ما زال ولن يزال من فوائد الرحلات أن يقتطف الرحالون ما نحسسوه وما لسموه اثناء رحلاتهم فى البلاد التى انتقلوا اليها وان يحملوا معهم ذلك لينشروه اذا ما عادوا الى اوطانهم فيفيد المواطنون من ذلك اقتباس ما فيه الخير لهم مما ليس لديهم وتجنب ما فيه الخسارة عليهم ان وجد لديهم . وعلى هذا النحو سانقل اليكم على متن الاثير صورا مما تحسسته ومقتطفات مما لمسته بمصر .
كانت بوادر التثقيف العام والتصنيع العام مكبوته في مصر الناهضة قبل عهد الاستقلال . وكان ابناؤها مع ذلك يعملون جاهدين للابقاء على التراث الثقافي والصناعي القديم واضافة ما يقتضى العصر الحديث اضافته وتحول دون ذلك فى اغلب الحالات قيود سدود موضوعة فى الطريق ولكن بعض الجهود ينجح نجاحا محدودا .. حتى انشئ بنك مصر وحتى تمكن بناة مصر المحدثون من ارتقاء اولى درجات الاستقلال بعد الحرب العالمية الاولى فلما وصلوا فى هذا الشأن الى ما وصلوا اليه بدأت متاعب التأخر العلمي والصناعي تظهر لهم واضحة . فوجه القادة والزعماء الهمم والافكار الى ضرورة بناء المجد العلمي والصناعي الوطني منذ ذلك الحين .
وقد زرت مصر لأول مرة قبل خمسة اعوام وجهرتني باشراقها العمرانى الضخم وادهشتني آثارها ومآثرها الخوالد وسرتني بالاسس المبنية لتعميم الثقافة والصناعة بين ابنائها واعجبتني جامعتها الحديثة وجامعها العتيق فتلك للعلم الحديث وهذا للعلم القديم ، نهضة بالمستقبل على اساس العلمين مترافدين ثم زرتها قبل عامين فاذا بها تتبدل وتتطور بسرعه .. ان التثقيف والتصنيع أصبحا مبدأين أساسيين لديها وحينما عدت الى الحجاز اذ ذاك سألني سائل : ماذا أعجبك من مصر ؟
فاجبته قائلا أعجبني فيها امران : الثقافة والصناعة ، والثقافة فى مصر قد أريد لها اليوم الشمول والعمق والاتساع وهى اذا نظرنا اليها من هذه الناحية نجدها لا تزال فى الخطوات الأولى أو الثانية . أما إذا نظرنا اليها من الناحية الفردية أو شبه الجماعة فاننا نجدها قد بلغت الذروة أو كادت ، ففي مصر طائفة وطوائف من البارعين فى العلوم والفنون وفيها علماء عالميون فى علم الحياة والجماد والمعادن والدين ، وفيها أطباء عالميون اخترقت شهرتهم بلاد الغرب ودان لهم العالم بالتفوق وفيها مهندسون عالميون مشهود لهم بالنبوغ ولتقدم ، وفيها أدباء عالميون وناهيك بطه حسين وهيكل والعقاد واحمد أمين والزيات . وفيها صحفيون عالميون وناهيك بصاحب "المصرى" وغيره . حتى عالم الرياضة قد بلغت فيه مصر الاوج فهؤلاء سباحوها يبذون سباحي الغرب بقوة عضلاتهم فى اختراق بحر المانش وتفوقهم على سباحي العالم مرارا وتكرارا ، وفيها السياسيون اللامعون وفقهاء القانون الدوليون ، وغير هذا من صنوف المعرفة والثقافه ، وقد ظلت الجامعتان الازهرية والمصرية مصدر الاشعاع القوى لتكوين هؤلاء الرجال الابطال حتى بدأت مصر اليوم فى عصر التثقيف والتصنيع الواسع المدى فاذا بها لا تكتفى بالجامعتين واذا بها تضيف اليهما جامعات ومعاهد ، ولاشك أن بلادنا وهي فى مبدأ نهضتها الحاضرة فى حاجة ماسة الى التزود من العلم فى مختلف نواحيه وفروعه باعظم قسط وفي اسرع فرصة حتى نستطيع مواجهة مطالب الاستقلال العديدة وكما نستطيع التقدم مع ركب الحضارة الحثيث الخطى خصوصا وقد فتح الله لنا كنوز أرضنا فنحن فى حاجة الى استثمارها ونحن فى حاجة الى التنظيم والتقديم والتقويم ، والعلم هو النور الذى - فى ضوئه الوهاج - تعمل الافكار والسواعد ما يلزمها من استثمار وتنظيم وتقويم ، أما الصناعة الحديثة فقد شهدت مصر مولدها فى أوائل الربع الثاني من هذا القرن الهجرى ، وقد شب هذا الوليد اليوم وأصبح مشرق المحيا ، فمصر تسير بالصناعة فى جو مفعم بالأمل والرجاء وهي ترمى من ورائها الى استغلال مواردها الضخمة . والى كفاية بنيها مطالب العيش ، فما تقوم به الصناعة من تامين وسائل العيش للأفراد وللامم ، اعظم بكثير
مما تجنيه الزراعة والتجارة لهم . لأن ميدان الصناعة أرحب ولأنها تقدم باهرا فى الزراعة والتجارة كنتيجة لتقدمها فى الأمة .
