الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

الارخبيل

Share

الفصل الثالث ( * )

تعجج الدخان فى فضاء القرية الخراب وتلوث فى العصافير النشيد الزجاجى العذب واختلط الصمت بالدهشة وظل كل ما هو ضبابي غارقا في الضباب . اختلف القوم ، كافة القوم تقريبا الى حيث الحدث . واختلفوا جميعا في تحديد هوية الفاعل الاصل - قال حمد العيثى : بوزيان له قلب أسود كالزفت ولا يستأهل الرحمة أصلا .

فى العام الفارط ، غز شياهى بدعوى أنى تعمدت تسريحها فى غرسه وأنا أحلف برأسي الذي يعز على أنى ما شققت له أرضا بساق على الاطلاق . - وقال شعيب السعفى : بوزيان صوردى منقوب . لم يكن في يوم من الايام ، طلق الوجه أو اليدين . دائما ، الكشة والغشة . لعمرى ، رأيت رجلا بضاهيه شحا ، والا ، كيف يظل يرقد كالكلب، تماما كالكلب تحت العشه وله زيت مخزون لو سيبه لصار بحرا .

- وقال عيفة البرادعي : بوزيان يعتقد اعتقادا راسخا أن سويلمي هو الذي أضرم النار فى أكوام التبن المتلاصقة كحلزون بومصة - أما الزبيبى بوشيحة ، فيؤكد أن شعار ، ذلك الولى الصالح ، غضب غضبا شديدا على بوزيان . وهو يذكر يوما ، جدف فيه بوزيان بشمار ، واعتبر المتعلقين بتلابيبه قوما سذجا ، ضحايا مخلفات الاستعمار القديم والحشد يتطلع الى النار وهي تطفأ شيئا فشيئا ، تراءى سويلمي يتمشى الهوينا حتى انتهى الينا انهالت على وجهه النظرات ، تحاول أن تستخلص منه اعترافا بما وقع ولكنه ، كان مغلقا مثل الصخر تماما

وكان هو أيضا يتطلع الى الحريق بدهشة ، وكان بين الحين والحين يتفرس فى وجوهنا ، فنشيح بها عنه . ويبقى غريبا ، مشكوكا فيه بوزيان يرغى ويهتز . بوزيان جلف ، ضخم الجثة ، بدائى القسمات ويلبس كدرونا تكدس عليه مقدار كرسوعين من الوسخ حين وقعت عيناه على سويلمي ، توجه اليه رأسا ، وبدأ بالصراخ وتركيز التهمة عليه .

طأطأ سويلمي رأسه . غرس عينيه فى بوزيان ردحا من الزمن ، ثم انقلب عائدا بخطى متمهلة تشاركه التفكير ، وبابتسامة شاهقة على شفتيه ، تفصح عن التقزز والاشمئزاز فى عشية ذلك اليوم الغائم ، عادنى سويلمي ، فوجدني في هذا المكان بالذات . أئن أنينا خافتا ، وأحاول أن انهض فيشدني شعور بالتخاذل والصداع الى الفراش

عيناه حزن وتفكير وأسف . قال وهو يكب القفة ، فيمتلىء حجرى برتقالا : - أتيت في الحقيقة ، لاطمئن عليك . وأتيت أيضا لاقول لك شيئا هاما تبلغه بالنيابة عنى الى شخص - يبدو - أنه لا يعرف طبعي جلس جلوسا لكأنه جلوسك الآن . شابك ما بين يديه والتفت الى : - أنت تعلم علم اليقين ، أنى لا أظلم أحدا ولا أتظلم حتى ولو كنت المظلوم ولهذا ، ناشدتك الله أن تبلغ بوزيان موقفي هذا . وتطلب منه أن يتبرأ مني ويكف عن الاساءة لى ، وألا يذكرني - مستقبلا - بسوء أو بخير

تثاءب جدى وأعاد التثاؤب مرارا ، فأشفقت على شيخوخته وطلبت منه أن يسند ظهره الى الحائط عله يستريح سمعت أبي يناديى فى الخارج . انه يريدني بالتأكيد ، لغاية فى نفسه طبعا سأنحنى والملم التبن مع ابن عمى

