الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

الاستراتيجية الجنسية في الشعر العذري, وجهة نظر سوسيولوجية

Share

ان الآراء المختصرة الى حد الاقتضاب هنا متصلة بمحاولة المطالبة بالحق فى المشاكل أو فيما هو مشكلى . ذلك أن تاريخ الأدب العربى كما كتب ولا يزال يكتب ليس له عموما حاسة الاحتمال . هو ضحية الدلالة النهائية ، مبنى على الجزم الموروث الى حد الخروج عن الزمن

الاستشهاد بالنظرة الاكاديمية أو بالنقد الأدبي التاريخي مبتذل أو يكاد شاء مثلا ابن سلام أن يكون الاخطل وجرير والفرزدق فى " الطبقة الأولى على أن تكون للراعي منزلة بعدهم . بعد عشرة قرون ومرورا بالاغاني يختار شوقي ضيف الثالوث المحظوظ لتوضيح " التطور والتجديد فى الشعر الأموى " . ذلك " لأن نقاد العصر العباسى وأدباءه اتفقوا على أنهم أشعر أهل العصر الأموى ، فهم الطبقة الأولى من الشعراء الأمويين ، وهم فحول الشعر العربى حينئذ وأقطابه الكبرى . وما يزال النقاد والأدباء المحدثون يعتنقون هذا الرأى ويؤمنون به ) ٠٠ لانهم خير من يمثل العصر " ) 2 ( .

هذه فقرة نموذجية تفضى أوتوماتيكيا فيها " الطبقاتية " القديمة الى مفهوم كثير الاستعمال والغموض معا هو مفهوم " التمثيلية representativite  إن لم تكن هناك أوتوماتيكية فأية معطيات ملموسة ينطلق منها حكم كهذا : " خير من يمثل العصر " ؟ ما معنى " مثل " فى الميدان الشعرى ؟ ما هى معايير

التفضيل ) خير ) ؟ ما مضمون هذا " العصر " ؟ الزمن ؟ زمن من ؟ زمن البلاط أو البدوى ؟ . . أسئلة لا جواب لها عدا أفعل التفضيل التى لا مساس لها بالتدليل العلمي فى اعتقادنا .

النقطة الأولى اذن هذا التناسب الطردى الغريب بين درجة " التمثيلية " ومكانة الشاعر القديمة . لنمر على الجانب الايديولوجى لهذا الموقف الفكرى الجماعي الرامى عمدا أو عن غير عمد الى المحافظة على الموجود . لنشر فقط وعلى المستوى التطبيقى الى نوعين من النتائج :

1 ( على المستوى الكمى ، غالبا ما يكون جهد مؤرخ الادب فى تناول كاتب أو شاعر قديم تابعا لطبقتهما . بتعبير آخر ، يكون هذا الجهد قارا نسبيا ، بل انه لمن المحتمل جدا أن تثبت دراسة عينة كبيرة استقرار النسبة حسابيا بين نصيب الراعي مثلا وكل من عناصر الثالوث الشهير عبر القرون

2 ( على المستوى الكيفى ومن الوجهة المنهجية تؤدى " التمثيلية الطبقاتية " الى نتائج أكثر عقما : فالانطلاق من المسلمات القديمة لا يفضى الا الى نتائج قديمة . لهذا لا نكاد نعثر على اكتشافات جوهرية فى الاعمال الادبية التاريخية وغالبا ما تغطى الشكليات عند المستشرقين الظاهرة نفسها ) 3 ( .

