لست اعرف وطنا يمكن ان يصبح الماضى بالنسة اليه مشكلة وحنينا ، اكثر من وطننا العربى .
وكذلك لست اعرف اديبا فاقدا للصلة بينه وبين حاضره اكثر من الاديب العربى الحديث . واذا كان سبب ذلك موقفا حضاريا يعانيه الوطن العربى جميعا او ازمة خلخلت بين جيل قديم ومهترىء وجيل حديث يتنادى بالتغير والتطور . . . أو مرضا نفسيا اسمه " فقدان الثقة " ، إذا كان سبب منها صحيحا ، او كانت كلها صحيحة او خاطئة ، فان نظرة فاحصة للفكر العربى الحديث يمكنها ان تشعر بانفصام محزن بين الحياة التى يعيشها الاديب العربى الشاب ، وبين ما يمكن ان تسميه " جذوره الثقافية " ، وذلك لان هذه النظرة سوف تكشف للوهلة الاولى انه ما زال هناك ادب تقليدى يكتبه شعراء قدامى الروح ، ويقرؤه ويتنفسه جيل ما زال فاقد الانتماء والاتجاه ، وفى نفس الوقت يجد الملاحظ ان هناك شعرا مكتوبا على الطريقة الاوروبية الحديثة ، وبالمناهج نفسها ، اى ان هناك تيارا سيرياليا وآخر رمزيا وثالثا يستمد غناه من الانثويولوجيا الحضارية فى الغرب والشرق . هذا الترجح العنيف بين الحنين الى الماضى ، واكتشاف عطالته ، ليس ترجحا قيميا تفرضه حرية اختيار الكاتب او الشاعر ، اكثر مما هو ترجح قلق بين طبقات المفكرين ، سببها افتقاد الركيزة المقنعة التى يتم عليها بناء الفكر العربى الحديث . وبهذه الصورة فقط اصبح الماضى بالنسبة الينا مشكلة وحنينا .
يمكننا ان نتصور الفارق بين الحضارة الاوروبية الحديثة ، والحضارة العربية اذا تخيلنا حضارة الغرب على شكل هرم قاعدته الى أسفل ، وقمته آخذة فى النمو بدون توقف لان النظام الهندسى الذى بنى به هذا الهرم يتيح له ان ينمو فالحضارة الغربية قاعدتها فسيحة وعميقة الاصول ، واعنى بها الثقافة الهيلينية القديمة ، والتي وضعت اصولا فكرية هامة لكل انواع النمو المحتمل ، من المسيحية الى العلم الحديث ، من الحاجة العميقة للتطهر الى الحاجة الميكانيكية للعيش . اما الحضارة العربية فهى قائمة على اسطوانات وكرات واشباه منحرف
تكون العلم الحديث مرة والتقاليد العربية مرة والفلسفة الاوروبية مرة والفهم العربى للفن مرة والفن الاوروبى مرة . . وهكذا . . وهي كلها مهددة بالسقوط لان قاعدتها لم تهيأ اصلا للنمو الطبيعى المنسجم ، وقد زادت كل هذه الملصقات المضافة من العبء الواقع على القاعدة ، وقربت يوم انهيار هذا الشكل العجيب المتلاحم بالصدفة ، فان العقل العربى يتفحص الآن تاريخه ومستقبله ، امراضه وامنياته على ضوء هذا الانبعاث العارم الذى يحياه جزء قيادى منه .
الاصل فى التطور الحضارى أن يكون العقل مخدوما وخادما للحياة ، ان يكون اشعاعه صادرا من قيمه كالعلم تثق في احكامه وترتبط به وتخضع له . . قيمة عليا بامكانها تهدى العقل الى اشد اسرار الكون اظلاما وتابيا على النطق وقد اكتشف الغرب العلم ، والشرق فاغرا فمه بازاء المفاجأة . . وقد تردد به ان يحتال على هذا الشئ الجديد ليدخله فى حياته ، وبين ان ينحى عن نظره ويقنع بماضيه .
وقد كان للعرب علمهم القديم ، بيد ان ذلك يحكيه التاريخ وتحكيه الحضارة العربية الاولى بابلغ لسان ، وقد ضاع هذا العلم مرة لانه لم يكن قاعدة شاملة للعقل العربى جميعا بل كان قيمة عليا تمسك بها بعض كبار الدارسين والرياضيين العرب ، فى حين ظلت الغالبية فى عماها الشامل .
ولو قيد لروح العلم هذه في ذلك الزمان الغابر ان تصبح قاعدة عامة للروح العربية لاصبح الشرق العربي غير ما هو عليه الآن ، ولكت للحضارة سمة اخرى مختلفة تمام الاختلاف لعله قدر عجيب ومتناقد ، سمح لقسم كبير من العالم ان يظل فى مرحلته الطفولية ، ولعله نظام دائرى يتيح للامة التى وهبت الحضارة ثم فقدتها ، أن تنتظر دورة العجلة كي تتمكن من ان تعطى وتهب مرة اخرى . . . ولعله اخيرا قصور مؤقت اجتاح العقل العربى كما اجتيحت بغداد والاسكندرية مرة .
اكبر معالم العقل العربى هو القرآن ، هذا الكتاب المقدس الذى تعمد الا يكون سماويا محضا ، فنظم حدود القبائل العربية ووضع لها جذورها الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية ، وذلك لان هذه القبائل كانت تعانى نقصا توحيديا كبيرا ، وحاجة شديدة الى كيان اجتماعى منظم ، واذا بهذا الكتاب الخطير يتحول من شكله الدينى الى مدرسة دنيوية يتعلم فيها الطالب كيف يمارس حياة سعيدة ، واذا بهذا الكتاب يصبح القانون الوحيد لهذه الأرض العربية الكبيرة ، ويصبح الحكم المطلق لكافة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى تقوم فى اى
شكل من أشكال المجتمعات المتطور منها والبربرى . . وهكذا قيض لهذا الكتاب ان يكون عقل العربى ومشاعره ايضا . . لقد كان على العربى ان يستعيض به عن العلم وعن الفنون وعن اخلاقه الخاصة ، لانه نمى فى اذهانهم فكرة صلاحيته لكل شئ ، الى درجة ان بعض الكتاب العرب المعاصرين ممن خدعتهم هذه الفكرة يأتون بشواهد فاجعة ، على ان كل اختراع علمى او ابتكار حديث مذكور فى القرآن لان القرآن لم ينس شيئا . . . وبذلك وقع العربى فى العطل والجمود الذهنى ، فضلا عن الثقة القدرية العميقة بكل ما تأتى به الظروف واحالتها الى ارادة الله التى لا راد لها .
