ان فى اختيارنا الحاسم للوجهة التكنولوجيا والعلمية أمر لا محيد عنه إذ هو الكفيل بالنهضة بمجتمعنا من حيث تمكينه من أسباب القوة المادية ، وتوفير الطاقات لتفجير الثروة . وان هذا الاتجاه الذى لا يمكن أن يختلف فيه تونسيان يجب ان تجند فى سبيل تدعيمه وترسيخه جميع العزائم الصادقة فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ليكون العمل شاملا و ليكون المجتمع كله مقبلا على هذا الاختيار الحاسم.
وليس غرضي هنا أن أبين ما يجب القيام به في هذه الميادين كلها لتتضافر الجهود وتحدث الثورة التى نريد ، وانما سأحصر قولى فى ميدان ضيق يظهر بادىء ذى بدء بعيدا عن شغلنا الشاغل هذا وهو الميدان الادبى والفكرى ولكنه عند التمعن فى وسعه ، إذا أردنا ، أن يخدم الروح العلمية أولا والاتجاه التكنولوجى ثانيا .
وهذا بطبيعة الحال يدعونا الى حث الادباء والمفكرين في تونس على المساهمة فى هذا التحول الكبير الذى نريد أن ندفع اليه مجتمعنا . هي اذن دعوة الشعراء وكتاب القصة والمسرحية والبحث والدراسة الى خوض غمار هذه الثورة وتهيئة العقول لها وتغيير العقليات من أجل توفير أسباب النجاح والسرعة الى ولوج هذا الباب الخطير.
فهل يعز هذا المطلب على الادباء والمفكرين وهم السباقون قديما وحديثا الى بث الحيرة فى العقول الخاملة ، ودفع الثورات الانسانية العظيمة إلى التحقق والبروز ؟
ألم يهئ ديدرو ( Diderot ) بكتاباته عند بعثه فى القرن الثامن عشر مع علماء عصره دائرة المعارف أو القاموس الممعقل والفنون والصنائع المجتمع الأوروبى الى الامعان فى الثورة الصناعية مثل بريطانيا العظمى ؟ ألم يكن هو الاول الذى لم يبن فلسفته على أنماط التفكير وعلى المنطق بل على الاحداث و الاحداث المستنبطة من العلوم والاكتشافات الفيزيائية والفيزيولوجية ؟ فلقد وصل بتفكيره فى (( ملاحظات العلماء )) الى نوع من الحدس
الذي لا يتمتع به إلا العباقرة ، فكان يتوقع وفي بعض الاحيان يبرز النظريات الخاصة بالتطور وبتكون خلايا الكائنات الحية .
ثم ألم تكن أول ثورة علمية ثورة فكرية علمت الناس فى أواخر القرن التاسع عشر أن يفكروا على نمط آخر عندما وضع كلود برنار الطريقة التجريبية ؟
ولا ننسى ما قام به أضراب " جول فرن " من تبسيط للمخترعات وسبق الى خوارق لم يكتشفها آنذاك العلم وأبرزها مثل هذا الكاتب الملهم بفرط حساسيته ونفاذ حدسه وأثبتها العلماء فيما بعد .
وهكذا فان الادباء والمفكرين هم من أقدر الناس على توقع التغييرات فى المجتمع اذا هم لا يكونون فى كثير من الاحيان السابقين والدافعين لكل تطور. وفي هذا المجال أدفع دفعا الى استحضار ظاهرة أدبية ما زالت لم تلق العناية الكافية ولم يربطها الباحثون والدارسون بالاحداث السياسية وهى وجود حركة ادبية قوية فى الثلاثينات تدعو الى القومية فى الادب وكان أبو القاسم الشابى أحد أقطابها ، ولقد واكبت هذه الحركة حدثا كبيرا فى حياة الشعب التونسي وهو انبعاث الحركة القومية الدستورية الجديدة فى قصر هلال.