وقد زاد الصناعة نشاطا على نشاط فى مصر اقبال عنصرين هامين من عناصر الأمة على تغذبتها وتكوينها وتنميتها على أساس قوى من العلم الميكانيكى والهندسى والمعدنى والادارى ، وأول هذين العنصرين هم طبقة الأثرياء ، فقد أعتق هؤلاء أموالهم من سجون خزائنهم الضخمة واقحموها ميدان النور وبادرت النخية النيرة منهم الى تاسيس شركات مساهمة عامة وخاصة وقد نجح اغلبها وكسب نجاحها ربحين عظيمين لهم ولامتهم على السواء .. فتضاعفت ثرواتهم واستعاد الشعب اموالهم بوساطة شركاتهم فى افراده وأسره وجمهوره بالعمل كعمال او كمساهمين أو كفنيين أو كمديرين وموظفين وبذلك بدأت أبواب الفقر الجماعي تغلق فى مصر بالتدريج ، وأصبحت المصانع والشركات المؤسسة موردا عاما من موارد الرزق لطبقات الشعب بومصدرا لتقدمه الاقتصادى ورفاهيته ، وضمانا للإنتاج والتصدير ، وبذلك تضخمت الثروة الفردية والعامة وأصبح انشاء المشروعات الضخمة لخير البلاد امرا سهلا ميسورا ، وبذلك أصبح ثراء البلاد فى البلاد ، وخيرانها منها ولها .
رأتني وأنا أدلف في أحد مماشى بنك مصر عجوز شمطاء فاستوقفتني وقالت لى : أرجوك أن تقرأ لى ما فى هذا الدفتر . فقرأته فاذا به أن لها رصيدا فى بنك مصر هو عشرون ألف جنيه مصرى فلما اطمانت الى مطابقة مالها وما لديها ورأتني مستكثرا هذا المبلغ قالت لى ما معناه : لا تستكثر هذا فسيبقى اغلبه فى البنك نفسه أساهم به فى بعض شركاته وساحتفظ باقله لميشتى ومعيشة البنات . وقد أعجبت بهذه الروح الشعبية العالية تبرز فى هذه العجوز الأمية الشمطاء واينما مشيت فى شوارع مصر تعثر بالشركات الخاصة والعامة . . ولقد سمعت قصة طريفة فى هذا الباب عن فلاح ساذج زار مصر لأول مرة وعاد الى قريته فسالوه : من هو أعظم شخصية فى مصر ؟ فاجابهم بسذاجة : لاشك أن اعجب القاهريين شخصية هو : (وشركاه) فان اسمه العظيم يحمله كل دكان وكل معرض وكل عمارة فى سائر شوارع مصر بدون استثناء . !
ويتمثل العنصر الثاني من عناصر نجاح التصنيع هنالك فى الشباب المثقفين الدين بدأوا ينتظمون حلقات فى منظمات الشركات الوطنية عازفين عن عالم الوظائف ذى القيود والسدود ، الى عالم الشركات الطليق الرحيب ، وقد سمعت من كثير من طلاب الجامعة المصريين انهم يترقبون يوم تخرجهم لينشئوا بانفسهم أعمالا حرة أو شركات وطنية تكبر تدريجيا أو لينتظموا فى سلك شركات وطنية كبيرة قائمة ليتدرجوا فيها الى أن يصبحوا مديرين لها أو خبراء أو مستشارين فنيين وبذلك تبرز مواهبهم وتكثر أرباحهم فى مدة وجيزة فان ما تقدمه الشركات لذويها فى العالم اليوم ليسيل له اللعاب وترمقه الأبصار وسبب ذلك انها شعبية انشئت لخير الشعب ورفاهيته وانها ذات أرباح طائلة ورؤس اموال باهظة فما عليها الا أن تغدق على من ينتجعها من أبناء الأمة الرواتب الضخمة المغرية لتكفل لنفسها دوام الرقى والازدهار وبذلك يتكر الفنيون ويخلص المديرون وينشط العاملون ويجددون
ويقوم ازدهار الصناعة على ثلاثة أعمدة هي ثروات الأغنياء التى تخرج من ظلمات الخزائن إلى آفاق الأعمال والمشروعات ؛ وسواعد الشبان وطموحهم العنيف ، وتفكير الفنيين والاداريين الرفيع .
فيحسن بنا أن نعنى بالغ العناية بانهاض العلم وتعميمه وان لا تدخر وسعا فى نشره وتعميقه وتوسعة ميادينه ، وأن نعنى كذلك بالغ العناية بانشاء الصناعة فى مدارسنا ومصانعنا وبرجالاتنا وان لا ندخر وسعا فى ذلك وأن لا نبخل عليهما بقليل ولا كثير فستؤتيان ثمارهما مضاعفة وسيحصلان لنا ارباحا طائلة وسيكونان لنا كالاجنحة للطائر إذا ما أراد التحليق أو إذا ما أردنا التحليق .