وقد كانت ملامح الادب العربى قبل القرآن مميزة للغاية ، ثم بددها بعض المفسرين المسلمين الذين عزوا الشعر العربى القديم الى تأثير الجن والى وآد يطلقون عليه اسم عبقر تجتمع فيه تلك المخلوقات ويستمد منهم الشعراء خداع دنياهم الشيطانى . . وكان على الشعر مهمة ان ينقذ هذا العالم الصحراوى من الجفاف ويعطيه معنى ، ولعل عزلة الجزيرة العربية وتوحدها ، هو السبب فى ان انواع الادب الاخرى كالرواية والقصة والمسرحية لم تجد ارضا خصبة ، وعلى كل حال ، انها انتاج يعتبر حتى بالنسبة الى اوروبا حديثا ومعاصرا . . وهكذا اصبح الشعر هذه العجينة المطواعة - المادة الوحيدة التى استخدمتها العبقرية العربية لكى تعلن عن نفسها .
واذن ، فلا مناص عند التكلم عن الادب العربى من تمزيق وحدته والتحدث مرة عن الشعر منفصلا ، ثم عن الشعر بالاضافة الى الآداب المشابهة مرة اخرى وذلك عندما تعرف العرب في العصور الحديثة على تلك الاداب .
والكلام عن تاريخ الحركة الشعرية فى البلاد العربية قبل الاسلام يصبح عقيما ما لم يسبقه الكلام عن الحياة الاجتماعية ويمهد لها ، فالفن قبل كل شئ مظهر متعال وتكاملى لكل ما هو ارضى وناقص ، والفن بهذا الشكل انموذج للواقع ، اما فى البلاد المتأخرة ، فيصبح الشكل فى الفن هو كل شىء ، طالما ان الفن مجعول ( لنقل ) الواقع ، وليس تعاليا عليه . . . وعلى ذلك ظهر شكل القصيدة العربية حتى د ندب صهر سحل الققصيده العربي القديمه فى هذا الثوب المبرقش ، الذى يتعمد فيه قائله ان يغرق فى الخيال والمبالغة والادعاء . . ان يكون فارس الفرسان وحكيم الحكماء واكرم الكرماء . .
هذا المجال وحده برزت ذاتية كل شاعر على حدة ، فى حين بدأ الجميع قصائدهم وختموها بذكر نفس الاشياء ، وبالطبع كانت هذه الخلة نتيجة ميكانيكية لضيق افق الحياة العربية الرعوية وبدائيتها ، وظل الشعر تقليديا ومعلنا عن نفس القيم
حتى أتت مدرسة ابى نواس فحاولت ان تحطم هذا المسار الهادىء بتحطيمها للغايات التى وضعها الشعراء الاوائل بعلامات طريق يتبعها كل مهتد . .
ولنلاحظ ان المطالبة بالعودة الى النقيض كما طالب ابو نواس لا تعنى التطور كثر مما تعنى الرفض ، وهو رفض طفولى قائم على مجرد ملاحظة التكرار والتواتر وهو يماثل تماما رفض " اليوت " السخيف لحركة التصنيع والتطور الآلى . .
على ان ذلك لم يكن عبقرية ابي نواس وحدها ، بل عبقرية الامة العربية التى سارت شوطا طويلا فى الحضارة ولمست هنا وهناك عبقرية الامم الاخرى الادبية .
تغذت بالشعر الشعبى فى فارس والعراق وسواهما ، واصبح لها وجه اكثر غنى وعمقا عن وجهها التقليدى القديم ، وفي ذلك التاريخ تمكن الذهن العربى من ان يغزو اوروبا نفسها عن طريق اسبانيا وصقلية وقوافل التجارة العريضة فى البحر المتوسط ، وكلنا يذكر انه لو لم تكن صور من الاسراء والمعراج معروفة فى اوروبا لما تمكن دانتى من كتابة الكوميديا الآلهية بهذه الصورة ، ويؤكد لنا ذلك ما كتبه " رودريجو اكزيمنيز " اسقف طليطلة ، والرحلة الخيالية التى كتبها " رايموندولوليو " من ( قطلونيا ) وقصيدة " فأتزيو دل اوبرتى " عن المعراج .
ثم حدثت تلك الوقفة الشهيرة للحضارة العربية . . تلك الميتة الصغيرة التى ما كدنا نرفع عنها الاختام حديثا حتى فجعتنا باسرار اكدت لنا ان هذه الوقفة ، لم تكن وحسب طارئة عليها . . بل كانت في طبيعة هذه الحضارة التى اعطت تقدر ما تمثلت . . ولكن ذلك هو موضوع آخر.
واذن فقد اضمحل كل شئ : التجارة ، الاقتصاد ، العلم ، الفنون ، الشخصية والكيان العربى . . والأرض التى كانت واعدة ومبرقة ومهطالة ، اصبحت ارضا يبابا مستعدة ان تكون طائعة لاية فكرة تجتاحها من اقاصى الشرق او الغرب ، وكان ذلك يعنى ضياعها المحقق
وفي الادب ، كما فى العلوم جمدت العبقرية العربية التى كانت خلاقة ومبشرة ، وتوقفت عن العطاء ، ولعل هذه الفترة من تاريخنا هي اظلم ما فيه واشدها بلاء .
وبالنتيجة . . ما دام الادب يتأثر بالحياة ، فان نكسة خطيرة ولا بد ان تصيب الادب بعد نكسة الامة ، ولعلنا قد لاحظنا هذه الظاهرة فى ادب بعض الامم على فترات التاريخ ، ويحسن بنا ان ننحى الادب الفرنسى عن ذلك ، اذ يبدو ان العبقرية الادبية بهذه الامة تتوهج وحسب فى فترات البلاء ، اكثر مما تتوهج
فى ازمنة البطولة والانتصارات ، ولعلها من اجل ذلك ان تكون احدى المعاقل الحصينة للفكر على مدى التاريخ .
