منذ ما يقارب ثلاثين سنة وقف ابو القاسم الشابى على عتبة الموت يسائل نفسه والحياة التى نكبته فى الكثير ممن يحب وما يحب وكان من نساؤله حيرة وكان من تلك الحيرة يأس .
نحن نمشى وحولنا هذه الاكوان تمشى لكن لاية غاية ؟
نحن نروى حكاية الكون للموت .
لكن ماذا ختام الرواية ؟
كان للشاباء وكان له ان يحتار فى امر شعب انههالت عليه الكوارث والصق الاستعمار بظهره وزرا كأثقل ما تكون الاوزار واهدر الدخيل دماء خيرة ابنائه فى ايام نحس . كان للشابى ان يتأوه وكان له ان يصرخ ، فهو الشاعر المؤمن برسالته ، المؤمن بانحلال القيم فى وطنه ما لم يرسل الله اليه بنبىء من نوع جديد يوقظه من غفلته ويأخذ بيده ويسير به فى طريق النور.
كنا فى تونس على عهد الشابى ، كمن كان ينتظر المهدى فى لهفة واشتياق ويبدو هذا الانتظار وذاك الاشتياق فى اكثر من بيت من قصائد شاعرنا العربى المشهور . وقد ذهب الناس فى تفسير هذه الابيات شتى المذاهب وقالوا فيها ما قالوا ولم يتفطن الا القليل الى ما تحتويه هذه الصرخات من امل وايمان يتضاءل امامها اليأس . ذلك ان الايمان مبدؤه شك وان الشك لايقعد عن الفعل وان الفعل من شوق الانسان الى الحرية وان الحرية هدف الانسان الاسمى وان هذا الهدف سهل المنال اذا وجد الايمان .
ومن الايمان بالفعل الى الايمان بتحقيق الاهداف عبدت الطريق الى الاشتراكية الدستورية فاذا هى هدف ووسيلة للوصول الى ذلك الهدف فى آن واحد . فهى ترمى الى التخفيف من حدة الفوارق بين البشر وتقريب الشقة بينهم ، وهى فى الوقت نفسه وسيلة وطريق للوصول الى الانماء والازدهار ورفع مستوى الافراد فى عمل مشترك يزيدهم التحاما وانسجاما ويساعد على بعث روح التضحية والحماس والبذل فى نفوسهم وهى فى اعتقادنا اقرب وسيلة وانجعها فى الظروف الحالية .
وبالنظر لوضعيتنا التونسية للوصول الى اهدافنا المنشودة باقل ما يمكن من التكاليف ، فان ما بلغته الجماهير عندنا من نضج ووعى يجعلنا فى غنى عن الالتجاء الى ضروب القهر والضغط والارهاق .
وقد طبعت هذه الطريقة الحياتية الادب التونسى ، فتكيف بها ودعا لها وعمل على تقريبها من النفوس ، فاذا الادب عندنا رسالة ودعوة واذا هو من الشعب وإلى الشعب يحدث بانسانية جديدة ولا يأبه بمنعرجات الطريق مادامت اهدافه ووسائله الموصلة الى تلك الاهداف مستقيمة راسخة فى القلب والعقل على السواء في الفكر والمشاعر فى كل وقفة وقعود ، " فى انسجام ابيات القصيد رشاقة العقد الفريد " .
وما عبقرية الشابى الا فى انسانية لشعره وفى تلك الفلسفة الازلية التى طبعت ذلك الشعر وجعلت منه ابياتا يمكن ان نرددها فى كل عصر . . . فى كل فترة من فترات حياتنا .
كنا نمشى بخطى متعثرة فى ظلام الجهل والرجعية وحب الذات والانانية والتهافت على المناصب والمكاسب وكان المستقبل بعيدا ومن يفكر فيه قلة . وما كان يدعو الى التفكير فى المستقبل ما دام الحاضر سيبسم فى وجه المحظوظين منا من اذناب الاستعمار والرجعية . ؟ ؟ !!
وقليل من كان يؤمن بان المستقبل للحرية وانه للاشتراكية وان الحق لمنتصر . وان القيد لمنكسر .
