الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "المنهل"

الانتقام

Share

كانت الغابة المشتبكة الاشجار ، غارقة فى سبات عظيم ، وسكون رهيب لا يسمع فيها حس ، ولا ترى فيها حركة ، حتى داهمها الليل بظلامة الدامس فصارت تفد اليها وفود الوحوش ، قافلة الى ادغالها ، واسراب الطيور راجعة الى أوكارها من بعد ما حصلت على ما كتب لها من خير او شر ، فى هذا اليوم المنصرم . وما هى الا لحظة حتى ساد الصمت من جديد على الغابة ، فاختلط بالظلام . ثم حير هذا السكون هزيم الرعد ، واضاء هذا السواد الحالك اشراق البرق الخاطف ، ثم هطلت الامطار ، واسبلت السحب مياهها  . وفى هذه الساعة بدا على ضوء البرق شخص غريب عن هذه الغابة وسكانها ، ثيابه مبتلة بماء المطر ؛ وممزقة باشواك الشجر عاري الراس ، حافى القدمين ، ترجف جميع اعضائه من شدة البرد ، يسمع تارة عواء الذئاب فيلتفت يمينا ويسمع أخرى زئير الاسود فليتفت شمالا حالما يدوى الرعد ويلمح لبرق ويهطل المطر ، فيئس هذا المسكين من الحياة ، ولم يبق له الا ان يسلم نفسه الى مخالب هذه المنية التى تهدده فى كل آن  .. وجلس تحت شجرة واخرج من جيبه ظرفا صغيرا ، وقلبه بين يديه المرتجفتين ثم وضع عليه قبلة كانما ختمه بها وضمه الى صدره ، واخذ يكرر هذه العبارة ، بصوت خافت ضئيل : - الوداع ! الوداع أيتها الامال الكاذبة ! .. الوداع أيها الانتقام!..  الوداع ايها ! ....

ولم يكد يتم هذه العبارة حتى سقطت بجانبه صاعقة ، فاغمى عليه ...

ما كادت انوار الصباح تلوح ، حتى انجلت تلك السحب الكثيفة ورفعت أثقالها وأمسكت السماء ماءها ، وانقلب ذلك الجو الثائر باسما لطبقا فاخذت العصافير تنشد اناشيد الصباح وخرجت الوحوش من مكامنها ، وانبعثت قاصدة للجبال المجاورة لعملها اليومى ، وبدأ من بعيد فى طرف الغابة العم صلاح الدين صاحب المزارع الواسعة والبساتين الفسيحة ، المجاورة لهذه الغابة المخيفة وبدت وراءه ابنته (لميس)  ماسكة ببندقيتها ، تصطاد بها الفراخ الكسلى التى لا تزال الى هذه الساعة المتأخرة نائمة فوق اغصان الاشجار .

وكل من يعرف صلاح الدين من الاقارب والاصدقاء والخدمة والعمال يعرف ابنته ( لميس )  لمعرف ولوعها العظيم بالالعاب الرياضية ولا سيما ركوب الخيل والرماية ، مع انها لم تتجاوز السنة الحادية عشرة من عمرها .

فقدت لميس والدتها الحنون . وهي فى السنة الخامسة فوقف ابوها نفسه على تربيتها من فرط حبها وقد احسن تنشئتها وعلمها القراءة والكتابه ولم يرض بالاقتران بامرأة أخرى من اجلها برغم الحاح أخيه وذوية ، فنشأت (لميس)  فى الريف ، نشاءة قويمة ، فهي حرة على فطرتها وهي فى غاية البساطة ، لا تعرف من مفاسد التمدن الزابغ وقيوده شيئا ولا تحوى من الانوثة الا جمالها البديع وصوتها الموسيقى العذب .

وكان أبوها فى ذلك اليوم يلتفت نحوها بين كل برهة وأخرى قائلا :-

- لا تبتعدى يا بنية ؟ فاني أخشى أن يوجد هناك بعض الوحوش المفترسة فتجيبه لميس بابتسامة عذبة تلحقها بهذه الجملة :-

- طيب يا أبت ..