العذريون هم أيضا ضحية هذه الحتمية المفهومية التاريخية . ما يبذل فى فهمهم من جهد أقل مما يبذل فى فهم غيرهم ممن لهم " وزن " أكبر فى الذاكرة الجماعية . لذلك يخصص مثلا شكرى فيصل وشوقى ضيف معا فى كتابيهما " تطور الغزل بين الجاهلية والاسلام " و " التطور والتجديد فى الشعر الأموى " حوالى 242 صفحة لعمر بن أبى ربيعة وحده و 48 صفحة لكامل العذريين . واذا اعتبرنا عدد هؤلاء ثلاثة فقط ) المدروسين عادة : جميل ومجنون وكثير ( كان لكل واحد منهم  6,7 % من النصيب العمرى . قد تكبر هذه النسبة أحيانا ، ولكنه من الغريب والمؤكد لما ذهبنا اليه قبل حين

أن تكون النسبة نفسها موجودة في كتب مختلفة : بين 33,3 % و 34,5% عند بلاشير وبلات ) 4 ( . هناك اذن نوع من القانون التوزيعي يمكن تحديده يوما ، خاصة إذا تطور عندنا علم الاجتماع الأدبي واستعملت فيه الوسائل الكمية .

والشعر العذرى اختزلت معطياته على المستوى الكيفى وأرجعت قديما الى مدلولات لم يغيرها الزمن أو الذوق . هناك رتابة عذرية يختارها شكلا ومضمونا حب الجزم والتأكيد : حسب أقاصيص عرفت في العالم العربى ابتداء من القرن السادس أو السابع وطورت بعد ذلك خاصة في العراق يتحاب رجل وامرأة وتحول العراقيل البشرية والمادية بينهما فيعيشان كل بعيدا عن الآخر ثم يموت الرجل شوقا فتلحق به المرأة غالبا .

ولهذه الاقاصيص نعوت في الدراسات : هي " منتحلة " فى معظمها . " ملفقة " خيالية " الى غير ذلك . باختصار غير مجزوم بها . من هنا جاء الحذر أو الاهمال يدعمهما اهتمام بيوغرافي شخصانى . كثيرا ما يقال ان الشخصية العذرية ممسوخة . لكن لا يقال ان هذا لا يقل من أهميتها . ذلك أن " المسخ " أو " الاستحالة " ليس عملا مجانيا . هو تعبير حسب الوضع الذي تم فيه عن وظيفة دقيقة تقحمه فى بنية ذهنية جماعية معينة . الاسطورة ليست ريشة فى مهب الريح . إنها لا تتجه إلا إلى وسط تكون لها فيه وظيفة

أما المضمون الشعرى " الثابت " فيصور - حسب الجزم الشائع - عالم جماعة عفيفة مشبعة بالاسلام : يتغنى العذريون بامرأة وحيدة بعيدة ، معرضين عن منكرات الجنس ، مما يجعلهم يتمتعون بوعد الحديث من عشق فعف فمات فهو شهيد " . هذه فكرة أساسية تدور حول الامتثالية العذرية من جهة والتحول المباشر أو الخام للحال المعاش فى الخلق الادبي من جهة اخرى ويمكن الاستشهاد عليها بهذه الفقرة النموذجية هي الاخرى لشكرى فيصل والتي يرجع كل عنصر فيها مباشرة الى آية قرآنية أو الى حديث نبوى :

" فالغزل العذرى تعبير عن وضع طائفة من المسلمين كانت تتحرج وتذهب مذهب التقى ، وتؤثر السلامة والعافية على المقامرة والمخاطرة ، وترى ان النفس أمارة بالسوء " إن النفس لأمارة بالسوء " وأن النار قد حفت بالشهوات على حد تعبير الحديث الشريف ، وانه من الخير لها أن تصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا . . وان تلتزم ما أمر الله به أن يلتزم " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ولذلك آثرت هذه الطائفة أن تعدل عن شهواتها فكانت مثلا واضحا للتربية الاسلامية فى سموها وتعاليها " ) 5 (

ثمة إذن في المفهوم الكلاسيكى العام لتاريخ الادب العربى ثلاثة اعتبارات على الأقل ترفضها الوجهة السوسيولوجية

1. اعتبار طبقاتي مسبق يرتبط تقليديا بتمثيلية لا مضمون لها علميا )  2 ( اهتمام مفرط بالتحقيق البيوغرافي كنقطة انطلاق لفهم الاثر الادبي 3 ( اتجاه متأخر نسبيا الى التطابقية التاريخية أو البسيكولوجية او السوسيولوجية .

