التأثير الحضارى المتبادل بين الشرق والغرب كاد ان يكون بديهيا لدى الباحثين المنصفين الذين بحثوا عن الحقيقة وتجردوا عن الحمية والتعصب وتحلوا بالنزاهة العلمية وهي سمة الراسخ فى المعرفة الذى لا تعبث بآرائه الاهواء ولا يجد التحيز الى آفاق تفكيره النقى سبيلا لا سيما إذا كانت الادلة واضحة والبراهين نيرة لا تقبل طعنا ولا جدالا . وقد يتعذر علينا ان نحد بطريقة علمية الاطوار التى تأثر فيها الغرب بالحضارة العربية الاسلامية كمعرفتنا للاطوار التى تأثرنا فيها بالغرب لقرب عهد حضارته الحديثة فى تاريخ العمران ولكننا نجزم بدون تردد ولا شك بأن مشعل المعرفة الوهاج الذى لا يحتجب بمكان الا ويتالق ويشع بغيره توارى عن آفاقنا عندما زهدنا فى منعشاته وتغافلنا عن العناية بامداده والانتفاع ببذوره المنبثة فى تراث حضار القديمة باقتناعنا بالدون ورضانا بالعيش فى الظلمة الحالكة واستســـــلمنا وتخاذلنا وتراجعنا واهمالناحتى اصبحنافى القرون الاخيرة لا نهتدى ولا نعى ولا نعمل ولا نثور ولا نجدد ولا ننتقض ولا ننقض غبار الخمول ولا نفكر فى حال ولا فى مآل وعشش الجهل وفرخ فى الادمغة واصبحنا وما بالعهد من قدم نجهل الماضى المجيد وننكر ان يكون لنا فى الحضارة عمل يذكر او امر ذو أهمية يصح الاعتماد عليه والاستناد اليه لا سيما عندما كره الينا المستعمر ذلك الماضي وحاول بجميع قواه ان يضرب بيننا وبينه سورا حديديا ، مع ان الاقدمين من اسلافنا كانوا على العكس من ذلك فما اطمأنوا لظلمة ولااقتنعوا بالتقليد ولا عكفوا على الجهالة ولا رضوا بالدون من الحياة واننا لنعجب عندما نمس بذور التقدم ونجد نواة الرقى مدفونة فى تراثهم الحضارى كيف تاخر الخلف منا ورضى لنفسه المهانة والصغار والاستبعاد قرونا وظل منهارا ومتخلفا ؟ بينما ركب الوجود الحضارى الحديث فى المدنية الغربية كان يمر ويملأ الكون ضجيجيا وعجيجا والحياة تتحرك بلا فتور وتبسم للعاملين والدنيا تخدم ركابهم ومشعل المعرفة يتلألأ فى آفاقهم وهم مجدون كادحون مبتكرون مكتشفون . وهنا مناط الغرابة فكيف تناسينا وكيف تراجعنا بعد ان كانت حضارتنا اول حضارة في العالم شجعت الفكر وخلقت التوجيه واسلافنا كما جاء فى الطبقات الكبرى ( 1 ) هم اول من بني المدارس وابتاع الكتب باوفر
الاثمان واجروا الجرايات لحفاظها وخزانها واول من اعان وشجع طلبة المعرفة على الوصول الى رغباتهم وقد جاء فى ترجمة حجة الاسلام أبى حامد الغزالي ان والده لما حضرته الوفاة اوصى به وباخيه احمد الى صديق له متصوف من اهل الخير وقال له : ان لى لتاسفا عظيما على عدم تعلم الخط واننى لفى شوق الى استدراك ما فاتنى فى ولدى هذين فعلهما ولا عليك ان تنفذ فى ذلك جميع ما اخلفه لهما فلما مات اقبل الصوفى على تعليمهما الى ان فنى ذلك النزر ليسير الذى كان خلفه لهما أبوهما وتعذر على الصوفى القيام بقوتهما فقال لهما اعلما انى قد انفقت عليكما ما كان لكما وانا رجل من الفقر والتجريد بحيث لامال لى فاواسيكما به واصلح وما ارى لكما الا ان تلجأ الى مدرسة فانكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما ففعلا ذلك وتوجها الى بغداد وكان هو السبب فى سعادتهما وعلو درجتهما وكان الغزالى يحكى هذا ويقول : طلبنا العلم لغير الله فابى ان يكون الا لله اهـ.وهذا النص الذى ترويه الطبقات يبرهن على عناية فياضة بتشجيع الفكر واعانة رجاله . والواقع ان سعادة الغزالي المعبر عنها فى النص ليست سعادة له وانما هى نجاح للفكر وسعادة للعقل وخدمة للمعرفة باعداد العباقرة لها وتكوين رجل كالغزالى الذى ملأ الدنيا انتاجا وعملا صالحا ليس بالامر الهين لولا الحضارة الاسلامية وشعورها بالواجب نحو تشجيع هؤلاء الرجال بتقديم سائر المساعدات التى نعينهم وتغيهم بالتهافت على طلب المعرفة وتلجئهم الى ذلك بواسطة هذا التشجيع . ولو انعدمت تلكم العناية ما اقتعد الغزالى ذروة المجد العلمى ولاعد من اساطين العلماء ولا ردد تاريخ الفكر الاسلامى صدى تلكم العظمة ,
وكان هناك شئ اروع من هذا كان العالم اذا بلغ درجة التبريز فى المعرفة وآن له ان ينفع غيره يحف به رجال الفكر ويطلبون منه بالحاح أن يحتفلوا به تنويها بمكانته العلمية واعترافا بنبوغه عادة كانت معروفة عندهم فى ذلك تناساها الناس فيما بعد عند اعراضهم عن المعرفة واهمال شانها وشان رجالها وفعلا احتفل بالغزالي تلاميذه عندما عين عميدا لتلكم الجامعة ( 1 ) .
