الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

الادب والاديب، بين القديم والحديث،

Share

نحب ان نعرض هنا لمشكلة يحار فيها الناشئون وقد يختلف فيها العلماء والمتأدبون ، هى مشكلة نختلف فيها قولا وجدلا ، لا ينتهى عند حد ولا يقف لدى غاية ، نختلف فيها بيننا وبين انفسنا حين تنازعنا البواعث المختلف والعوامل المتباينة الى القراءة فنقف مترددين حائرين هذه المشكلة لمن نقرأ ؟ ؟ انقرأ للقدماء ام للمحدثين . ام لهما معا ؟ وهل نقتصر في قراءتنا على ما تنضح به العربية من الوان الثقافة وصور المعرفة ام لا بد من احاطة واستيعاب او على الاقل وقوف على نتاج الافكار وثمرات القرائح ومطارح الاخيلة فى كل لسان ؟

اذا التمسنا حلا لهذه المشكلة مما نسمعه من افواه المثقفين تنازعتنا تيارات مختلفة وعوامل متباينة ففي بعض المجتمعات الادبية تتردد صيحات وتنبعث صرخات تقول : ما لنا وللقدماء وآداب القدماء ، وقد عاشوا فى بيئات وسعتهم وانطوت عليهم ومنحتهم من المظاهر والاوضاع مالاءم حياتهم ووافق اوضاعهم ثم لم تعد الوان تفكيرهم ولا مطارح اخيلتهم ولا ماثور آدابهم تتسق مع م نفكر فيه او نتخيله ؟ نسى هؤلاء الناعبون ان الحياة ان اختلفت بعض الوانها وتباينت بعض صورها ، فهى فى سماتها العامة ومظاهرها المشتركة لا تختلف في قليل ولا كثير ، هؤلاء الذين ينفرون من القديم ويتنكرون للقدماء قد خانهم الصبر وخذلهم الجلد ، فلم تعد عقولهم تقبل الا اخف الوان الادب وابسط مظاهر الثقافة ، ونسوا ان الاساس الذى نبنى عليه ، والمصدر الذى نقتبس منه والذخر الذي نمنح من معينه هو الادب القديم ، فان اغضينا عنه واغفلنا شأنه بنينا حياتنا على شفا جرف هار ، واقمنا مجدنا الادبى على غير اساس

وهناك اناس يسيئون الظن بكل جديد ، ويتهمونه اشنع اتهام ويصفونه بالضعف والهزال ، ويؤمنون اعمق الايمان ان هذا الادب الذى تهدر به طبائع المحدثين لا يصلح للبقاء ، ولا يستحق العناية والاهتمام . يستخفون فيه كل فكرة ويستهجنون كل اسلوب ويلتمسون العيب فى كل صورة ويخترعون المساءة لكل ما يختلج به الفكر او تنبض به القلوب . ولو سألتهم عن حقيقة ما

يخترعون من شبه لاعوزهم الدليل واستعصت عليهم الحجة .

لا عيب فى الجديد لانه جديد ، ولا مزية للقديم لانه قديم . انما السمو والايداع او التخلف والقصور فى القيم الفنية للاثر ذات نفسه فهو الذى يدل على مكانه من الرفعة او الانحطاط والتقدم او الانتكاس لا قدمه ولا حداثته .

وقديما ملك اقواما التعصب ، واستولى عليهم الهوى مع جلال اقدارهم وعظم منازلهم واصالة رأيهم فى دولة الادب ، حتى ان بعض هؤلاء المتعصبين للقديم املى شعر البعض المحدثين على انه قديم فامتدحه واطراه واثنى عليه اجزل ثناء ، فلما انبيء بعد ذلك انه لمحدث غضب ، ومزق اوراقه وصار يقول خرق خرق . وهذا تعبير يحمل في طياته ما كانوا يضمرون من حقد واضطغان على المحدثين . . ويظهر ان المعاصرة غالبا تكون من اقوى اسباب التحاسد واشد عوامل التنافر والتحاقد حتى ان كلمة الحق فى مثل هذه المواطن تجعل الفحول يشرقون بريقهم ويغصون بها إذا ضيق عليهم الخناق ومهما اوتى بعض الناس من قوة الحجة وسعة العقل ودقة الفهم فقد لا يملكون الغلبة على ما وقر فى طباعهم من حقد ولا ما استكن في نفوسهم من هوى او موجدة . وان هذا لما يدعو الى الغرابة والعجب فان عصبية الرجل وحقده وغصته بقول الحق لما يثير الدهشة حقا .