وهي تطابقية تهدف الى ايجاد علاقة مباشرة وضرورية بين العالم الادبى وعالم الواقع يعبر عنها عادة ب الانعكاس "

ليس هنا مجال الحديث عن مساهمات علم اجتماع الخلق الادبي ومكتسباته . لنذكر فقط واستيحاء لمنهجية لوسيان غولدمان ) Goldman بتدرج يساعد على صياغة استنتاجاتنا حول استراتيجية العذريين الجنسية ويجيب فى الوقت نفسه عن الاعتبارات السابقة :

I ( نقطة الانطلاق هي النص ذاته . معني ذلك أن التحليل الداخلى السامح بتحديد بنية عالم العذريين الشعرى يعتمد على استجواب الشعر لا الشاعر

2 ولان هذه البنية المحددة لا يمكنها أن تكون من انتاج الفرد كبنية مفهومية فانه لا بد من ربطها بعد تحديدها ببنية العالم المجتمعي الاقتصادى الذي تنتمى اليه المجموعة المنتجة لهذه البنية المفهومية

على أن فكرة المجموعة ) او الطبقة الاجتماعية كلما توفرت عناصر التعريف " تحاول ان تتجاوز اللجوء الى مفاهيم اعتيدت قلة الدقة فيها وبالتالى عجزها عن تعليل خصوصية الاثر : إذا كان التعليل البسيكولوجى أو البسيكاتاليزى يهدم البنية بحثا عن الفردى فان التعليل بالعصر أو الجيل أو المجتمع الواسع لا يتجاوز ما هو مشترك بين مختلف الآثار المنتسبة الى العصر أو الجيل أو المجتمع الواحد .

3 ( عملية الربط هذه ليست عملية مطابقة . انها عمل تجريبي غايته تحديد نوعيه العلاقة بين بنية العالم الشعرى وبنية العالم الواقعي . هذه العلاقة ليست لها إذا البساطة المصورة فى كتب تاريخ الادب . انها قد تكتسي اشكالا مختلفة لها صلة بتعقد مسيرة التبليغ ووسائل التعبير ووظائفه وهو ما يجعل التطابقية المتناسية لهذا التعقد تفضى الى اكثر ما في الأثر سطحية واقل طرافة وعمقا . على أن أقرب العلاقات الى الاثبات فى خصوص موضوعنا علاقة المجانسة البنيوية ) homologie structurelle )التي سبق لغولدمان أن أثبتها ) 6 ( . ومهما يكن من أمر هذه العلاقة فالغاية الاشعار بأن وراء الجزم ورغم الجزم امكانيات متعددة يجب التفكير فيها وتجريبها على ضوء معطيات المنهجية الحديثة فى العلوم الانسانية عامة وفي علم الاجتماع الادبي خاصة .

إن العالم العذرى موسوم بما يمكن أن نسميه المحاولة الفاشلة للتجاوز . هذا ما يكسبه دلالته فى فترة خاصة من التحول المجتمعي الاقتصادي :

محاولة التجاوز :

يمكن الذهاب الى انه بظهور مفهومي الأمة ودار الاسلام وجد المسلم نفسه فى عالم مغلق مفهوميا وماديا . بحيث أصبح من المستحيل في هذا العالم المبني

على التساوى النظرى العودة الى العالم الملحمي أو التنافسى . الاستثمار الصعلوكى ( " فانى الى قوم سواكم لأميل " ) وحتى العنترى لم يعد ممكنا الحروب القبلية أو الطائفية وغيرها فى الاسلام ليست الا مطالبة أو اثباتا للانتساب الى الأمة .

