الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "المنهل"

التربية الأجتماعية فى عهد الأسلام

Share

-٥-

المحاربون

الحروب التى كانت فى صدر الاسلام تتوقف معرفتها -  أهى حرب دفاع أم حرب عدوان - فهي معرفة اسبابها والغرض منها ، وهذا متوقف على درس طبيعة الاسلام ، وسياسته العاليه ، ومقاصده السامية . وقد فلت فى تفسير قواله تعالى (( قاتلوا وقتلوا )) كلما من محاضرة ، نشرتها مجلة التربية والتعليم أو المعلمون والمعلمات ، جاء فيها : القتل : منه ماهو حسم لمادة الفساد ، وضمان لحياة الأفراد ، كقتل القصاص (( ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب))  ومنه ما هو غرامى أو جنائي كقتل الانتحار ، والتردى من فوق الجبال ، والقاء النفس فى أعمق البحار ، و كقتل الاخذ بالثأر ، أو الاعتداء ، وحوادثه في الصحف اليومية ، وفي المسارح العمومية ؛ ودور السينما الصامتة والناطقة ، لا تحصى كثرة ، أما فعل هذه المشاهد في الاخلاق فكفعل الجراثيم فى الأجساد ، أو أشد ومن أنواع القتال ماهو طمع وجشع ، أو استعباد وإستذلال . وأما الإقتتال الجاهلي قبل الاسلام ، فهو حروب أهلية داخلية ، فيه إضعاف للأمة ، وتفريق لوحدتها ، وهدقواها ، ومنهم من كان يصرح بأنه يشهد الوغى لا لغرض سوى شهود اللذات ، أو ليأس من الحياة كقول طرفة في معلقته

ألا أيهذا الزاجرى أخضر الوغي   وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

فان كنت لانسطيع دفع منيتى     فدعني أبادرها بما ملكت يدي

وأبن هذه الأهداف القصرة أو الخاسرة ، من الهدف الاسلامي الأسمى فى القتال ، وهو الجهاد لأعلاء كلمة الله ، أى لنصرة الحق على الباطل ، والفضيلة

على الرذيلة ، والتوحيد على الوثنية ، ويؤيد ذلك قوله تعالى خطاباً للمؤمنين ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة ، فائبتوا واذكر الله كثيراً لعلكم تفلحون )) فالثبات من أسباب النصر والظفر ، وذكرالله قوة معنوية تثبت القلوب من جهة ، وتبعث فيها الرحمه ، من ناحية أخرى ، فالذا كر لله لايقاتل ابتداء ولا اعتداء ، ولا يقاتل من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى ، ومن ألقى السلام وكف عن الحرب ، وإذا فالقتال مشروع في الاسلام للدفاع عن الأنفس والأوطان ، ولحماية الارشاد والدعوة ، لالاقامة الدين بالسيف والقوة كما يظن الغر الجاهل ، أو يقول العدو المتحامل ، وذكر الله هو الذى جعل العرب أعدل الأمم وأرحمهم ، كما قال فيلسوف التاريخ كوستاف لوبون ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب " قال بعض الأعلام : من تصفح القرآن وجده يتضمن تعاليم روحية ، وتعاليم زمنية ، منها ما يمارس وقت السلم ، ومنها ما يراعي حين الحرب ، ولكن ترتيب هذه التعاليم في القرآن ليس على نسق ترتيب موادا لقوانين الوضعية ، وإنما روعى فيه أسلوب آخر ، منظور فيه إلى كيفية طروء الحوادث ، وتجدد الوقائع ، والاعتبارات تشريعية أخرى . فاذ لاحظتم أن للدين الاسلاى وجهة حربية مادية حكمتم بالضرورة أن لها طبيعة تلائم هذه الحالة مثل تقوية الرابطة بين المسلمين ، وحثهم على الانكماش فى مقاومة عدوهم ، وعدم الاثتمام للمخالفين ، وإساءة الظن بهم ، والتعزز عليهم أحيانا ، في نظير ذلك مما تستدعيه حالة المحاجزة والمناجزة ، وكما كان لهذه الحالة المادية طبيعتها ، كان أيضاً للحالة الروحية طبيعتها ولحالة السلم طبيعتها من مثل التواد والتراحم والتناصف وحسن المعاملة ، ولين العشرة ، وتبادل الثقة بين المسلمين وغيرهم ، لأجل أن تصان المصالح القومية وتجتلب المنافع العمومية .