ولقد ذكرت تأثير القرآن وتأثير بعض المفسرين فى مقدمة حديثى ، توطئة لهذه الفترة بالذات . ففي هذه اللحظة التى نكبت فيها الامة ، وعاد للكتاب المقدس تأثيره الخطير ، ودفعت العبقرية العربية دفعا - تحت تأثير افكار أسوا من أفكار محاكم التفتيش الاسبانية - الى تجنب كل ما من شأنه ان يثير الاذهان وفى هذه الفترة احرق ابن المقفع وغيره ، ووضع الناس عيونهم على هذا التحذير الخطير ، وقام النداء الشهير ( لنعد الى السلف ) . خطوة ، ويوما فيوما اخذت العبقرية الادبية فى الشرق العربي توسع من ضجعتها وتزيد فى اراحة اعضائها المتعبة وتتمدد وتسترخى وتتثاءب ، وذلك لان ( العودة الى السلف ) لم تكن تعنى اكثر من تعطب الذهن وتجميد الخلق ، وقتل الحياة والتطور .
اسمحوا لي الا استطرد فى ذكر وقائع التاريخ ، فكل ما قلته حتى الآن معروف لكم وهو مدون وواسع الانتشار ، ولاقفز مرة واحدة الى الادب العربى الحديث .
بعد اقل بقليل من قرن كامل لوفاة الرومانتيكية فى اوروبا ، بدأ الذهن العربى الذى اقترب من الغرب كثيرا عن طريق استخدامه لنتائج العلم والتكنولوجيا ، يفيق من رقدته بتأثير التلاؤم اولا ، وبتأثير حركة الترجمة ثانيا ، وظهرت بعض القصص التى تنسج على منوال ( غادة الكاميليا . آلام فرتر . رفائيل . ماجدولين . بول وفرجيني ) ، كرواية " زينب " لهيكل ,
"وسارة " للعقاد ، ولقيت هذه الحركة كل القبول ، لا لان العقلية العربية كانت مستعدة - كما حدث فى العلوم - لتقبل اى لون واى نسيج ، بل لان الحياة العربية فى ذلك الوقت كانت اقرب الى النداوة الرومانتيكية ، ببراءتها وطهرها واكتشافها البدائى للذات ، هذا الاكتشاف الذى ينمى الاحلام والفروسية والوهم والقلق والتشاءم . . . لقد كان هنا انسانان يترصدان لبعضهما ويتناطحان بانتظار قاض عادل ، وقد كانت الرومانتيكية هى ذلك القضاء الذى لم اليه العقليتين المتخلفة والصاعدة .
واستمرت حركة الترجمة ، وبرزت بجانبها حركة الخلق ، فصدرت " عودة الروح " للحكيم ، ونشرت اشعار العقاد وعلى محمود طه وابراهيم ناجى , وظهرت ( الايام ) لطه حسين ثم اتبعتها اعمال الحكيم الدرامائية .
تذكرون ايها السادة أننى تحدثت قبل ذلك عن الشعر العربى ، فقلت انه
الوحيد الذى يخضع لما نسميه التعلق ب بالتقاليد ، لانه الرئىسى الذي عرفه العرب ، واستخدموه على اوسع نطاق ، وما يسميه البعض الان ، " اكتشافا للراوية العربية القديمة " فى بعض الاعمال التى تخضع لنظام المقامة ، ليس الا ا انتشاف للعبث ، فالفرق بين الروايه والمقامه هو فرق بين فتح الدرفيل ,
وجمال الطاووس ، وذلك اذا شئنا ان ننحى جانبا مسألة الفروق الكيفية بينهما . . وعلى ذلك فقد ظل الشعر خير معبر عن العقلية العربية ، فى حين كان استيراد الرواية والمسرحية فى القصة القصيرة ، عملا حديثا جدا ، وبهذا المستوى لا يمكن التحدث عن تقاليد معينة للرواية او المسرحية او القصة ، وذلك اذا فهمنا التقاليد على انها الموروثات القديمة .
على انه ينشأ فى الرواية والقصة والمسرحية تقليد معين ، بالنسبة للتطورات الخارقة التى دخلت على هذه الآداب اخيرا في اوروبا ،
فى حين ان هذه الآداب بعد ان تأصلت فى الشرق العربى ،
وحملت ملامحه ، اصبحت خاضعة للتطورات الجزئية النسبية فيه ، ولم ترضخ - الا فى أقل القليل - لحركات التطور الخارجية ، وهنا - مرة اخرى - تتدخل الظروف الحياتية لتفرض وضعا معينا على هذه الآداب ، وترسم لها حدودها .
ففى الوقت الذى اتجهت فيه دور النشر العربية ، لترجمة الادب الواقعى السوفيتى ، وادب مكسيم جوركى خاصة ، ظهر سيل متعاظم من القصص القصيرة التى تتشبه بأقاصيص جوركى وتتمثلها ، وبقدر ما كان ظهورها سريعا ، كان ضمورها اسرع ، ولا اقول ان العقلية العربية قد نبذت هذه الاعمال ، اكثر مما اريد ان اقول ان التمثل لنوع معين من الادب ، لابد ان يحتاج وقتا اطول بكثير من فترة التأثر الصغيرة نسبيا . . . وبعد هذا الزمن ظهرت بعض الاعمال الممتازة ، التى لا تحمل معالم جوركى ، وان كانت نحمل التأثر التكتيكى به ، وهى اعمال القصاص الممتاز يوسف ادريس .
ولا بد ان نلاحظ ، ان بعض الحركات الفكرية فى القصة الاوروبية . قد حظيت ببعض القبول فى الشرق العربى ، بعد ان ادت الرومانتيكية رسالتها , فقد اتجه بعض الشباب الى الغرب وتأثروا بمعالم الادب الاوروبي الحديث واكتشفوا " فرانزاكافكا " و " سارتر " و " كامو " وسواهم ، وقد اتضح هذا التأثير فى كثير من قصص سهيل ادريس ، ويوسف الشارونى ، ومطاع صفدى وبعض المثقفين الآخرين . . وبنفس المستوى ، دخلت الرمزية والسيريالية والمفهوم الوجودى للادب ، على ان التطبيقات ، قليلة للغاية ، لان مقدار المترجم من هذه التيارات ، لا يساعد على تنشئة جيل واع بها .