ولعل العذريين أول من حاول فى الميدان الشعرى تجاوز هذا الوضع فى الاسلام . ذلك عن طريق " تجنح " فى شعور قاتم يائس يشدهم الى الانسان فى عالميته وعن طريق ايجاد مادة لتراجيديا انسانية فى عالم لا يعرف التراجيديا من الوجهة المفهومية . كان عليهم اذا وعكسا لما هو سائد فى شعر عصرهم تجاوز العرضى أو الصدفى المباشر . هذا التجنح العذرى يتم خلال صعود مثالي نحو ما لا يمكن البلوغ اليه أو نحو لا بلوغية المثالية . تستقطب البطل وحدانية الحبيبة استقطابا كاملا ، ولكن هذه الحبيبة تبقى بعيدة أو مبعدة . يبحث البطل عن الوصل ، ولكن كلما أصبح هذا ممكنا نجمت عراقيل ما . . يطول الحديث عن هذه الديالكتيكية ، ولكنها مرتبطة بما يسند للحبيبة من طبيعة خارقة للعادة ماديا وروحيا . والأوصاف التى توصف بها هذه الحبيبة تفضى فى نهاية الامر الى الاعتقاد بتجسد المناعة عموما و " العفة خصوصا في هذه الطبيعة نفسها عوض أن تكون - كما يعتقد - من إرادة البطل .

على أن ما يجدر الوقوف عنده - لأنه مصدر المطابقية الكلاسيكية - نقل أوصاف الحبيبة وهي معروفة لمفاهيم دينية . فمقارنة بين أوصاف بثينة فى شعر جميل وصفات الله فى سورة الاخلاص مثلا تبين موازاة غريبة . نقول موازاة لأنه ليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة تأثير مباشر وبالاولى مسألة اعتقاد وتدين . بتعبير أوضح ، قد لا تكون لكلمة الله أو الجهاد أو الصلاة . . . الوظيفة نفسها فى الدين وفي الشعر . بل إن استعمال المفاهيم التقديسية قد يكون أحيانا من قبيل ما يستنكر عقائديا . العذريون أنفسهم يعرفون هذا ويعترفون به ، كما أن قصصهم كثيرا ما تشير الى شعورهم بالذنب .

إذا كان أراغون ) aragon استطاع أن يمنح حبيبته المكان المخصص للالاه ، فان جميلا لم يتردد فى قول ما نردده

أصلى فأبكى فى الصلاة لذكرها لى الويل مما يكتب الملكان ) 7 ( كذلك مجنون ) أو الضمير النوعى المجنوني ( استطاع أن يقول :

أرانى اذا صليت يممت نحوها بوجهى ولو كان المصلى ورائيا ) 8 ( وأن يعبر عن شعور ثائر كهذا :

قضاها لغيرى وابتلانى بحبها فهلا بشئ غير ليلى ابتلانيا ) ٩ ( هذا البيت جعل مناديا فى الليل ينادى : " أنت المتسخط لقضاء الله والمعترض فى احكامه " ) 10 ( .

نقل العناصر الدينية الى الشعر اذا ليس مباشرا ولا بسيطا . ومن هنا جاءت أهمية استخراج البنية . هناك فى الشعر العذرى بناء عالم بمفاهيم دينية أصلا ، ولكنها تكتسب بارتباطها فيما بينها بعد نقلها مدلولا ووظيفة جديدين . فى العالم العذرى إلاه غائب نسبيا ولكنه يفرض المشهد ، الحبيبة هى الحاضرة بفضل غيابها ذى الوطء الكبير : صورة بثينة هي التى تحضر جميلا عند الصلاة . هذا معناه أن التجنح أو الصعود كمحاولة للتتجاوز ليس مطلقا وانما هو مفهمة صيرورية ومصيرية فى آن واحد توازي صيرورة مجتمعية اقتصادية لها خصوصيتها ) 11 ( .