قال ابو عبد الله التميمى : كنا عند الاعرابى ، فانشده رجل شعرا لابى نواس احسن فيه فسكت ، فقال له الرجل اليس هذا من احسن الشعر . فقال بلى ولكن القديم احب الى وقال ابو الحسن الطوسى : كنا عند ابن الاعرابى فقال : ايما احسن عندكم قول ابى نواس :

دع عنك لومى فان اللوم اغراء

وداونى بالتى كانت هى الداء

او الذى اخذ منه وهو قول الاعشى

وكأس شربت على لذة

واخرى تداويت منها بها

فسكتنا فقال : السابق اجود

مع ان ابا نواس فيما ارى فاقه بالاختصار وعذوبة الشعر وسلامته مما ينفر منه الطبع ويستكرهه السمع والنص الصريح على ان الخمر داء ودواء . وكان الاخفش ينقد بشارا لانه محدث ويطعن على شعره ، فلما بلغ ذلك بشارا تهدده

بالهجاء فبكى الاخفش وقال وقعت فى لسان الاعمى ثم اخذ بعد ذلك يحتج فى كتبه بشعره ليبلغه ذلك ، فيكف عنه . فهذا عالم جليل وامام كبير نقد الشاعر عصبية وانفة ، ثم استرضاه فرقا ورهبا ، فلم يتحر قولة الحق ومنهج الصواب

وهذا ابن قتيبة الاديب الكبير يدلنا على ما كان يشيع من خلائق بعض العلماء وتحيز بعض الدارسين فى عصره من تفضيل السابقين والعصبية على المحدثين ويعلن انه لا يسير على سنتهم ولا يرضى بطريقتهم وهو ما بسطه فى مقدمة  كتابه " الشعر والشعراء "

ولا داعى للاطالة فى عرض كثير من الصور التى تدل على تحكم الهوى فى كثير من النفوس . ولكن لادل على ان الناس فى كل عصرهم الناس والعقول هى العقول والقياس هو القياس وان اختلفت المظاهر وتباينت السمات

وكما يختلف الناس في هذا الزمن فى تفضيل القديم على المحدث او المحدث على القديم كذلك كان الناس فيما مضى يختلفون ويتمارون . ومثل ذلك يقال بالنسبة لما نطالعه او نحتاجه من ثمرات القرائح ونتاج العقول فى الاداب الاجنبية . فكثير من الناس يدعون بسلوكهم وسمتهم الى العزلة ويزعمون ان هذه الاداب تفسد الاذواق وتحيل الاخيلة وتشكك الناس فى قيمة آدابهم

وبعض الادباء يتعامون عن تراثنا ويغضون عن نتاجنا ويرون انه ليس من الأدب الا ما جاء عن الغرب ونطق به ادباء الغرب

واولئك وهؤلاء يغالون فيما يرون من رأى ويلتزمون من عقيدة فان الاديب الفطن والمفكر النابه لا ينبغي ان يلتفت الى هذه الترهات والسفاسف بل يجب ان يلتهم ما يسنح له من الوان المعارف وصور البيان مهما كان الزمن الذي تمخض عنها ومهما كان اللسان الذى جاءت فيه

ولا يفوتنى وانا اعالج هذه الناحية ان اعرض هنا صورتين تكاد ان تتقاربان في الموضوع احداهما لشاعر قديم والاخرى لشاعر محدث وسنجد فى كل منهما من روعة البيان وخلابة المنطق وتحليق الخيال ما يبعث على الاعجاب والاكبار فلم يعق المحدث حداثته من الاجادة والاحسان ومساماة المتقدم على بعد عصره وترامى زمنه .

قال ابن الرومى فى وصف مغنيات

وقيان كأنها امهات                   عاطفات على بنيها حوانى

مطفلات وما حملن جنينا              مرضعات ولسن ذات لبان

ملقمات اطفالهن ثديا                    ناهدات كأحسن الرمان    

مفعمات كأنها حافلات                وهى صفر من درة الالبان

كل طفل يدعى باسماء شتى              بين عود ومزهر وكران

امه دهرها تترجم عنه                     وهو بادى الغنى عن الترجمان

             

               

               

وقال فى هذا المعنى او ما يشبهه ، فابدع ايما ابداع واجاد ابرع اجادة الاستاذ الشاعر احمد الزين

لامست فى النفس اوتار هواها                  غادة بالسحر تغزو من غزاها

كلما مست  يداها وترا                          حسد الآخر ما مست يداها

تمنح الاوتار كفا رخصة                           اسجت الاوتار من قبل شجاها

ويكاد العود يدمى كفها                             قبلا لو ان للعود شفاها  

لحنها يبعث فى ميت المنى                           نضرة العهد ومعسول صباها      

خفقات يخفق القلب لها                           هى انات فؤادى او صداها        

وحنين كاد من رقته                                ان يذيب اللحن فى العود مياها

وشجون طالما اخفيتها                              نفذ العود اليها فحكاها  

                 

           

               

             

                   

                 

                   

الى ان قال :

كل هذا نطق العود به               وتناجى هو والنفس شفاها

فلننظر فى شعر المحدثين الى هذه الدقة العميقة ، وهذا الاستقصاء البارع وذلك الخيال البديع الطريف وتلك المعانى التى انسابت من قريب ومن بعيد فى الفة عجيبة حتى ليحسب المرء ان له بها عهدا وما هى فى الواقع مما تجتمع للفكر وتنقاد للخيال الا بعد كد ومطاولة وشدة احتيال .

اشترك في نشرتنا البريدية