الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

الاغنية النائحة

Share

كان

مرة ملك مات وترك زوجته ، الملكة ، وطفلين ، ولدا وبنتا ، وكانت البنت اكبر سنا من الولد . وذات يوم قام بين طفلى الملك جدال حول ولاية العهد . فقال الاخ :

- انى امير ، وعند وجود الامراء لا يكون للاميرات ولاية العهد . فاعترضت البنت قائلة : - لقد كانت ولادتى اسبق . ولذا فانا اولى بها منك .

كان حديث الطفلين يتسم بالبراءة ، فقد سمعا هذه الكلمات من خدام القصر دون ان يفهما معناها على حقيقته . وبما ان الخلاف قد ظل قائما بينهما فقد ذهبا الى امهما ووجها اليها هذا السؤال :

- قولى لنا ، ايتها الام الحبيبة ، من سيصير ملكا منا ، نحن الاثنين ؟ فاغتمت الام لهذا السؤال ، اذ اطلت من خلاله نواة الولع بالسلطة ، تلك النواة التى ما كان ينبغى لها ان تنمو فى وجدان طفل . واجابت ؟ - ولدى ! انظرا الى هذه الزهرة وتأملاها جيدا ثم اذهبا الى الغابة وابحثا عنها . فمن وجدها منكما قبل الاخر فانه سيصير ملكا ذات يوم . اقبل الطفلان على الزهرة يتأملانها باهتمام وشغف بالغين . كانت ساقها ممشوقة كالصولجان وتنتهى بزنبقة نصف متفتحة .

اخذ الطفلان طريقهما الى الغابة ، دونما سوء نية ، وبدأ بالبحث عن الزهرة . وسرعان ما ابتعدا عن بعضهما بعض بحيث لم يعد احدهما برى الآخر . وجدت الاميرة الزهرة قبل اخيها ففرحت بذلك اشد الفرح ومضت تبحث عنه غير انها لم تجده . فقالت لنفسها : " سياتي بعد حين . لسوف انتظره هنا . " ثم اضطجعت فوق العشب الناعم تحت شجرة وارفة الظلال . وكان الهدوء شاملا فى الغابة ، ما عدا طنين النحل والخنافس . وقريبا منها كانت

ثمة عين يترقرق ماؤها فى هدوء . اما السماء فكانت شديدة الزرقة ، ترنو الى الاعشاب الخضراء عبر رؤوس الاشجار المخضرة .

كانت الاميرة الصغيرة قد مسكت الزهرة بيدها ، وبما ان الصمت كان سائدا وهى تعبة فقد نامت على بركة الله . بعد لحظة وجيزة وصل اخوها الى المكان الذى نامت فيه . ولم يكن قد وجد الزهرة التى بحث عنها . وهناك راي اخته مضطجعة ، غارقة فى نوم لذيذ ، والزهرة في يدها .

فى هذه اللحظه برز من الغابة شبح رهيب مكفهر الملامح وهمس في اذن الامير : " كيف يجوز ان تسود اختك على المملكة ؟ يجب ان تصير انت ملكا . خذ الزهرة منها وحاول ان تجعل نومها نوما انديا . "

تصاعدت فى نفس الامير افكار قاتمة ، فاصغى الى مغريات الشبح الخبيث . وفكر : " لا بد ان اصير ملكا ، انا ! ولا يجوز ان تعتلى العرش اختى . فالأفضل لى ان اقتلها وآخذ الزهرة لنفسى واعود بها الى البيت لاصير ملكا ."

اواه ! لقد حدث ذلك كما يقول المثل : تفكير يعقبه تنفيذ . قتل الامير اخته البريئة ، وهى نائمة ، ودفنها فى التراب وغطى التراب بالاعشاب ، دون ان يسمع احد بهذا العمل الخبيث . وعند رجوعه الى البيت اخبر بان اخته ابتعدت عنه فى الغابه وسلكت طريقها الخاصة ، وحين وحد الزهرة رجع الى البيت ، ظنا منه بانها هى الاخرى قد عادت قبله الى البيت .

مرت سنون كثيرة وحزن الملكه على ابنتها المفقودة لا ينقطع . كانت قد بعثت من يبحث عنها فى الغابة ، ولكن بدون جدوى . فتمنت لنفسها الموت , لانـها هى التى ارسلت ابنتها الغالية الى الغابة . اما الابن فقد توح حين بلغ سن الرشد !