فشل المحاولة :

ليست هناك أية نية فى الحكم على اعتقاد أو اليه ، ولكننا نذهب الى ان الصعود العذرى يعبر عن أولى المحاولات الشعرية فى تجاوز عالم الايدولوجيا

الاسلامية " المغلق " ) 12 ( عالم سدت فيه بالخصوص سبل العودة الى التنافسية الجاهلية . هذه المحاولة لا تعبر عن " الضمير التجريبي empirique  conscience ) فحسب ولكن ايضا أولا عما عبر عنه تعبيرا ثريا ب اقصى الضمير الممكن وهو ضمير مضمونه فى الشعر العذرى ( maximum de conscience possible ) المحافظة على المستحيل . بتعبير آخر ، تكون هذه المحاولة من طرف الخيال الشعرى بحثا فاشلا عن حل مثالي لمشاكل ألقتها على العذريين تغيرات عصرهم وظروفه .

ولتحديد طبيعة هذا الفشل يجب النظر فى القوة الجاذبة للبطل العذرى نحو القطب المعاكس لصعوده المثالى . الصعود عبر الحبيبة خاضع لجاذبية جنسية . تحديد هذا الخضوع يؤول الى تعرية " العفة التى عرف بها العذريون قرونا طوالا .

ما هي إذن هذه " العفة " العذرية ؟ .

يلاحظ أولا أن تعريفها كورع جنسى يكاد لا يوجد فى الشعر العذرى ذاته ، بل هو من تأويل النثر القصصى ) روضة العشاق ، تزيين الاسواق ، مصارع العشاق ، وما شابه هذه المؤلفات ( حتى لقد يمكن القول بأن هذه العفة التى جعل منها حاصلة التناقضات التعبيرية عند العذريين ليست الا جانبا ثانويا أو عرضيا عندهم . ذلك أن صعوبة العقبات المغذية للمثالية الرمزية لا تقضى ابدا على الميل الجنسى ولكن تضع حدودا ) شعرية ( لتنفيذه تنفيذا عاديا

إن النظر في الشعر العذرى يؤدى الى استنتاج المبدأ الأساسي التالي : كل وسائل اللذة ممكنة ما عدا العملية الجنسية نفسها . وهو أمر فى منتهى الأهمية كما سنرى فى توضيح العلاقة بين الانتاج العذرى والعالم المادى لا أنه منذ الآن تبدو فى موقف العذريين مناقضة لمبدا الاستهلاك الجنسي وموقف التشجيع عليه تشجيعا نعرفه جيدا : مواجهة ل " الدورة الليلية ولشهوانية تعدد الزوجات ولمباركة الزواج والعملية الجنسية بل والعضو الجنسي وللذة الجنة كما يتصورها العامة ) 13 ( ، ثم مواجهة ليالي عمر بن أبي

ربيعة الذى يقضى فيها مع الحبيبة كل الديون ، مواجهة لكل هذا يرفض العذريون العملية الجنسية ، بل وترفض أسطورتهم الزواج أيضا . لكن مع القيام باتصالات مادية اخرى لا يسمح بها الدين عادة :

رجل وامرأة يقضيان ليلة دون منكر ذلك هو سيناريو العفة . لكن هل يقصد بالمنكر غير الزنا ؟ نصوص كثيرة لا تسمح بالتفكير في رفض أكثر كبتا . هذا جميل مثلا لا يخفى لذة القبلة وشهوانية ما وراء القميص

فياليت شعري هل أبيتن ليلة كليلتنا ، حتى نرى ساطع الفجر ؟ تجود علينا بالحديث ، وتارة تجود علينا بالرضاب من الثغر ) 14 (

وإنى لمشتاق الى ريح جيبها كما اشتاق إدريس الى جنة الخلد ) 15 (

كذلك لا يتعامى جميل على جسد بثينة ) ولا نراه يكتفى اليها بالنظرة الاولى ( وهي التى لها " كشح كطي السابرية أهيف " ) 16 ( وما تحت حقوقها " نقا يتهيل " ! ( 17 ( أو هي " محطوطة المتنين ، مضمرة الحشا ، ريا الروادف . . ) 18 ( إلى غير ذلك من أوصاف مثيرة .