" الاسلام علم أتباعه فى غير وقت الحرب ، أن يكونوا ملائكة خير وطهر وإخلاص ، وفضيلة ، وأمانة ، حسبك أن تكون كلة السلام شعارهم الخاص فيحيى بعضهم بعضا بها كلما اجتمعوا أو تفرقوا أو تلاقوا ، وماذاك إلا لأجل

أن يكون للسلام المنزلة العليا في بلادهم ، والتأثير العميق في نفوسهم .

وبعد تقرير هذه القواعد وإسنادها إلى اصولها ، يجب أن نلقى نظرة عامة على حالة التربية الاجتماعية في هذا العصر وقبله بعصور ، فعندها يتضح الناظر أن ضعف هذه التربية ناشئ عن عدم تطبيق هذه القواعد والأصول ، ويحسن بنا في هذا المقام أن نختم الكلام بكلمة لحكيم رباني يوجه بها هذه الأمة العربية إلى هدفها الأسمى ، وسعادتها العظمى فيقول :

لا أطيل عليك بحثا ، ولا أذهب بك فى مجالات بعيدة من البيان ولكنى استلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب ووسيلة تحيط بالوسائل ، أرسل طرفك إلى نشأة الأمة التى خمات بعد النباهة ، وضعفت بعد القوة ، واسترقت بعد السيادة ، وضيعت بعد المنعة ، وتبين أسباب نهوضها الأول .

حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل ، فقد يكون ما جمع كلمتها وأنهض همم آحادها ، ولحم ما بين أفرادها ، وصعديها إلى مكانة تشرف منها على رؤوس الأمم وتسوسهم وهي في مقامها بدقيق حكمتها - إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد ، شامل لأنواع الحكم ، باعث على الألفة ، داع إلى المحبة ، مترك للنفوس ، مطهر للقلوب من أدران الخسائس ، منور للعقول باشراق الحق من مطالع قضاياه ، كافل لكل ما يحتاج اليه الانسان من اجتماعات البشرية ، وحافظ وجودها ، وينادى بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية . فان كانت هذه شرعتها ، ولها وردت وعنها صدرت ، فما تراه من عارض خللها وهبوطها عن مكانتها ، إنما يكون من طرح تلك الأصول ، ونبذها ظهريا ، وحدوث بدع ليست منها فى شىء أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة ، وأعرضوا عما يرشد اليه الدين ، وعما أتى لأجله ، وما أعدته الحكمة الالهية له ، حتى لم يبق منه إلا أسماء تذكر ، وعبارات تقرأ ، فتكون هذه المحدثات حجاباً بين الأمة وبين الحق الذى تشعر بندائه احيانا بين جوانحها . فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها ، والأخذ باحكامه على ما كان في بدايته ، وإرشاد العامة بمواعظة الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الاخلاق وإيقاد نيران

الغيرة ، وجمع الكلمة ؛ وبيع الأرواح لشرف الأمة ، لأن جرثومة الدين متأصله فى النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة ، والقلوب مطمئنة اليه ، وفى زواياها نور خفي من محبة ، فلا يحتاج القائم باحياء الأمة إلا الى نفخة واحدة يسرى نفثها فى جميع الأرواح لأقرب وقت ، فاذا قاموا لشئونهم ، ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم ، وجعلوا أصول دينهم الحقة نصب اعينهم ، فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الانسانى .

ومن طلب إصلاح أمة شانها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه ، فقد ركب بها شططا ، وجعل النهاية بداية ، وانعكست التربية ، وخالف فيها نظام الوجود فينعكس عليه القصد ، ولا يزيد الامة الا نحساً ، ولا يكسبها الا تعساً .

هل تعجب أيها ) السامع ( من قول : ان الأصول الدينية الحقة المبرآة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد ، وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة ، وتبعتها على اقتناء الفضائل ، وتوسع دائرة المعارف ، وتنتهي بها الى أقصى غاية فى المدنية ؟ إن عجبت ان عجبي من عجبك أشد . هل نسيت تاريخ الامة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات ، واتبان الدنايا والمنكرات حتى اذا جاءها الدين فوحدها ، وقواها وهذبها ، ونور عقرولها ، وقوم أخلاقها ، وسدد احكامها ، فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل والانصاف وقد شهد لنا بذلك فيلسوف من أعلم مؤرخى الأوربيين ، وأصدقهم لهجة وهو ) كوستاف لوبون ( حيث قال : ما وجد التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب وقد نبهتها شريعتها وآيات دينها الى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدينتها فى التمسك باصول دينها .

اشترك في نشرتنا البريدية