انتهت مهمتى . أنا الآن فى حل من كل شغل . سأنام . سأنام هذه الليلة ، ملء العينين ، لانى استشعر تعبا لكأنه الخدر فى بدني تمرغت في فراشى بطنا وظهرا ولكن النوم جافانى . قلق كأنه الاختناق يغلق انشراحى ويفتح سهادى تصورت امرأة متوثبة الحسن ، فى حالة شبق جنسى جارف تلتصق بى ، وتزرعني الغاما وحرائق لذيذة ، وانغاما وحدائق بكرا

وتفطنت الى أنى نسيت بيتا كان يؤويني فى ليالى الشتاء والحرمان ، حتى مطلع الصباح وانطفاء الظمأ ركبت رأسى المتوهج كبتا وتسللت الى البيت المنسى فى قلب الغابة كانت الفاسمية الى ذلك الحين ، منتصف الليل تقريبا ، تعد الشاي وتملس الكوانين الطينية .

كانت زنجية كأنها العنب الرازقي ، تكاد من فرط السواد تضئ كانت جميلة فى نظري بشفتيها الغليظتين ، وابتسامتها الناصعة البياض : وجسدها المصقول صقلا فنيا يحار قدامه الفنان هى أرملة مات زوجها وهو يعالج برميلا مملوءا ماء ، كان العمدة قد كلفه يملئه من احدى الآبار البعيدة ثم حين حاول تهبطه من على العربة ، أحس ألما كبيرا فى شبكة صدره العظمية وكان أن تقيا الدم فى المساء . حدقت من خلال كوة فى جدار رأيتها على الدكة ، تعجن الصلصال وبواخ الشاى يصاعد ، وهي تغنى :

لالا يا نوار اللوز          كسر كعبه تلقى زوز

رمقتني ، اندهشت ، غسلت يديها ومسحتهما فى منديل قديم وقامت تفتح الباب . * قالت : أين كنت يا عبد الحميد طوال هذه المدة ؟ - قلت : أنا موجود في القرية ، ولكنى ، كنت مضطربا ، وبعضى لا يجانس بعضى . المهم ، انك ما زلت في ذاكرتى وها أنى أتيت ، فهل اتفضل بالدخول ؟

قالت : تتفضل بالدخول ؟ منذ متى اصبحت تتعامل معى بهذا الشكل ؟ ادخل ، هيا ادخل ، ودعني من هذا التكلف الزائد القاسمية هى هى . لم يطرأ على ملامحها أى طارئ ، ولم يأت الزمن على تماسك عضلاتها البضة ، الغضة ، أو وداعة وجهها النابض بالوهج

وأنا أحل عروة الشملة فى محاولة تجريد الفاسمية من دخيلتها الكمونية ، اهوت بأناملها على خدى بكل هوادة وهي تعاتبني عتابا خفيفا : - كل بنات المدينة لم يفلحن فى تحريرك من ايرك . أعرف أنك بدوى لا . ترتوى حتى ولو ضاجعتك كل نساء العالم لم أحفل بتعليقها اطلاقا

كانت سلطانة فى ذلك الوقت ، وكانت الصراخ - الصهيل - العواء فى ذلك الصمت وكنت أنا ضالا ، أتسع لهبا متأججا وأبحث عن مضيق كله رفاهية ، أقضى فيه أوطارى ، فتطفأ نارى وبكل عنف وحرارة ، أخذت أبوسها فى مواطن جسدها الحساسة وهى تتمتع وتتلوى كالحنش المصهود بقيظ الرمل الصحراوى

فى أوج اللذة ، صعقتني بسؤال أمات فى احساسي ذلك الحريق المستيقظ - قالت : أنت وحش شهوانى ، موحش . لم لا تكون ولو مرة ، مثل سويلمى ؟ . - نعم ، سويلمي ، أراك مولعا بالتفاصيل ؟ تهشم فى عينى الزجاج ووجدتني حريصا شديد الحرص على الاصغاء الى الفاسمية

قالت وأنا على يسارها ممدد وهي تتردد - سويلمي ، سويلمي رجل عظيم . زارني ذات المرار وذات المرار ، وفي كل مرة ، كان يحمل معه الشاى والسكر والكاكاوية ، فنسهر معا حتى ساعة متأخرة من الليل كنت فى البدء أظن أنه سيكون مثلك تماما ، يأتي ليقضى وقتا دافئا معي . ولكنى اكتشفت العكس

صبت الشاى فى الكأس ، وسألتني التذوق ، فأفدتها بأنه : عال سألتها المواصلة ، فحدجتنى بخزرة جانبية وهمهمت : - دائما تستعجل الامور ان سويلمي والحق يقال لا يماثله أحد فى هذه القرية . حاولت مرتين ان اراوده على نفسه ، وفي كل مرة ، كان يضحك ضحكا استراتيجيا وينجو مني بذكاء ودهاء .