باختصار ، نجد أنفسنا أمام موضعة localisation للرفض الجنسي  هناك على وجه الحصر ، وخلافا لأجواء أخرى كالجو العمرى ، رفض لاستغلال " المنطقة المنتجة " . على أن هذه الموضعة لا تعبر ضرورة عن واقع معاش . والتساؤل : شعر أم حقيقة ؟ تساؤل قديم . اذا صدق الاغاني يكون عمر بن

ابى ربيعه قد أجاب مرة : " قد سمعتنى أقول فى شعري : قالت لي وقلت لها وكل مملوك لي حر إن كنت كشفت عن فرج حرام قط ! " ) 19 ( .

العلاقة التجانسية :

العلاقة التجانسية بين عالم الاشباع أو الحرمان الشعرى والوضع المجتمعي الاقتصادى الواقعى علاقة لا ترجع فيها المرأة حتما الى نفسها . ان المرأة التي يبحث عنها فى العالم العذرى والتى تقبل وتضم وتغمز هى امرأة " بلا جنس أو غير منتجة . الأسطورة أوضح : ليس للعذرى - وهو أعزل حتى من عقل أحيانا - إلا أن يتنازل عن " انتاجية " حبيبته التى يطالب بحقه فيها . وعموما يكون هذا التنازل لصالح أحد الاغنياء . وليس وضع التنازل القسرى مما يمكن أن يستوعبه أو يغطيه مفهوم سطحي كمفهوم العفة . هذه مثلا صورة مجنونية هي أبعد من جماليات التشبيه كما يراه البلاغيون

ألا إن ليلى كالمنيحة أصبحت              تقطع الا من ثقيف حبالها

فقد حبسوها محبس البدن وابتغي           بها الربح أقوام تساحت مالها ) 20

وإذن : امرأة " بلا جنس " أو رأس مال غير منتج .

كثر الحديث اليوم عن الجنس والصراع الطبقى " وحتى عن دور الجنس فى الصراع من أجل الحكم . قد لا تخلو هذه المقاربة أو المقابلة من جدوى علمية ، ولكن يصرفنا عنها قلة المعلومات التاريخية الاقتصادية الخاصة بالعذريين

لقد أعيد النظر فى قبائل غينيا الجديدة الثلاث المدروسة من طرف مارغريت ميد ( Mead .m ) لاكتشاف العلاقة بين ظاهرتين : كون هذه القبائل لا تعرف عقدة أوديب وتبقى اجمالا فى المرحلة الفمية جنسيا وكونها لا تعرف وسيلة ولو بدائية لتكديس رأس المال ) 21 ( . لو كانت لنا معلومات كافية لوصلنا احتمالا الى علاقة بين وضع العذريين الاقتصادى و استهلاكهم إجمالا للنصف الأعلى للمرأة ، وهو ما قد يذكر بالمرحلة الفمية . نترك اذن هذا

الافتراض لنمر الى تجانس أعم يمكن التدليل عليه بالانتقال من العالم الشعرى الى المجموعة البشرية الواقعية فى علاقاتها الاقتصادية الاجتماعية الاجتماعية مع المجتمع الشامل :

إذا استثنينا احتمالا " مثالين " هما عبد الله بن عجلان وعروة بن حزام تبين ارتباط العذريين بالمرحلة الثقافية الأموية : مات قيس لبني حوالى 687/68 و جميل بثينة حوالى 701/82 وكثير عزة حوالى 723/105 وقبله مات وضاح كما عرف الأمويون أقاصيص مجنون ليلى . الاكيد اذا ان البلورة الجماعية للمفهوم العذرى فى الشعر يرتبط بالعصر الأموى . وهى بلورة لا ينقص من أهميتها التحديث " الاحتمالي لنموذج أسبق ، تحديثا لا ينفصل عن وظيفة جديدة يؤديها : هذه الاشارة رد مسبق على استغلال متوقع لوجود النزعة العذرية قبل الأمويين ) 22 (