بعد عدة سنوات مر بتلك الغابة راع شاب كان يحرس قطيعه ويجرف , سأما , بمسحاته الحشيش لمجرد قضاء الوقت . وفجأة وبطريق الصدفة نبش عظما من عظام الاميرة المقتولة ، كان نظيفا ، ناصعا كالثلج . فاحدث الفتى الراعى عدة ثقوب فى العظم فصار شبابة صغيرة . ثم تناولها بين شفتيه ونفخ . عندها انبجست انغام نائحة ، اواه ، حزينة حزنا لا نهاية له . وكانت تلك الانغام منسجمة كانـها اغاني طفل باك ، بحيث بكى الفتى الراعي نفسه ولم يستطع ان يكف عن العزف . وكانت الاغنية النائحة :

يا راعي ، يا راعي ،

انت تزمر على عظمى

قتلني اخي في الغابة

تناول من يدى

الزهرة التى وجدتها انا

وادعى انها له .

ضربني وانا نائمة ، ضربني بشدة .

حفر قبرا ودفنني ها هنا .

اخي - فى رابعة النهار .

لن يعلم ذلك

الا من فمك

فانا اشكوه الى الله والبشر .

كانت الاغنية هى هى تنطلق من الشبابة العظمية دوما وبلا انقطاع . وكان الفتى الراعى يعزف بلا استمرار . وفى كل مرة كانت الدموع الصافية تنسح فوق وجنتيه .

حين كان صدى الاغنية النائحة يتردد فى جنبات الغاية ، كانت الطيور الصغيرة للها حزينه بكماء ، تحنى رؤوسها وترخي اجنحتها وتلوذ بالصمت ، حتى اسراب النحل والخنافس لم تعد تطن ، وخرير العين الثرثارة نفسه لم يعد يسمع - لقد ساد صمت بليغ ، تماما كصمت الاموات .

حين ترددت انغام الاغنية النائحة فى المرج احنت حيوانات المرعى رؤوسها فى الم وكــئــابة ، دون ان يصدر صوت عن أحد منها ، حتى الكلب انقطع عن النباح والوثب فى مرح هنا وهناك كما كانت عادته ، فانحنى يعوى بصوت خافت . لقد كان فى الاغنية شىء يمزق قلوب الخلائق جمعاء . ومع ذلك لم يتعب الفتى الراعى من عزف هذه الاغنية الى ان مر بالسياج ذات يوم فارس . فسمع الاغنية واحس فى التو بعينيه تقطران فتوقف . وبالغ في الالحاح على الفتى الراعى الى ان باع له الشبابة الصغيرة . ومنذ ذلك الحين اخذ الفارس يسبح فى البلاد ويطوى المسافات ، عازفا تلك الاغنية التى ابكت جميع الخلق .

وهكذا وصل ايضا الى القصر ، حيث كان الملك الشاب جالسا فوق عرشه و ثابت الاغنيه تتحدث عنه وتشكوه . وكانت الملكة - الام العجوز - لا تزال بقيد الحياة . فسمعت باخبار الفارس الذي يعزف اغنية تهتز لها القلوب وتمتلىء النفوس غما وهما وحسرة . وبما ان كئابة الملكة العجوز لم تفتر ابدا فقد قالت : " اى شئ في العالم

يمكن ان يكون اشد حزنا واكثر مرارة منى ؟ ليتنى اعرف شيئا من ذلك ! ان اغنية العازف النائحة لن تزيد فى حزنى . دعوه يأتى على أية حال . " فأقبل العازف الفارس ونفخ :

يا فارس ، يا فارس

انت تزمر على عظمي

قتلني اخي في الغابة .

ولم تكد الملكة العجوز تسمع كلمات الاغنية حتى انهمرت الدموع من مقلتيها وحين تواصل الرنين :

اخذ من يدى

الزهرة التى وجدتها انا

وادعى انها له .

صرخت الملكة صرخة مدوية وانهدت فى اغماء عميق . ففزع العازف لذلك وعن له ان ينهى العزف ، ولكنه لم يستطع . . فالاغنية كانت تصر ، كلما ابتدئ بعزفها ، على ان يتواصل العزف حتى النهاية - ، وحين تردد المقطع الاخير منها ، بشكوى عميقة ، استيقظت الملكة من اغمائها وصرخت : " الى, الى بالشبابة ! بكل كنوزى - الى بهذه الشبابة ! "

غير ان العازف الفارس قدم الشبابة العظمية للملكة وقال انه لا يطمع فى الكنوز - لم يأخذ شيئا وواصل سفرته .