اما التوجيه وتكوين الاطارات الفنية بالمعنى المتعارف اليوم فى الحضارة الحديثة فقد عرفته حضارتنا القديمة معرفة علمية مدققة ان لم نقل انها سبقت به الدنيا واول من وضحه بطريقة علمية دقيقة الامام ابو اسحاق ابراهيم بن موسى اللخمى الغرناطى المتوفى سنة 790 ه فى كتابه الموافقات . وانك لتعجب عندما تطالع اراءه التى انبثقت عنه فى القرون الوسطى الاسلامية عندما
فلت شمس المعرفة واحتجبت واخذت الحالة تسوء فكان الشاطبى كابن خلدون تالق نجمها فى آفاق هيمن عليها الظلام واكتسحها الجهل فلم ينتفع بارائهما القيمة وتفكيرهما السديد وفتوحاتهما العلمية .
(2 ) عالج ابو اسحاق فى جد موضوع التوجيه العلمي قائلا لرجال التربية علموا وان كان كل واحد قد غرز فيه التصوف الكلى فلا بد فى غالب العادة من غلبة البعض عليه فيتعين على الناظرين فى هذا الصدد الالتفات الى تلك الجهات فيراعون الطلاب بحسبها ويراعونهم ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال اليه من تلك الخطط ثم يخلى بينهم وبين اهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من اهلها اذا صارت اليهم كالاوصاف الفطرية والمذكرات الضرورية فعند ذلك يحصل الانتفاع وتظهر نتيجة تلك التربية فاذا فرض مثلا واحد من الصبيان ظهر عليه حسن ادراك وجودة فهم ووفور حفظ لما يسمع وان كان مشاركا في غير ذلك من الاوصاف ميل به نحو ذلك القصد وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعد وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم ولا بد ان يمال منها الى بعض فيؤخذ : ويعان عليه فاذا دخل فى ذلك البعض فمال به طبعه اليه على الخصوص واحبه كثر من غيره ترك وما احب وخص باهله فوجب عليهم انهضه فيه حتى ياخذ منه ما قدر له من غير اهمال له ولا ترك لمراعاته وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وصف الاقدام والشجاعة وتدبير الامور فيمال به نحو ذلك ويعلم آدابه المشتركة ثم يصاربه الى ما هو الاولى فالاولى من صنائع التدبير كالعرافه او النقابة او الهداية او الامامة وغير ذلك مما يليق به وما ظهر له فيه نهوظ ونجابة وبذلك يتربى لكل فعل هو فرض كفاية قوم وان كان به قوة زاد فى السير الى ان يصل الى اقصى العنايات فى المفروضات الكفائية وفى التى يندر ان يصل اليها ، كالاجتهاد فى الشريعة والامارة وبذلك تستقيم احوال الدنيا واعمال الآخرة اهـ. وايم الحق ان هذا الاستاذ المسلم الضليع قد قرر من الحقائق العلمية فى بناء الحضارات وتكوين الاطارات ما يسمح بانشاء حضارة شامخ وهكل اجتماعي خطير وتوصل فى بحوثه فى القرون الوسطى الى ما لا يخطر ببال أئمة التربية والتوجيه والتكوين الا فى اثناء العصر الحديث .
وانا اناشدكم اليه ليست هذه البذور المنبثة فى تراث الفكر الاسلامى جديرة بالصقل والبعث من جديد والعرض ولكننا اهملناها وانتفع بها غيرنا .