على انه تجدر الملاحظة الى أن الانتساب شعرا الى العذريين لا يعنى ضرورة الانتساب إلى قبيلة بني عذرة المعروفة بوادى القرى : تنوع جغرافي يضاف اليه بعض الغموض في انتساب البطون بعضها الى بعض . لكن هذا وذاك لا يتعارض مع تعريف مجموعة حسب " ضميرها : كما ان هناك شجرة نسب ، هناك شجرة ضميرية تبلورها " نظرة للعالم " .

. مهما يكن من أمر ، فسواء أكان ميلاد المفهوم العذرى والأسطورة العذرية في بني عذرة أو في خليط قبائلي جنوبى كما يرجحه فاداي  vadet 23 فان بني عذرة اعتنقوا هذه الاسطورة فعرفوا أنفسهم بها وعرفوا بها . لهذا يمكن اعتبارهم عينة ) ولكن عينة لا أكثر ( لتفسير الظاهرة العذرية

تدل المعلومات التاريخية القليلة على ما يلى : 1- قد يكون اصل بني عذرة جنوبيا ، ولكنهم استقروا على كل حال منذ عهد جاهلي بوادى القرى الذى من أهم مميزاته انعزاله النسبى عن نجد شرقا وعن تهامة غربا انعزالا حدد من اتصالهم ب " الخارج " أو وجهه على الاقل

لذلك لا نكاد نعثر عليهم الا في مسيرة جنوبية شمالية ) اتصالهم بقريش وبتبوك ) .

2 ( لم يكن بنو عذرة في الجاهلية يستغلون ثروات وادى القرى ذات الأهمية كانت الواحات المثمرة بأيدى اليهود وكان بنو عذرة " يعيشون أساسا قبل الاسلام على جباية يدفعها لهم يهود الواحات " ) 24 ( . كانوا إذا فى هامشية تجعلهم خارج الصنفين الأهمين المتقابلين فى ذلك العصر : حضر الحجاز تجارا كانوا أم ملاك أرض والبدو الرحل

3 ( يبدو أن هذه الهامشية قد قويت مع ظهور الاسلام . فبغض النظر عن تردد بني عذرة في اعتناق الاسلام فى البداية كان استيلاء المسلمين على واحاث اليهود قد أبطل عل بني عذرة وسيلة من وسائل الكسب الاقتصادى . النتيجة ربما : " لم يلعب بنو عذرة أى دور سياسي ولم يمدوا تاريخ الاسلام بأية شخصية ذات أهمية " ) 25 ( .

ماذا فى مستوى المجتمع الشامل ؟ الخيبة ! بعد النظام الجماعي اجمالا قبل الاسلام ، ثم بعد مشاريع العدالة الاجتماعية الراشدية وجد الأمويون أنفسهم أمام مشاكل سياسية يفرضها الدفاع عن ملك فردى يريد أن يقوى عبر انتشار الدين . لم يكن مع ذلك سبيل الى تصديق الأمل الذي - كان غداه السابقون .

الدخول فى الجزئيات يطول . الأكيد والمهم بالنسبة للموضوع أن المجتمع الأموي طور نظاما مرتبطا أشد الارتباط بالحياة المدينية . فلأنها كانت مركز السلطة السياسية والاقتصادية لم تستطع المدينة الأموية الا مضاعفة عدد المحوجين وتكوين بروليتاريا سدت فى وجهها الحياة النشيطة . موازاة لذلك ومع توسيع السوق وتكديس رؤوس الأموال زاد التوازن بين المدينة والريف اختلالا لفائدة الأولى . لم يعد الريف يوجه للمدينة غير الضرائب ! من هنا جاء تخلي الفلاحين عن أراضيهم واستيلاء كثير من أشراف العرب وفي مقدمتهم أهل السلطة والتابعون ) ولاة ، بيروقراطيين ، تجار ، عسكريون . . ( على أراض شاسعة سخروا لها أيادى عاملة شبه مستعبدة واستقروا هم فى المدن