وان كانت هى لا تخشى الوحوش ، ولا تهاب السباع ، مهما كانت فتاكة ، ولا سيما إذا كانت متسلحة .

ونسيت لميس نصيحة أبيها ، وتعمقت في جوف الغابة ، لاحقة عصفورا ، كانت كلما صوبت بندقيتها نحوه طار وحط فوق شجرة أخرى ، وهكذا من شجرة الى شجرة .. وأبت الصيادة العتيدة ، الاقتل هذا العصفور العنيد . وأخيرا وقع العصفور على الارض ، فصوبت لميس بندقيتها نحوه ...ولكن سرعان ما رفعت البندقية ، وأخذت تتأمل في الشئ العجيب الذي ظهرلها تحت شجرة أمامها .

أجثة حيوان هذه ? . . أم ماذا ?

تركت لميس قنيصها ، وأخذت تبحث عن هذا الاكتشاف العجيب ، فدنت منه قليلا ، وتأملته مليا ، واذا به جثة انسان ملقاة على الارض . . وهنا عادت مسرعة الى أبيها ونادته :-

يا أبتاه !! .. يا أبتاه !!

وأقبل والدها اليها ، يعدو كالظليم ، برغم الستين عاما ، التى يحملها فوق كتفه وجاء يزأر كأنه أسد غضبان : -

لبيك يا بنية ! .... لبيك ! ...

ومن غير شك ان العم صلاح الدين ، كان ظن أن نداء ابنته له كان للاستغاثة جهة من حيوان يحاول افتراسها في الغابة ، ولهذا أقبل يعدو فى سرعة ( القطار السريع ) ولكن سرعان ما اطمان قلبه ، حيثما رآها واقفة على قدميها هادئة سالمة ؛ وعظم اندهاشه لما رأي جثة انسان مطروحة عند رجليها ، ملطخة هذه الجثة بالطين ، ممزقة الثياب ، ولا زال فى اندهاشه حتى استقبلته ابنته قائلة :-

وجدته يا أبت كما ترى ! تحت هذه الشجرة !!

واقترب الاب وابنته من الجنة ، واذا به يافع لم يطر شاربه ملقى ممسكا

باحدى يديه ظرفا صغيرا . وانحنى العم صلاح الدين على الفتى ، وجس قلبه ، فوجده يخفق فالتفت الى ابنته وقال :-

حى ! .. حى ! .. ولله الحمد .

فاخذت لميس الظرف ، وهمت بان تطلع على ما يحتويه ، لعلها تجد فيه ما يكشف الغطاء عن هذه الاسرار الغامضة ، فمنعها أبوها واشار لها بان لا تفعل ، ثم أخذه منها ، ووضعه بأسراره فى احد جيوب الغلام ، وقال لابنته :-

- أذهبى يالميس الى الدار ، وأحضرى لنا خادمين ، يحملان هذا المسكين !! فلم تحر لميس جوابا ، وانما أنطلقت مهرولة ، ومن حسن الحظ أنها وجدت فى اقرب مزرعة ، حذاء الغابة شخصين من العمال ، يصلحان فدادين الزرع التى خربتها أمطار الليلة البارحة ، فأخذتهما ، ورجعت بهما ، وما هى الى لحظة حتى نقلت تلك الجثة الى دار الفلاح . وأسعفت بالدواء اللازم .

كم كان اندهاش سعد عظيما ، حينما فتح عينيه ، فوجد نفسه فوق سرير فى غرفة فسيحة ، أثثت على الطراز القديم ، تطل على حديقة غناء ، وبجانبه فتاة جالسة فوق كرسى عادى ، مستغرقة ، فى مطالبة جريدة بيدها تظهر كأنها هي الممرضة ، ان كان هو مريضا وهذا مستشفى ! ..

ما هذا ? أيقظة هذه أم منام ? اليس اخر عهد له بهذه الحياة ، هو تلك اللحظة الناعسة التى سلم فيها نفسه الى مخالب المنون ، لتفتك به فى تلك الليلة الرهيبة ?!