من هذه العجالة يتضح ان الحركات الفكرية فى اوروبا تجد صداها فى الشرق العربى سريعا ، فى صورة اعمال ادبيه قليلة المدى الانتشارى ، وقليلة التأثير ، وذلك لانها تحمل هموم الغربى بصفة عامة ، ولا تستجيب لمطالب العربى الاساسية ، واعتقادى انه من اجل ذلك يلقى احد القصاصين الممتازين كل تجاهل واعراض ، وهو زكريا تامر .
ان حركة الاستمداد من الغرب لا بد ان تصحبها حركة نقدية تخفف من صدمة انتقال العالم الغربي الى العالم الشرقى ، بل وتمهد لها اولا . . وكلنا تذكره بمنتهى آلاعتزاز ، فضل الدكتور طه حسين ومجلة " الكاتب المصرى " على الواقع الادبى الراهن ، وما فعلته هذه العبقرية الخلاقة من تمهيد للارض .
والواقع ان النقد العربى قديم كالشعر ، وهو كالشعر ايضا ، يستمد وجوده من القيم الشكلية التى احتضنها صنيعه ، ومعظم ما كتبه الجرجانى وأبو هلال العسكرى والآمدى وابن المعتز وقدامة ، يخضع لتعريفات النقد الشكلى ، بالرغم من اعتراضات الدكتور محمد مندور وبرغم مؤلفه القيم " النقد المنهجى عند العرب " . . وعلى ذلك فقد ظلت هناك مدرسة نقدية كاملة تحاول ان تطور النقد الشكلى ليصبح ذاتيا ، وقد نجحت في ذلك ، فى نفس الوقت الذى عادت فيه بعض العقليات الممتازة من دراساتها فى اوروبا ، لتحاول ان تدخل بعض التعديلات ، ثم بمرور الوقت بعض التغييرات الجذرية فى حركة النقد الحديث ,
وكان على رأس هؤلاء : طه حسين ، ومندور ولويس عوض ، والعقاد ، والزيات ومحمد عوض محمد .
والآن . . لقد وقع المحظور ، واصبح الادب بفروعه جميعا ، خاضعا فى كثير من جوانبه للحركات الفكرية الاوروبية ، يتأثر بها وينسج على منوالها ويحقق فيما يكتبه نفس القيم التى تتحقق فى الكتابات الغربية التى يعجب بها ، بل ان الشعر العربى نفسه ، وهو الفن الوحيد - باستثناء الزخرفة -
والذى يملك خلقية عربية اصيلة ، يقع فى المحظور نفسه ، فنجد ان اعمال " رامبو وسوبرفيل ، واوركا ، وحكمت ، ونيرودا ، فاليرى ، وييتس ، واليوت وسيتول " تتضح فى بعض اعمال شعرائنا وتطل من عليائها حركة يمكن تسميتها بحركة " المغالطة الوجدانية " ، فليس الشكل وحده هو الذي يخضع لتأثير هؤلاء الشعراء الكبار ، بل ان المحتوى كذلك يتأثر . . ففي هذا الشرق العربى الذى لم يعرف عن الآلة والميكانيكا ، الا ما عرفه شعب المايا المكسيكى
من تكافوء الكتلة والطاقة ، او تعادل المادة والمجال . . . فى هذا الشرق الروحانى ، تنشر تباعا بعض القصائد المنسوخة التى تتكلم عن آلالة ، كما عرفه لنا ) كونستانتين جيورجيو ( فى روايته المخيفة " الساعة الخامسة والعشرين" , هذا الرجل الذى يصنعه مجتمع بلغت فيه الآلى اوسع واعمق نطاق ، الى درجة ان العواطف نفسها تصبح ميكانيكية .
وقد يتفاءل بعض النقاد ويطلقون صفة الشمولية والكونية على مثل هذا الشعر ولكنه فى النهاية يبقى شعرا غريبا عن ارضه ، واقل مستوى بكثير من الشعر الغربى الذى يناقش فى صدق هذه المرة ، تلك الافكار . . . انها اذن حركة ارتدادية ، تتطلب الانسانية عبثا ، اذ انه بمقدار ما كان الشاعر متعصبا لامته ،
كان واعدا بالانسانية الشاملة ، فالشمول يبدأ بملاحظة الذات ، ولا يبدأ بالعكس .
لقد لاحظنا حتى الآن ، ان عالمين ادبيين كاملين يتنافسان فى الوطن العربى ، ويحاولان الاستئثار به ، احدهما هو الادب الذى اصبح عربيا بعد ان تأثر اخيرا بالواقعية الاوروبية ، والآخر هو الادب التابع لاوروبا ، وهو الذى يستجيب سريعا لكل حركة تأتيه من الغرب .
ولاذكركم مرة اخرى ايها السادة ، انه لا توجد تقاليد بالنسبة للآداب العربية ، خلا الشعر ، وسوف تهتدون الى ان المقصود بالتقاليد في مستوى السؤال المطروح ، ليس هو ) الموروثات الادبية ( اكثر مما هو الروح والنفسية العربية التى مرت بالنكسة الحضارية التى سبق ان اشرنا اليها ، فتغير تبعا لها كل شئ ، من الهندسة العربية الخشنة لنظام المساجد ، الى الرؤية الخاطئة المستقبل الانسان .
انها اذن ازمة حضارة ، وليست ازمة وجود ، وليست ازمة ادبية . ازمة فهم للعالم وليست ازمة تقاليد .