ويظهر أنه من ذلك التاريخ بقى الادب متخلفا عن السياسة وهو يخطو لاهثا للالتحاق بالاختيارات الكبرى التى من شأنها أن تحول مجرى التاريخ فى بلادنا ، بينما الادب قادر على بعث طاقة ثمينة جدا فى استطاعتها اخصاب وعينا بوجودنا وأعمالنا . واذا كان هذا الوعى عند تعميقه يقتضى شحذ ذاكرتنا والاخلاد الى أنفسنا وتعطيل الفعل فان الادب قادر أيضا على اعلامنا بما جد باطراد وفي وسعه إذكاء روح النقد فينا ، كما أنه يمكن أن يكون أداة لبث المعارف وواسطة لاشاعة الوسائل اللسانية . وان أهم ما يمكن أن يقدمه الادب للناس هو أدوات التفكير الكفيلة بانارة طريقهم نحو الوجهة الصحيحة فى هذا العالم .
وليس أصح اليوم من الروح العلمية المتماشية مع العصر ولا اقوم من المنهج العلمي الموضوعي ولا أضمن وأشد لصوقا بالواقع من التقنية الصانعة لكل الاشياء التى نحتاجها فى حياتنا ووسيلتها التى تمكنها من دراسة أنماطها وهي التكنولوجيا .
وان الادب المتجه هذه الوجهة بما له من طلاوة واعتبار للعواطف وتأثير على النفوس يحمي من العلموية Scientisme المغالية فى الاتجاه الموضوعى حتى
فيما لا يفسره العلم ولا يخضع له وهو الى ذلك ينتهز الفرصة للحوار بين الناس واثراء حياتهم الخاصة ودفعهم الى الخلق
هذا كله يمكن أن يقوم به الادباء والمفكرون وأن يجعلوا ، بواسطة ما ينتجونه ، من عقول أبنائنا الغضة وعقليات شبابنا تربة مستعدة الى أن تتقبل العلوم والتكنولوجيا وتمضى فيها أشواطا ، وقد أصبحت لصقة بها غير مركبة تركيبا، ذلك أن الناس حتى فى البلدان الغنية لم ينسجموا أتم الانسجام مع العلوم الجديدة لان ما ألفوه من تفكير أداته اللغة لم يسمح بخلق لغة متماشية مع الاتجاه العلمي الجديد.
وهذا ينطبق بصورة حادة على اللغة لا من حيث العبارات والالفاظ بل من حيث هيكلها حتى تصبح معبرة فى شكلها عن تمشيات فكرية وعادات ذهنية هى بعيدة عن القرون الوسطى لصيقة بما جد فى العالم من مستحدثات أثرت فى حياة الناس . فانتفاء التفاوت بين روح العصر بأدوات تفكيره وبين لغة ما زالت لم تتطور أمر لا بد من تلافيه وهو صلب السباق الحضاري.
وان هذا يرتبط ارتباطا كبيرا بمسألة أثارها السيد رئيس الجمهورية مرات عديدة فى مناسبات متكررة وهي مسألة شكل الكتابة العربية * ، وان أعظم ثورة فى اعتقادى تكون فائدتها عظيمة للجميع وتتطور بمقتضاها العقول ، هى يوم ان يصدر قانون فى بلد عربي ما يفرض ، على مراحل معقولة ، الشكل بالنسبة لجميع ما ينشر على صفحات الجرائد والمجلات والمعلقات والكتب عند ذلك تخرج الكتابة العربية من ثوبها المنسوج عليها فى القرون الوسطى وتدخل القرن الواحد والعشرين ونحن على أبوابه .
وهكذا فان للادب رساله دائمة ان هو تخلف عنها لم يقم بدوره على احسن وجه ، ورسالته اليوم تقتضى منه أن يشيع بين الناس الروح العلمية وييسر لهم العلوم ويوجههم الى التكنولوجيا من دون أن يفقد نوعيته التى تتطلب منه البقاء فى مستوى من الفن يتغلغل فى النفوس فيهزها هزا ويؤثر فيها ومن دون ان يكف عن وظيفته الخالدة ألا وهي بعث الحيرة فى العقول لتتجاوز الحاضر وتقلقله وتهيئ الى المستقبل.