فى هذه البنية المجتمعية الاقتصاديه الجديدة ذات الانتاج الموسع " لرأس المال المكدس ضد منفعة الريف وبالتالى ضد منفعة بني عذرة المستفقرين باستمرار تطور توازيا المفهوم العذرى والمفهوم الشهوانى : استراتيجيتان جنسيتان تكون فيهما المرأة مرادفا " عاطفيا " لرأس المال الجديد

دون جيونية عمر بن ابي ربيعة " تدخر " المرأة البلدية الشريفة الغنية فى شكل غيرة نسائية " منتجة " . أما النجاح - وهو مصور كارتقاء ارستقراطي مادى وادبى - فينجر عنه شعور بالتشبع والرضا ليس فيه التوق الى تغيير الموجود .

وأما الحب العذرى فحب " مفارقة Alienation  لا يفضى العمل  الذي يتحمل من أجله البطل كل الاتعاب الى نتيجة ايجابية . مادة العمل تعارض صاحب العمل ، تصبح غريبة عنه ، حتى أنه يصبح غريبا عن نفسه ) 25 ( ، نافيا لنفسه ) 26 ( . من هذه الوجهة تكون لبيت مجنون المذكور سابقا و " المتسخط فيه لقضاء الله " دلالة خاصة : لقد أراد ذكاء الاسطورة وحساسيتها أن يفقد مجنون عقله ) وقد فقد ليلى ( نتيجة لهذا البيت . كان ذلك لتأكيد السلب الكامل الموازي لانعدام التمتع الحيازي . فكرة إفضاء التنازل عن المرأة الى التنازل عن الملكية الاقتصادية فكرة معروفة فى الاسطورة العذرية ) 27 ( .

لكن أكثر الصور تجانسا مع هامشية العذريين الاقتصادية فى صيرورة التملك الأموى الذى أشرنا اليه هى صورة هذه المرأة التى يناشدها أو ينشدها العذرى ويمتلك جنسها أو انتاجيتها ) ظلما ( غيره من الاغنياء . هذه الصورة تعبير ذو معنوية خاصة ( المرأة رمز متغير ) فى وضعية تاريخية معينة

يضاف الى ذلك طبعا عناصر أخرى تؤكد الهامشية كمطاردة البطل لا من طرف اهل الحبيبة فحسب ، بل من طرف السلطة التى سرعان ما تهدر دمه . كيف يهدر دم " عفيف " مهدد بالجنون أو مجنون ؟ ! أليس في هذا تفطن من طرف هذه السلطة الى أن مفهوما تولد عن وضع غير عادل لا يمكنه تعزيزها ؟ اذا ربط بفكرة الظلم المحورية فى شعر العذريين وباتجاه هؤلاء الى تجاوز وضع سمح بهذا الظلم لا يكون هذا السؤال فى غير محله .

باختصار ودون أية رغبة فى الجزم - ونقطة الانطلاق رفض التفسير النهائى وفصل المقال - قد تمكن معاودة النظر فى " المسلم به " من تحديد هامشية عذرية لا صلة لها بالعفة المسايرة أو بالمسايرة العفيفة للدين وللسلطة اذاك هذه الهامشية كالهامشية المعاصرة فى كثير من بلدان العالم ليست عديمة الدور فى توجيه التاريخ ولكن المؤرخين يهملونها عادة . من هذه الوجهة لا يفضى الانطلاق من النص الى الحلقة المفرغة المعروفة ) تفسير ما نعرف من الشعر بما نعرف عن المجتمع وما نعرف عن المجتمع بما نعرف من الشعر ! ( وانما قد يفضى الى كشف ما تغطيه المعرفة المسبقة .

اشترك في نشرتنا البريدية