ترى . . . ما هو موقف الاديب الشاب ؟ هذا القديس الصغر الذى ما زال يحلم بتحقق المعجزة . كيف يواصل طريقه ، واى الطرق يتبع ؟ هل يوافق على رفض ماضيه ، والبداية من جديد هل يعترض على ذلك ، فيرفض التبعية, ويستخدم ماضيه فقط ؟
وللاجابة على هذه الاسئلة ، لا بد ان نشير اشارة خاطفة الى الحياة العامة فى شرقنا العربى الراهن . من السهل على الحاكم فى الشرق العربى ان يعيش
بمعزل عن الشعب ، وان يقطع الحرية ، وان يأمر بالسجن والاعدام ، لانه يجد فى التقاليد ما يسنده ، ويبرر افعاله . فالعقلية العربية الحديثة ما زالت تفكر على نفس النمط الجاهلى القديم حيث مكان المرأة هو الحريم ، وحيث تبتدى اخلاق الفروسية من شهامة وشجاعة وحس عميق بالكرامة وبالشخصية . .
هذه العقلية قد وافقت من الباطن على اشد جرائم الحياة بالنسبة للانسان ، وهو الفقر .
ففي الاوقات التى كان فيها خلفاء المسلمين كالرشيد وسواه يحظون بأعظم المتع واروعها ، مما ذكره التاريخ وذكرته عبقرية الامة الشعبية فى الف ليلة وليلة . . كان شعب باكمله لتضور جوعا وأسى ومرضا . . وسندت التقاليد هذا الظلم ، لانه فى مكان ما من القرآن ، توجد آية مبثوثة تقول : " وجعلناكم طبقات فوق طبقات " . . وقد استمر هذا النمط من الحكم حتى الآن ، وان الزيارة الخاطفة التى قامت بها الطبيبة " فايان " الى اليمين ، وذكرت فيها تلك الحقائق الفظيعة المؤلمة لتعطى صورة نصف كاملة عما يدور فى معظم بلاد الشرق العربى من فظاعات في القرن العشرين . ان شعبا باكمله يموت جوعا بدون ان يعلم شيئا عن امكانيات الحياة ، وعن الطب وعن العلاج . . وقد صدمت هذه الطبية عند ما اكتشفت في صنعاء حجرة معمل كاملة ، من آلة التقريط المجهرى ، الى مقياس الضوء ، الى فرن التجفيف والتطهير . . " لا شئ ناقص " كما قالت هى ، ولكن جلالة الامام يرفض ان يعمل جهاز واحد الا حين يمرض طفل من اطفاله السعداء .
سادتى : اعرف اننى اثقل عليكم هذه المسائل ، ولكنها فى اعتبارى شديدة الاهمية عند التكلم عن الفكر فى اى مكان . . اذ لست اعرف فكرا منفصلا ,
يؤلف وحدة قضية او قيمة معينة ، وقد وضعت كتب متعددة تصف حال الفلاحين فى مصر والبلاد العربية الاخرى ، ولعلكم تذكرون ما كتبه الدكتور الاب هنرى عيروط اليسوعى ، وجان مارى كاريه ، وهارتمان ، وموريه ,
وارنست شانتر وغيرهم ممن عنوا بدراسة الفلاح والارض الزراعية فى مصر ، ولا حاجة بى الى الافاضة فى هذا الحديث ، الذى ربما اضع خلاصته الدقيقة اذا قلت ان حال الفلاح المعيشية وادواته لم تتطور منذ الفرعون المصرى امنتحب .
ان الفقر هو مشكلة المشاكل ، وداء الادواء العويص في الشرق العربى , ولا بد ان تبدأ النهضة من هذه النقطة بالذات لا من غيرها ابدا ، وباعتقادى انه اذا استمرت هذه الحركة الانفصالية للادب عن الحياة ، فان مصيرها سوف
يكون الالتصاق بالغيبات ، او على الاقل بأسوأ الوان الادب الاوروبى ، اى الادب التابع الذي لا يملك اصالة الجذور ، وفى الشرق العربى يذكرنا اجدادنا بحكاية الغراب الذي فقد قدرته على المشى الى الابد ، فهم يتذكرون انه فى القديم كان طيرا عاديا يسير بطريقة سوية للغاية ، ولكنه منذ اراد ان يتعلم مشية العصفور الدورى ، فقد قدرته الاصلية على السير ، واستمر يحجل بهذه الطريقة الشائنة . لعلها نبؤة صغيرة وتافهة ، ولكنها بكل تاكيد تحمل دلالاتها .
قد تعرفون ان كثيرا من القوافل التى تعبر الصحراء عندنا تؤنق الشمس وتذكر القمر ، ولكنكم قد تتشككون فى اسباب هذه النظرة المخالفة لنظرة اوروبا والغرب كله ، فحيث تسير القوافل فى المساء متجنبة جحيم الشمس الفظيعة فى النهار ، يستمد القمر رجولته من اعين المسأفرين تحت شعاعه الخافت ، ومن رغبتهم الحارة فى اشراف رجولى على شناعة المخاطر التى يجتازونها . . وهم ينامون فى النهار وتصبح الشمس عندهم شيئا غائبا ,
اى متواريا كما يتوارى الجنس الآخر فى الحريم . . ان القمر مذكر بخلاف ما يظن الكثيرون ، ولعله من اجل ذلك تختلف الثقافة والحضارة والفكر العربى عن اية ثقافة أخرى ، فى ان لها وجهها الخاص العميق . . لعلنى قد ابتعدت قليلا .
لقد مررت بمشكلة الفقر فى سرعة ، لانني اعلم انكم اكثر منى ادراكا ، واعلم انكم قد لاحظتم انني عند ما اذكر الفقر ، فاننى اعنى التقاليد . فالتقاليد ليست صورة تجريدية مرسومة فى الذهن ، بل قيم مجتمع معين ، لم يعرف العدالة ولم يعلم عن الرفاهية شيئا . . فاذا تغير الوسط تغيرت النظرة الى الامور ، وقد لاحظ هذا احد المفكرين الكبار وهو سلامة موسى ، الانسان الذى لم يعرفه عصره . أن الاديب العربى الشاب ، واقف هنا فى لحظة التنوير هذه فمن جهة يبرز الوجه القوى السيد لاوروبا ، ومن الجهة الاخرى يكشف الوجه العربى عن طفولة بريئة وضعيفة . . واذا فلا بد من الاختيار - من وجهة نظر طبيعية - ولا بد من صيغة واحدة لتجميع هذه الافكار ، التى تتلاطم فى ذهنه . . لا بد من جواب واحد على هذا النداء الاثيرى بالوجود .