كان لا بد من توعية الجماهير ، من تعبئة عامة جارفة ، من سلسلة تتصل حلقاتها ، من بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا . وكان لابد من الكفاح ومن التضحية فدخلنا معركة التحرير بزاد كبير فكان النصر وكانت نخوة الانتصار . ولم يفتنا ان نيل الحرية بسر وان العسر فى الحفاظ على الحرية فوطدنا دعائم الدولة واعددنا العدة لخوض المعركة الكبرى معركة القضاء على الجهل والفقر والمرض ، معركة الانسان لاستكمال انسانيته بالعلم بالعمل الدائب بالسير الحثيث فى طريق الازدهار والتقدم بالفعل الفاعل فى اسمى واجل معانيه بالحركية التى لا تبني الا بالاندفاع بالتحمس بالاشتراكية . فاتى الادب مساعدا للسياسة على خلق المجتمع الحديد على دحض آراء المتطرفين وخشارمة الركود فى آن واحد ليتم لنا الاتزان والانسجام فتغنى الشعر بأيامنا وخلدت القصة حركيتنا ( وسابقت الساق الساق ) وتهافتت الايادى على تشييد مجتمعنا الجديد هذا .
الادب عندنا تتمة لعوامل الضغط الديموقراطى والنقابى التى دعا اليها الحزب الاشتراكي الدستورى طيلة ربع قرن من الكفاح . فهو يدعو الى الحد من الثروة الفاحشة والفقر المدفع وهو يدعو الى الاقتراب اكثر فاكثر من العدالة الاجتماعية التى اصبحت هدف القرن العشرين فى كل الانظمة بما
فيها الرأسمالية نفسها . فأدبنا بهذه الصورة عامل فى السياسة ، متفاعل معها تعتمده ويساندها ، كل منهما يؤثر ويتأثر بالاخر اذ كلاهما وجهان لحقيقة واحدة شأنهما فى ذلك شأن النمو الاقتصادى والتقدم الاجتماعى ، لا يمكن الفصل بينهما لانهما وجهان لحقيقة واحدة هى التطور والتوازن . كلاهما يستهدف توفير الاحتياجات ومواجهة الصعوبات التى تواجه الفرد والجماعة خلال تفاعلهم داخل الهياكل المعقدة للمجتمعات السائرة فى طريق النمو .
اذا كان للادب وظيفة ، فوظيفته شوق الى الخلق الى البناء الى التجديد إلى الاصلاح وكم من فساد ورثناه عن العهد البائد يحفزنا للعمل ويدعونا الى التكاتف والاشتراك .
عصرنا عصر تخطيط واقناع وادبنا من وحى ذاك التخطيط يحاول اقناع البشر بضرورة تبديل ما بانفسهم ليبدل الله ما بهم . الثقافة عندنا معركة انصهرت فيها ارادة المثقفين فى وحدة النضال التاريخى ووحدة الذود عن الحرية يدعم اسس الدولة عن طريق الاشتراكية ولبناء مجتمع افضل ، فنحن نجند القوى الشعبية الحية عن طريق الكلمة المنفعلة بحياة البشر وآلامهم وآمالهم ، ذلك لاننا نعتقد ان المجتمع ليس مجموعة افراد موضوع احدهم بجانب الاخر كجنود بين اصابع الاطفال والسفهاء ، بل ان المجتمع شكل من العلاقات الاجتماعية التى تربط الافراد فى ارض معينة فتخضعهم لحياة معينة ومصير واحد ، فهم محكوم عليهم بالاشتراك فى تلك الحياة وذاك المصير مرغمون على التمتع بالحرية التى ينشدها البشر بطبيعتهم على صعيد واحد يتساوى فيه الفرد بالفرد كما يتساوى ركاب الطائرة فى مسيرتهم من تونس الخضراء الى بغداد الخالدة . وعبثا يحاول البعض اقناعى بان مصير ركاب الرتبة الاولى غير مصير الرتبة الثانية فهم فى السماء متساوون فى السراء والضراء مقيد مصير الواحد بمصير الاخر فى مركبتهم الفضائية الى حين . فحاضر الناس وواقعهم المعاشى هو ذاك الشكل من العلاقات الاجتماعية الذى اشرنا اليه وهو مصيرهم المشترك الذى هم مرغمون على ان يقرأوا له الف حساب . وهو المستقبل المرتبط بحاضر البشر ارتباطا كليا مطلقا احبوا ذلك ام كرهوه ، فما من ثانية تمر الا وتقربنا من المستقبل الذى نحن مسؤولون عنه وما من ادب يمثل المجتمع تمثيلا صادقا الا وقد اتسع ليمثل صور الحاضر والمستقبل حاضر يعمل الاديب على ابقائه ومستقبل يعد العدة له ليكمل نموه وتزداد قوته ومن ذلك انعكاس لعملية التطور التى لاتقف .