شككت في مقدرته الجنسية ، لكنى ، تبين لى انه سليم من أية عاهة وأذكر ذات ليلة ، أتى يجر خطاه ، فى عينيه قلق وصمت واعتراف بالتعب كان طويلا مثل عرصة الباب هذه . جلس على الدكة ، منكس الرأس - قلت : هل حدث حادث يا سويلمي ؟ قال : سحقا للانسان . انه التفاهة عينها : - قلت : ما الحكاية بالضبط ؟ * قال : أنا انتهيت . لم يعد لى مكان فى هذا العالم - قلت : ولكن ، ما كل هذا اليأس ؟

* قال : اسمعي ، هل صادف فى زياراتى أن اعتديت عليك ، أو اغتنمتك غنيمة سهلة ؟ من أول لقاء على ما أظن ، حددت معك نوعية علاقتى . لاني ، كنت آخذ الانسان على أنه ، فى كل الحالات ، انسان . لا مجرد وحش يتمرغ فى العفن انى أضحك ملء الفكين عندما أتصور انسانا ، بجسده الضخم ، ورأسه المستطيل وعينيه المفتوحتين وشكله الانيق ينغمس حتى الغياب ، فى لذة عابرة ، وعلى نحو مخجل جدا . وتصبح تلك الشخصية القائمة الذات فى المجتمع ، جثة عارية تمتص الرحيق الضرورى من بالوعة القذارة . انه القرف والغثيان . وانه المسخ التام لانسانية الانسان اني أرفض أن يكون الانسان : جشعا كالحيوان ، قبيحا كالحيوان ، أعمى الغرائز كالحيوان .

الانسان مثقف الغرائز أو لا يكون . طوال سنوات عديدة ، علمتني تجاريبى مع المرأة ان الجنس يميت في الرأس كل نوازع الارتفاع ، ويغلق كل نوافد التطلع الى بعيد

لكنى - للاسف - لا حظت أن الجنس فى قريتى ما زال مغنطيسا خطيرا . كل شخص بلغ العشرين من العمر ، يسارع بالزواج ، لينعم بالدفء والضرورة الساخنة ، ويموت ، يموت فعلا

حين ان الجنس فى بعض الامصار حاجة ثانوية تمارس فى وقت الفراغ فالجنس هناك ليس حاجة أكيدة تأخذ من طالبها الوقت الكثير والتفكير الطويل فالمهم فى تلك الامصار ، البناء سواء فى الاقتصاد أو السياسة أو الفكر ولن يكون البناء ، الا اذا تخلص الانسان من عبودية الانشداد الى النصف الاسفل من جسد المرأة المحنطة عبر العصور

إلى هذا الحد ، توقف سويلمي وبدأ كأنه يصارع أفكارا شرسية أو ذكريات سيئة

قلت : أهذا كل ما فى الامر ؟ - قال : أنا شقي ، ويخيل الى أنى لن أعمر طويلا فى الواقع ، أنا لست مثاليا . وما دام لكل شئ اخلاق ، فان بعض هذه الاخلاق لا تعجبني على الاطلاق وسر كآبتى أنى أحببت فى هذه القرية فتاة

كنت أحسب أنها ستساهم معى فى كل ضرب من ضروب البناء ، سواء كان عاطفيا أو اخلاقيا أو اجتماعيا . وحملتها فى البدء ، على أن تتحرر من جزئيات غير هامة . وأردتها تضحك ضحكا مثقفا ، وتنظر الى المجتمع والطقوس الهشة نظرة التحليل العميق ، وتتعرى أمامى التعرى التام حتى نتفادى معا ما . لا تحمد عقباه

لكن ، أغلقتني بسطحية أحلامها القديمة ، وخلفتني كما ترين : غريبا ، غريقا يفتش عن قشبة للنجاة ، فى هذه المستنقعات . تمركزت فى رأسى نقطة استفهام كبيرة ، وكانت الفاسمية قبيحة بعد الذى سمعت ، تبعث على الاشمئزاز

* قلت : ومن تكون هذه الفتاة ؟ - قالت : رية زعقت والذكريات الجميلة تتحول إلى رماد : * كيف ؟ غمرتني بنظرات كأنها الارتباك المفاجئ . توجهت نحو الباب للخروج واشتملت الفاسمية بالغطاء

وكان القمر ، فوق القرية ، قبيحا كالوباء .