وكيف لا يعظم اندهاشه ، وقد كان يظن انه سيستيقظ في قبره ، متوسدا التراب ، وما كان يخطر له على بال انه سيستيقظ فى هذه الحميلة الجميلة راقدا على هذا الفراش الوثير ، وبجانبه هذه الوجوه الصباح ! .. وعلى الاقل ما كان يظن أنه سيجد نفسه ملقى فى الغابة على الارض ، حيث عافه الموت واحتقرته الوحوش .

ومن يكون - يا ترى هذا الذى يهمه امره حتى يعتنى به هذا الاعتناء الكبير ؟! ولازال سعد في اندهاشه واضطرا به ، ولا زالت منشغلة بمطالعة صحيفتها ، ولا زال الصمت سائدا عليهما ، اذ سمعا صدى خطى ثابتة رصينة فى الغرفة المجاورة ، وكان هذا الصدى مألوفا عند هذه الفتاة فلم تغير من وضعيتها شيئا ولم تهتم به ألبتة ، واستثقل سعد هذا السكون ولم يعرف الطريقة التى يتخلص بها منه ، ولا الباب الذي يخرج به منه ! اينهض قائما فوق سريره كالمجنون ?  أم ينتظر أول فرصة ؟ . أم ماذا يفعل ? .

ورفع سعد بصره نحو الفتاه ، فوقع على عنوان ، بحروف ضخمة فى الجريدة التى بيدها فارتعدت له فرائصه ؛ وهو : " فرار تلميذ من كلية العلوم "  ولا زال سعد فى ارتباكه اذ ظهر على باب الغرفة شخص طويل القامة ، حسن الهندام ؛ برغم سنه المتقدمة ، فتقدم خطوات ؛ ثم قال بصوت لطيف : " السلام عليكم " فردت البنت السلام بهدوء ، ثم قامت من مقعدها ، قاصدة هذا الرجل ؛ فانحنى هذا لها ؛ فقبلته في جبينه ؛ ورسم هو قبلة حارة ؛ كلها عطف وحنان ؛ على جبين ابنته ونطق سائلا : -

كيف أصبح مريضك يا عزيزتى .

- طيبا ولله الحمد ؛ ولكنه يستيقظ حتى هذه الساعة على ما اظن ومشى الاثنان نحو المريض ؛ وانتصب هذا قاعدا فوق فراشه ؛  حيث وجد الفرصة المنتظرة ؛ والضالة المنشودة ، وبادره العم صلاح الدين ، وكأن قد أحس بحيرة سعد واضطرابه : -

- كن مطمئن البال ياولدي ! فهذا بيتك ، ونحن أصدقاؤك وأهلك واجابه سعد بصوت مرتبك ، بين الخجل والاندهاش : -

اني والله لخجلان جدا يا سيدي من لطفكم وكرمكم ، واجسد نفسي

عاجزا كل العجز عن مكافأتكم على ما عملتموه معى من خيروا كرام ، واني مدين لكم طول حياتي بانقاذكم لى من الموت ! .. فقاطعه مضيفه : -

- اننا لم نفعل - ياولدى - سوى واجبنا ، وانما الفضل فى انقاذك من الموت يرجع لمكتشفتك ، وهى ابنتى لميس . ( واشار باصبعه الى الفتاه بجانبه وهي مطأطئة الرأس خجلا )

قال سعد : إذا فانا مدين بحياتي للأ نسة لميس  . وانما ارجوك تخبرونى فى رأي مكان انا ؟ ومن حضراتكم ؟ وكيف حصل الى الشرف بوجودى بينكم ؟

قال الأب : انت ستعرف بعد لحظة كل شئ ، وانما اظن انك فى حاجة الى الطعام .. فلنتحدث اذا على المائدة !

وحقيقة ان سعدا كان فى غاية الجوع ، وكيف لا يكون كذلك وهو لم يذق طعاما منذ يومين ، ولهذا تخلى عن سريره بسرعة ، وقصد الثلاثة المائدة التى صفقت فوقها الذع انواع الطعام فى الغرفة المجاورة ..

من ادارة مجلة المنهل

اشترك في نشرتنا البريدية