لقد قلت ( لا بد ) وهى من الكلمات التى تخص المستقبل . اما الواقع , فان هذه الانفصامية التى يحس بها حتى السائح فى مدينة كبيرة كالقاهرة ,
حيث تشيد عمارات على احدث طراز اوروبي جنب بيوت صغيرة تطل منها المشربيات وتزينها نمنمة يختلط فيها الطراز العربى بالفارسى ، وتستخدم
النراجيل والوسائد ومصابيح الزيت ، وحيث ترتفع في الجدران الداخلية طبقه من الفسيفساء العربى موشكة ان تخفى انموذجا من الجص لكف معلقة . . هذا الانفصام يؤثر بشدة على موقف الاديب الشب ويريكه . . فالامر ليس امر اختيار بين شكل اوروبى وشكل عربى للفكر والعواطف الذاتية ، انما هو اعقد من ذلك ، انه اختيار غشيم بين فكر وعواطف شرقية ، واخرى غربية , وهكذا نحس بالغرب يدب في كياننا ويحصرنا . .
والمراقب الامين لسيل الكتب والمجلات الادبية عندنا يلاحظ هذه الانفصامية فى كل شئ ، واذا كان عسيرا على الرواية او القصة القصيرة ان تكون نسخة من الاصل الاوروبى ، فأن الشعر سهل عليه ذلك ، واذن فان اثنين من شعرائنا الشباب هما بدر شاكر السياب ، وصلاح عبد الصبور ، يعبران عن هذه الانفصامية خير تعبير عند ما يستعيران من ( ت . س . اليوت ) عالمه الكامل , بل ويوشكان ان يطالبا بالكاثوليكية التى يطالب بها هو .
هو خطأ آخر وقع فيه الذهن العربى حين التزم بافكار ارسطاطاليس القوية العارمة ورفض ان يبدأ من ( صغره ) الخاص . . او بعبارة اخرى ، رفض ان يلتزم بتاريخه وثقافته ، ومن اجل ذلك يقول بعض المستشرقين ، ان الذهن العربى غير قادر على الخلق والاكتشاف . .
قد يقول البعض ، ولكن الثقافة شئ عام ، وليس ضيرا على الشرق العربى ان تكون ثقافته اوروبية ، بمعنى انسانية . . ولكن هذا الكلام يخفى مغالطة احسبكم تستشعرونها ، فكما ان هملت لم ينشأ فى كوالالامبور ، وكذلك لم تنشأ الباجادكيتا فى ويلز . . يستحيل على الادب العربى ان يكون وجها لاى ثقافة اخرى ، ومنذ جمدت الحياة العربية ، جمد معها كل نشاط عقلى ، وليست التحسينات التى طرأت على الادب العباسى ثم الاندلسى ، الا تحسينات جزئية تابعة للترميمات البسيطة التى ادخلت على الكيان العربى وقتها . . ومنذ هذه الانتفاضة العربية وعمرها عشر سنوات والتى تود ان تخلع كل شئ من جذوره ، اصبحت فكرة التحسينات عندنا مصحوبة بهم شديد لا يطاق فاما التغيير الكلى ، واما النوم مرة اخرى واخيرة .
هل هو نضب فى الاحساس ؟ . . كلا . . فاشعار البحترى والمتنبى وعبيد ابن الابرص والحادرة وتأبط شرا وذى الاصبع والاخنس ، وصوفيات محى الدين بن عرب وعمر بن الفارض تنكر ذلك واذن فما هو ؟
لعل المحراث الفرعونى والبابلى الذى ما زال يستخدمه الفلاح في مصر والعراق حتى الآن ، هو بعض الجواب .
والآن ، باعتقادى ان الصورة التى وددت ان تكون موحية ، قد اخذت تبرز وئيدا . ولعلكم قد لاحظتم بانفسكم ان كل القيم الروحانية التى نحاها الغرب من حياته لانها تتعارض مع الحياة المادية التى يعيشها ، ما زالت موجودة فى شرقنا العربى ، واذن فان نتائج العلم تصطدم مع هذا الاستبطان الوجدانى ، وينسخ احدهما الآخر ولعلنى اسير بالفكرة قدما فاقول ؟ : ان عقل العربى الحديث يتغرب ، فى حين ان مشاعره هي هى ..
وتقع اذن مسؤولية تقريب هاتين المسافتين المتباعدتين على عاتق الاديب العربى الشاب .
لقد لاحظنا ان التقاليد بمعنى ( الموروثات الادبية ) قد انطفأ نورها بعد ان نقدم الشعر العربى واصبح منافسا للشعر الاوروبى ، وبعد ان استخدم الروائيون والقصاصون العرب ، ما يستخدمه الغرب من فهم وتقييم للاعمال الفنية . اما التقاليد بمعناها الحيوى ، فما زالت تؤثر في حياتنا جميعا لانها فى الحقيقة جزء هام من وجودنا ، وهى منقسمة الى شرعيتين : احداهما ضارة ، والاخرى لا ضرر منها .
فحيث لا يعتمد العربى على الغيب ، وعلى المقدر ، ويرفض الانصياع لما تحتمه الظروف ، يكون الضرر . . وحيث يتنفس العربى حبا وودا لكل ما هو عربى تكون الفائدة . . ولعل التقاليد بهذه الصورة ، يصح فصلها الى
1 - عادات مجتمع سابق
2 - قيم قومية
والخلط يحدث عادة ، عند ما يتكلم احدنا عن القيم القومية على انها عادات المجتمع القديم ، او بالعكس . وقد دفع فى هذا الخلط كثير من الكتاب الشباب
هناك التزام عربى واحد ، لا بد ان يقف في قلبه الاديب العربى الشاب الذى لاحظ وكشف وعرى كل جوانب هذه الامة التى ظلمت كثيرا ، هذا الموقف الالتزامى نظرى واخلاقى ، فهو من جانب لا بد ان يكون فى صف المطالب العربية الرئيسية ، وهى : الوحدة . الحرية . الاشتراكية ، بكل ما يتبع ذلك من حدة وشرف وايمان بالماضى والمستقبل ، وهذا هو الجانب النظري من المسالة ، اى الجانب المؤثر الذي يختفى قطعا فى اعماق عمله الفنى ، ولا يظهر الا بشكل عفوى وساذج ، ولعلكم تلاحظون الآن اننى لم اتكلم عن الفقر عبثا . .
