قصة
قال الجد ، بصوت مرتعش ، يخاطب ابنته : - هل سمعت انت الصوت جيدا ؟
أجابت بتذمر: - نعم يا سيدى سمعته بنفسى ، سمعته باذني هذه ( وأمسكت بإحدى اذنيها ) مرة وثانية وثالثة.
سأل الجد وقد بان الشحوب على وجهه :
- وكان صوت بومة ؟ أجابت ، وهي تحرك بقايا الجمر فى الموقد ، بعصبية :
- نعم كان صوت بومة ؟
قال الجد : - ربما كان صوت ضفدع أو غراب
قالت بضيق : - بل كانت بومة ، وكان الصوت صوتها القبيح
فقل باضطراب : - هل أنت واثقه ؟
فانفجرت بصوت يشبه العويل : - ماذا دهاك الليلة ؟ أليس من الافضل لك أن تذهب للنوم ؟
صمت الجد ممتعضا ، فأنبرت الحفيدة موجهة الكلام الى أمها : - ألن ننتهى من هذا الحديث المزعج ؟
فقالت لها أمها بصوت خفيض كانها تبكى :
- لا يكف عن القاء الاسئلة ، وأنا على ما أنا عليه من الخوف والتشاؤم ، منذ وفاة المرحوم والدك وأنا خائفة ، وقد زادني نعيب البومة خوفا ، كانت واقفة على شجرة المشمش ، وقانا الله شرها ، ليت أخاك يعود باكرا من سهرته .
اشراب الجد بأذنيه وانحنى نحو حفيدته يسألها باهتمام : - ماذا قالت ؟ اليهود ؟ هل سيعودون الى الضرب الليلة ؟
قالت الحفيدة ، تطمئن جدها الشيخ وقد أخذها الاسى على حالته : - لا يا جدى ، تقول الاخبار بأن كل شئ قد انتهى
فقال لها الجد وقد ازداد وجهه شحوبا : - اذن ماذا يعنى صوت البومة ؟
ولم يحظ سؤاله بجواب ، فزاده الصمت قلقا ، ازدرد ريقه وقال : - كم بيتا هدم اليهود أول أمس ؟
قالت الحفيدة : ثلاثة بيوت فقط
عند ذلك قالت الأم لوالدها وهي تتكلف الابتسام : - صارت الساعة التاسعة ، يجب أن تذهب الى فراشك لترتاح
فقال الجد وهو يحاول النهوض : - لا حول ولا قوة الا بالله ، من أين يجيء النوم مع هذه الاحوال ؟ البومة نذير شؤم ، لعنها الله .
أسرعت الحفيدة لمساعدته على الوقوف ، رافقته الى غرفته ، وعندما استقر في فراشه اطفأت النور وعادت الى حيث تجلس أمها .
قالت الأم بعد برهة صمت قصيرة : - لقد تأخر أخوك بالعودة . .
قالت الابنة - لا خوف عليه ، انه يدرس مع رفاقه فى مكان أمين
فقالت الأم محتجة : - وهل بقى مكان أمين فى هذه البلدة ؟ قنابل اليهود مخيفة ، لقد قتلت امنة الحمصى وهى واقفة عند باب بيتها ، وقتل الشاب سمير ابن الحاج عبود الصفدى وهو يغادر سيارته ، فما معنى هذا كله ؟ ولماذا زارتنا البومة هذا المساء ؟
وبعد لحظة صمت استأنفت تسأل ابنتها - هل وضعت الغطاء على جدك جيدا
- نعم - هل وضعت ابريق الماء الى جانبه ؟ - نعم - هل استمعت الى الراديو ؟ . . ماذا تقول الاخبار ؟ - لا شئ مهما
فقالت الأم وهي ترتجف : - لا شئ . . لا شئ . . البيوت تدمر فوق ساكنيها والطائرات تروعنا فى كل وقت ، يجب أن نرحل ، الخوف يقصر العمر . . أشعر بوجع في خاصرتي ، انها الكلية سأذهب لانام ، انتظرى أخاك فربما كان جائعا ، سأنام فى غرفة جدك ، كان المسكين خائفا جدا ، ليتنى ما قسوت عليه
وغادرت الغرفة وهى تردد الدعوات الضارعة .
لم يكن الصباح قد أضاء جيدا ، ولكن بصيصا خفيفا من النور تسرب الى غرفة الجد الذى فتح عينيه المتعبتين ، وبدأ يتثبت من بقائه على قيد الحياة ، تبين شبح الخزانة الكبيرة مقابل سريره ، تطلع الى السرير الثاني ، ثمة شخص ينام فوقه ، مديده بحذر الى مكان الابريق ، تناوله ببطء ، شرب قليلا ، أحس ببرودة المآء فى جوفه ، ما زال حيا يرزق ، شر البومة لم يستهدفه بالذات .
وفى غمرة الهدوء الصباحى الخدر ، وبينما كان الجد يتناول المسبحة من تحت مخدته ، آنبعث صوت الام ، وهي تغادر سريرها ، تحمد الله وتشكره بصوت مستبشر ، أمام دهشة الجد وحيرته ، ثم تركت الغرفة دون ان تعيره أى انتباه ، وانطلقت الى حيث ينام ولداها تناديهما وتقبلهما ، وعندما تيقنت من أنهما يقظان ، قالت وهي ترفع يديها عاليا :
- الحمد الله ، ثم الحمد الله ، انتهى كل شى ، لقد زال شؤم البومة عنا جميعا وذهب الشر بعيدا ، فقد رايته ، رأيت المرحوم والدكما ، جاءنى ، رحمة الله عليه ، فى المنآم ، كان يرتدى ثوبا أبيض فضفاضا ، وعلى راسه طائر أخضر اللون ، لكن وجهه كان شاحبا ، قال ان القبر الذي وضعناه فيه ضيق وقصير لذلك بقيت وكبتاه مثنيتين ، يا حسرتى عليه ، لقد أخطأنا بحقه وظلمناه عندما قبلنا بدفنه فى قبر عتيق ، منذ أربعة شهور وهو يعاني الضيق فى قبره ، لم يكن نعيب البومة عبثا ، سأتي بالعمال اليوم ، سأنقله الى قبر جديد رحب لن يردنى عن ذلك شىء أبدا ولن أستشير الشيخ.
ولم تنتظر أية كلمة من ولديها ، بل انطلقت ترتدى ثيابها على عجل ، ثم أخذت بعض الدراهم وغادرت البيت.
واستمر صوت الجد ، منطلقا من غرفته ، يسأل ويستوضح دون أن يحظى بجواب .
(بيروت )