ويلاحظ ذلك فى ادب ما بعد الاستقلال ، فهو اكثر طواعية واوسع شمولا لمحتوى المجتمع الجديد ، وما التجديد فيه الا نتيجة حتمية لتعيير الوااق الاجتماعى ولبروز مفاهيم جديدة لحياة البشر ومصير البشر .
وليس فى عزمى ان اتتبع تطور المجتمع التونسى ودراسة ادبه فى هذه
الكلمة القصيرة ولو شئت ان احلل كل هذه الظواهر لما قدرت ، اذ لست ممن يرى الاكثار فى المحاضرات رأيا ولا القيام بها احسن الوسائل لنشر المعرفة واحتكاك الاراء . والغاية هنا ان نناقش فى بعض المفاهيم الجوهرية وقلما تأتي المحاضرات بفائدة ذات بال ان لم تراجع فتسمع او تطبع فتقرأ . ثم ان المحاضرات فى كثير من الاحيان مضجرة تضجر المحاضر والمستمع اليه . وم اخال اننا جئنا الى بغداد للاستماع الى المحاضرات ، واملى ان يقوم فى مكانها مناقشات ومجادلات حول مواضيع معينة تفيد الكل ، ونحن كل مشاكلنا واحدة واهدافنا واحدة ، فما تونس الا اصبع من تلك اليد الممتدة الى الخير والاسعاد والاصلاح وان تباينت الاشكال وتناءت الاقطار واختلفت وسائلنا في الوصول الى نفس الغاية وهي النهوض بشعوبنا باقلامنا بافئدتنا بعقولنا ومواكبة التطور للالتحاق بركب الشعوب المتقدمة .
فبقدر ما كان الوعى فى البلاد العربية متفاوتا فى قوته واصالته ومتانة نفسه بعكس الظروف الاجتماعية السائدة ومقدار تهيئتها للانتفاضة ضد الاوضاع الفاسدة كان الادب في بلادنا متفاوتا فى القيمة والجودة والاصالة بعكس ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية والانسانية بصورة عامة وبمقدار التزامنا ووثبتنا الفكرية ضد الركود والجمود . فكلنا يفهم الدور التاريخى المعد له ويقدر مسؤولياته امام ضميره وشعبه ووطنه . وكل ما اتمناه ان يصلكم انتاجنا كما وصلنا انتاجكم وان تطلعوا عليه وتراجعوه كما نطلع نحن ونراجع وان تحفظوا من اسماء قادة الفكر عندنا ما حفظنا نحن من اسماء متقدميكم والمحدثين . فبذلك وبذلك فقط يكون لهذه الملتقيات معنى ويتم النفع وتعم الفائدة . لقد برز وجه مصر فى كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم وابراهيم المازنى وهيكل وابي شادى وشوقى وحافظ ومئات من الشباب المناضل فى الادب وبرز فى العراق الرصافي والزهاوى والجواهرى وغيرهم كثير ، فهل تعلمون ان وجه تونس برز في كتابات الحداد والدوعاجى واحمد خير الدين والمرزوقى والعروسي المطوى ومحمود المسعدى وفي اشعار الشابى وكرباكه والنقاش والطاهر بن عاشور ومصطفى خريف وغيرهم هؤلاء ممن نعرف وتجهلون ولامجال هنا لتبسيط ما عاقكم وأعوزنا فى ابلاغ هذه الرسالات الانسانية اليكم فذلك من صنع الماضى ، ومستقبلنا ان شاء الله للتعارف والتفاتح والمكالمة . وانما يؤلمني تباعد الاقطار رغم الكتب السيارة والطائرات النفاثة والاذاعة والتلفزيون . . .