اما الجانب الاخلاقى ، فهو الجانب الذى عينتموه لى ، كى اتكلم عنه . .
والان . . هل يمكن استعاره الاخلاق ؛ وما هى الصوره التى ستكون عليها حياتنا اذا لفظنا قيمنا ؟
مستحيل بالطبع ان نستعيد الاخلاق ، او نلفظ قيمنا ، فاخلاق ما ، هى برغم المجتمع الذى نشارك كل خليه به توجد ، فى هذه العمليه التتويجيه النهائية . . .
واذن ، فان تحول المجتمع العربى الذى عاش كثيرا على القيم الرعوية والزراعية ، سوف يطور الفكر حتما عند ما تتحول الارض الى القيم الالية والصناعية الجديدة ، والاديب الشاب جزء لا يتجزأ من هذه الارض التى تتغير وتتطور ،
فلا بد ان يسهم من جهة بالقضاء على عادات المجتمع السابق ، ولا بد ان يحض من جهة اخرى على القيم القومية ، وان يدافع عنها ، وان يموت فى سبيلها ..
كثيرة هى الاشياء التى يستمدها الاديب العربى الشاب من الغرب: علم التحليل النفسى . النقد الحديث . الرموز . الى آخره ، ولكنها جميعا تدخل تحت اسم التطوير التكنيكى ، ولا تمس اخلاق الاديب الخاصة ، على الا يحدث المزج بين هذه القيم الثانوية ، وبين الاخلاق بصفة خاصة .
اذن ، لقد لاحظنا ، تلخيصا لما مضى ، فقرا شديدا فى الينابيع الادبية بشرقنا العربي ، ولاحظنا كذلك ان من اشد اسباب هذا التعطيل هو اكتشاف الاديب لزيف اللحظة الاخلاقية والفنية التى يعيش فيها ، فمن جهة ، هناك الغرب القوى ، ومن جهة اخرى هناك تاريخه الفقير والتابع
كيف اذن يتدارك الادباء الوضع ، كيف يمكن انقاذ هذه الامة ؟ هل يمكن انقاذها يشجب ادبها جميعا ، والقائه في المحيط ، ثم استبداله بالادب الاوروبى ؟ هل يمكن تدارك الوضع ، برفض الادب الاوروبى والعودة الى الادب العربى القديم المهترئ ؟ !
ان نتيجة الاستعانة باي منهما على حدة ، سوف تكون كفيلة بتهديم الادب العربي وتحطيمة نهائيا ، فرفض الادب العربى القديم ، وخاصة الشعر ، لا يعنى الا البداية من جديد ، وبطريقة غريبة للغاية ، فما يسمم الذهن الشرقى الشاب ، ويحيله آلى صورة مشوهة عن الاصل ، وكذلك اذا طالبنا بالانكفاء على ادبنا القديم واجتراره ، ورفض كل ما استحدثته اوروبا من تجديدات واضافات وتعميقات سوف يؤدى الى ان ينعزل ادبنا ، ويصبح تكرارا مؤسفا لما مضى ، واذن ، هل يلقي الموقف السياسيى والاجتماعى عن الامة العربية اى ضوء على هذه المشكلة . وخاصة اذا رفضنا ان نتكلم عن الادب وحده باعتباره جزءا منفصلا عن الحياة فى صورتها الشاملة ؟ ! .
تعانى امتنا العربية فى هذا العصر من مشكلة يمكن تسميتها بمشكلة البحث عن الذاتى . وهى تبدأ دائما بادراك التخلف ، ووعى الهوة العميقة التى تتردد فيها الامة ، فيما اذا استمرت تحيا بتلك الوتيرة الواحدة ، واذن ،
فقد بدأت الجماهير العربية تعى تخلفها ، وجمودها ، ورغبتها الحارة والعنيفة فى ان تقاوم هذا التحجر الشديد الذى يدفع بها الى الخلف ، ويميتها اجيالا بعد اجيال ، وقد خلف فيها هذا الوعى بعدالة مطالبها ، روحا ثورية ممتدة من اقصى الغرب آلى اقصى الشرق ، وبدأنا اذن نتفحص عن قرب ، كافة المطالب والانتصارات التى انتزعها الغرب ، ووددنا لو استحوذنا عليها دفعة واحدة ،
لذلك لا يؤمن العربى بالحلول المتوسطة ، ولا الحلول الجزئية انه يطالب بحركة جذرية شاملة تكون اساسا لكل التغيير الواسع العميق الذي يطالب به منذ اجيال بعيدة ٠٠٠
واذن ، فهذه الحركة التى ينتظرها الشرق العربى ، ليست حركة من نوع الحركات التى يحاول بها حكام صغار وتافهون ان يغشوا العربى ببعض الاصلاحات اليسيرة ، متصورين ان الامة آلعربية سوف تظل موكلة اليهم امورها ، بل هى حركة ثورية بالدرجة الاولى ، تريد ان تقلب عالى الارض سافلها . ان تحقق جانبا كبيرا من مطالب الجماهير التى تصرخ من اجل العدالة والحرية ، وهى من اجل ذلك ، يجب ان تصدر عن جذور اشتراكية عربية ، لان النظامين آلاقطاعى والراسمالي ، قد مزقا الارض العربية بانانيتهما ، واقتصارهما على خدمة طبقة قليلة ، تحكم وتغتنى وتكتنز ، على حين يظل العربى فقيرا وجاهلا ومريضا . .