اختفت الملكة فى اعماق غرفها واخذت تعزف الاغنية وتبكى الى ان كادت دموعها تنقطع . وفي غضون ذلك كله كان الملك قد اصبح قويا مشهورا , ولكنه لم ينس ، على الرغم من هذا ، فعلته الشنعاء مع اخته وقتله اياها غدرا وخيانة . فكان يقيم الحفلات في قصره فتتعالى الاصوات والالحان ثملى لتنسيه ذلك الصوت الخبيث الذي يعبث بقلبه ويدميه.

حدث ذات يوم ان قرر اقامة حفلة دعا اليها عددا كبيرا من المغنين والعازفين والضيوف . وكانت عادته أن يدعو امه فى كل مرة ، غير انها لم تشترك قط في حفلاته ، لان حزن قلبها ، كما كانت تكتب اليه معتذرة , وكئابة ضميرها يمنعانها من الحضور . وحين وصلتها الدعوة فى هذه المرة اخبرت ابنها بانها ستحضر الحفلة . فعجب الملك اشد العجب ، ولم يعرف هل يفرح بذلك ام لا ؟

ولما اجتمع الضيوف كلهم بثيابهم المزخرفة واستعد المغنون والعازفون ودخلت الحاشية الى القاعة الرائعة النمنمة استبدت بالجميع دهشة اوشكت ان تكون خوفا . لقد كانت الملكة ترتدى ثوبا اسود طويلا ينجر وراءها وقناع الارامل . وما هى الا لحظة حتى ارتفعت الاهازيج من العيدان والدفوف والشبابات والناى والرباب وبدأت المجموعة ترتل اغنية تمجد الملك العظيم. فماذا فعلت الملكة ؟ لم لم تجلس بل بقيت واقفة فى جمود كتمثال من مرمر وما هذا القضيب التى امسكت به ؟ ان هذا ليس قضيبا ، بل هو ساق ، ولكن لم ترفع الساق الى فمها يا ترى ؟ لماذا تمسك بها كما يمسك العازفون بشباباتهم ؟

انصت ! نغم - وتصمت آلات الطرب جميعها - لحن آخر ، فيصمت فم كل مغن .

وجلس الملك هناك في رعب ، ودبيب القرف الرهيب يجتاح كيانه ، ينظر الى امه . وكانت ابصار الجميع عالقة بالملكة العجوز . فتعزف الملكه على الشبابة الرائعة :

امى ، يا امي !

انت تعزفين على عظمى !

وعندئذ تهتز القلوب جميعها وتنفطر ، ولا تبقى عين واحدة جافة . الحاشية والضيوف ، المغنون والعازفون كلهم ينحبون.

اخي قتلني في الغابة

فيصرخ الملك " اواه " ويسقط الصولجان من يده ويتشبث بتاجه.

اخذ من يدى

الزهرة التى وجدتها انا

وادعي انها له .

حينئذ يسقط التاج من فوق رأس الملك ويقع فوق الارضية المرمرية وينكسر ويسمع له صوت كأنه طقطقة جمجمة وقعت على المرمر.

ضربني في النوم ، ضربني بشدة -

حفر قبرا ودفنني في الغابة -

وهنا سقط الملك نفسه من على العرش ووقع على قفاه واخذ يبكى وينوح .

اخي - فى رابعة النهار

فالتفت الملك وهو يعاني سكرات الموت وصرخ : "كفى ! يا اماه ! كفى " ولكن الملكة العجوز لم تستطع ان تنهى الاغنية بنفسها . فتواصل الرنين:

لن يعلم ذلك

الا من فمك

فانا اشكوه الى الله والبشر .

فهرب الضيوف والعازفون ، المغنون والحاشية - هربوا جميعا عبر ابواب القاعة ، - وذلك حين رنت الكلمات رهيبة مفتتة ، مع ان صوتها لم يكن عاليا ، - وداسوا باقدامهم آلات الطرب والكراسى فتكسر الكثير منها وانطفأت الشمعات ما عدا اثنتين - حين انتهت الاغنية لم يبق فى القاعة الكبيرة غير الملكة العجوز ، فى ثوب الحداد ، وابنها الذي كان يعانى سكرات الموت فى ثياب الملك المتنوعة الزخرفة . فركعت قرب ابنها الطريح فوق الارضية ومسكت راسه بين يديها وذرفت عليه دموعا حارة . عندئذ خبت نار احدى الشمعتين المشتعلتين.

ظلت الملكة تبكى وتصلى حتى منتصف الليل . اطفأت بعد ذلك الشمعة وكسرت الشبابة لكيلا تسمع بعد الاغنية النائحة.

اشترك في نشرتنا البريدية