنطور اغراضنا لتبقى انسانية ونطور اشكالنا ونطوع لغتنا حتى نقوى على قوى الشر من صهيونية وغيرها ونواكب مجتمعنا وعصرنا والا افلت من بين أصابعنا كل ما يعز علينا واصبح مصيرنا في ايدى غيرنا .