اذا كانت حياتنا فى الشرق العربى كذلك ، فهل نسميه ادبا ذلك التقعر المقيت الذى يكتبه بعض الادباء وينشؤون فيه ادبا بعيد الصلة بالانسان العربى ويتكلم فى جماليات حلوة وناعمة ؟ هل نسميه اديبا ذلك الانسان الذي يتجاهل وضع آمته فى جميع جوانبها ، رافضا ان يفكر فى الطغيان الذي يحياه ابناء وطنه ، ورافضا ان يلتزم خطا اخلاقيا وفكريا فى صالح امته
هل نسميه فكرا ، هذه النمنمة البليدة المصطنعة التى هى وريثة الزفرنة العربية التى تبدأ من المطلق وتنتهى فى المطلق ؟
لماذا يتحاشى هؤلاء الادباء ان يظلوا فى حدود عروبتهم ، ولماذا ينحلون عن التزامهم بأوضاع من وطنهم ؟ اليس لانهم جماليون وحسب ، يرفضون هذه الصلة الاقترانية الشديدة بين الادب والحياة اليس لانهم يخونون هذه اللحظة
العظيمة التى بدأ فيها العربى يفتش عن ذاته ، بعد الف سنة من النوم والركود ؟ اليس لانهم يتجاهلون ان الحياة العظيمة الغنية الشاملة ، تحتاج ممن يحاول صقلها على الدوام بواسطة عمله الغني اخلاصا عميقا لها ؟ .
وهكذا نجد ان مشكلة التقليد والتجديد ، تجد الآن ركيزة تستند اليها فليس المهم ان يتخلى الاديب عن تقليديته وجموده ، اذ ان المهم هو موقفه بعد هذا التخلى الذى سوف يعتبر غشيما ، اذ لم يجد له طريقا منذ الآن . . . طريقا محددآ وصارما فى تحدده . طريقا تقدميا يبغى ازالة الفرقة والطغيان والفقر من الوطن جميعا . . . طريقا يبدأ بنحن العرب ، وينتهى بنحن العرب .
لقد ذكرت لكم منذ لحظات ، ان هناك فارقا كيفيا بين عادات المجتمع السابق وبين القيم القومية العميقة الجذور ، وقلت ان البلبلة تحدث عند ما يتكلم أحدنا عن قيمة منها ، وهو يعنى الاخر فى الحقيقة ، وبهذا الشكل تشابك المفهومان واصبح احدهما يدل على الآخر .
لقد ذكرت لكم بعض القضايا ، متفرقة لا يربط بينها الا رباط التواحد فى مكان واحد . . قلت ان الفقر هو المشكلة الاولى فى شرقنا العربى ، ويليه الطغيان والتمزق ، وقلت ان آدبنا يخلق من التقليدية ( باستثناء الشعر) وذكرت لكم ان التقليدية موجودة فى نفوس الناس ، وليس فيما يكتبون او يقرأون . . ثم اكدت لكم ام ملامح آلعربي تختلف فى كل شئ عن ملامح الاوروبى ، معتمدا على انكم سوف تربطون بين ذلك ، وبين الرغبة التى يعبر عنها البعض الان فى استخدام الاحرف اللاتينية ، واحيانا اللغة الاوروبية لطمس الادب العربى وتحطيمه ، كما ظهرت فى " يارى " سعيد عقل ..
ان الاستعانة بالاداب الاوروبية عمل لا بد منه ، ولم اجد فى الشرق العربى كله كاتبا مجيدا واحدا ، بجهل لغة او لغتين آوروبيتين . . كما ان استخلاص الجيد والعميق والجذرى فى تاريخنا الادبي ، عمل لا بد منه ايضا . . . فلكى بتخلى الاديب الشاب حقا عن التقليدية ، وجب الا يرفضها . . بل ان يدرسها اولا ، وسوف يأتي رفض بعد ذلك تلقائيا ، وبدون الحاجة الى بحث عن البديل لانه سوف يكشف للوهلة الاولى ان الحاجة العميقة التى دفعت اجداده الى انشاء مثل ذلك الادب ، تناقض الحاجة العميقة التى يحس بها هو ، لانشاء ادب يعبر عنه وعن حياته . . . وبهذا الشكل وحده ، يكسب الغرب ايضا ، بدون ان يخسر نفسه . .
ان الارض العربيه تتصنع الان ، وتقام فيها المنشئات الالية الكبيرة ويهاجر من القرى سنويا آلاف من الريفيين الذين يتقاطرون الى المدن ، لانهم اما استكملوا دراساتهم العالية ، واما فقدوا ثقتهم بارباح الارض ، وهكذا تنشط المدن هذه الهجرة العجيبة التى تزيد من مساحتها ، وتجددها دوما
وهكذا ايضا ، يبدأ العقل العربى فى رفض كل ما من شانه ان يعطل مساره الطبيعى الى آفاق بعيدة واسعة . .
لقد كان التصوف ، والتبحر فى العلوم الصفراء هو واحد من أشد خلال العرب اصالة والان ، يبدأ كل ذلك فى الانزواء ، لان الحاجة العميقة الى التطور تقذف بحاجة آبائنا الى الرضى والخمول ..
وباعتقادي انه من المستحيل ان يكون الفكر الصادر من اعلى ، اساسا للتطور الشامل للامة ، وهذا يفسر عدم رواج التراجم التى تقدمها وزارة الثقافة والارشاد فى الجمهورية المصرية ، لشكسبير وسيرفانتس وجوته . . فلا بد حين نريد البناء ان نرسى الاساس ، لا ان نجمل السقوف . .
وعندى ان افتتاح مدرسة اولية فى احدى قرى الصعيد اجدى واشد فاعلية من ترجمة شكسبير ، مع ضرورة ذلك . . .
والفكر تابع للارض ، وهو سابق لها احيانا ، بيد ان هذا السبق تقوم به اذهان على غاية من القوة والجبروت ، مما نفتقده فعلا فى ارضنا العربية ، وعلى ذلك فيجب ان نقنع بالقضية الاولى ، وهى ان الفكر تابع للارض ، لا يتغير الا بعد ان تشاء الارض ، وعلى هذآ الاساس يجب ان يكون موقف الاديب الشاب ، موقفا بنائيا ، يتعمد فيه ان يكون اولا ، لا قائدا يشير ويحكم بل مواطنا عاديا يحمل فى يديه الحجارة ، ليقيم جزءا ضيقا فى البناء ، يضاف الى الاجزاء الضيقة الاخرى ، التى يقيمها الفلاح والصانع والمدرس والموظف في وطنه العظيم . .
لعله دور صغير ، لا يتناسب مع آمال الكاتب الشاب واحلامه ، ولكنه بدون اى شك دور واجب ومستقبلى وخالد . انه التزام ان يكون العربى شريفا وحرا وكريما الى ابعد الحدود