والشمس تعشوشب احمرارا فاحشا ، طالعني خالى مسعود ، صفر اليدين ، الا من ارنب بو صويفة هزيل كامل الليل لم أنم . فالطريق التى كنت احسبها طريقي كانت طريق سواى هل الغ الآن من وعاء سبقني اليه سويلمى ؟ ان سويلمي بشر معتدل ولا اتوقع منه أذى اني اكاد أنفجر ، انى أكاد

والقرية امامي رماد ، وكل الزقزقات مهشمة ، أوصدت الشبابيك فى وجه ربيع كان من المؤكد أن يجيء . احتشد على دمى ذباب التسى - تسى حتى ارتخى كل غصن جرثومى حي فى دمى ، فنمت الى أن أيقظتني أمي فى المساء

رية ، ، وأنا احبك حتى احمرار الحديد فى يد الحداد . وأنا وقفت جميع احلامي عليك . وأخشى ان سألتك اليوم التعري ، أن تسقطى من عيني السقوط الاخير . لانك قد تهربين من أسئلتي الى حيث الضباب ، والنفاق الجميل استبد بى الهذيان وتملكني احساس يقول بكل أنواع الكفر والالم .

قالت وقد جاءت قبل الموعد المحدد بربع ساعة تقريبا : - أراك يا عبد الحميد ، منقبضا ، عكر المزاج . ويخيل الى انك تلتقى مع سويلمى فى شبه كبير الفني الضباب من كل جهة وأهويت على خدها بكف ملأت الفضاء غرانيق سودا أخذت لتوها فى الانتشار والنعيق

انزلعت التقريطة من على شعرها المخضب بالحناء . انفرجت الشفتان ارتعاشا وأخذت تفقفق بكاء ، لاول مرة ، أرى رية تبكى أمامى ، بعينين ضاقت في اتساعهما السماء . التزمت الصمت . وانهمرت الثوابت داخلى عويلا عنيفا وبكاء باردا قلت والشمس تبتعد ، والشفق المحمر يزراق شيئا فشيئا :

* أنا بكل تأكيد حريص عليك . وقد تناهى الى علمي أنك التقيت سويلمي فى كم لقاء . وكان من المحبذ على الاقل أن تحيطينى علما

كزت بأسنانها العليا على شفتها السفلى ، وعاودها الشهيق والبكاء ، فاحتضنتها بين ذراعي ، وأنا ألعن اللحظة التى جمعتني بالفاسمية والتى غرست فى رأسى مشتلا من الاحتمالات الكثيرة

هدأت رية قليلا . رفعت وجها رسمت عليه الدموع مسارب عمودية لكأنها ذلك المخاط الحلزونى الجاف .

- قالت : التقيت سويلمي حقا وكان لقاؤنا محض صدفة ، طوال وقوفنا ، لم يرفع عينيه الى وجهى ، كان خجولا ، يتكلم وعيناه مركزتان على قدميه .

* قال فى أول لقاء : أوصيك يا رية بالتحدى . ان اصحاب السوء منتشرون كالزرزور الاسود

وفي اللقاء الثاني قال : اني أريدك امرأة يتيمة لا تشبه النساء . - قلت : لا أستطيع . قال : هل من سبب ؟ - قلت : انى ارتبطت بشخص يكن لى الحب ، سيحملنى معه الى الآفاق الخضر ، ويبنى لى قصرا فخما ببيض الطيور

* قال : من ؟ - قلت : عبد الحميد . قال وهو ينسحب ، كئيب الملامح أوصيك به خيرا . انه شهم وطيب . وهو بشر مثقف لا محالة . ومن ذلك اللقاء ، لم أعد أراه . وقيل إنه اختفى وتاه أحسست انتعاشا صباحي الرعشات فى دمى . وأحسست ايضا انى احترم سويلمى ، وأحبه اكثر من ذي قبل . فضممت رية الى صدرى وكان الظلام وهو يتكثف . حائطا شفافا نتكئ اليه

(يتبع )

اشترك في نشرتنا البريدية