الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

التعريب ارادة وولاء،

Share

يدور هذه الايام نقاش طويل وفى مختلف المستويات ، حول ما يمكن أن يسمى بـ " قضية التعريب " .

وهو يجرى بأساليب جديدة تميزت بالاهتمام البالغ والحوار المتزن والحرص الشديد على الوصول الى نتيجة حاسمة فى اقرب الآجال .

ولا شك ان وجود هذا النقاش ، وتحمس المواطنين له ، ودوامه فترة طويلة يدل على ان وعى المواطن بقضاياه الحيوية قد تطور الى حد التشبث بها والمثابرة على بحثها سعيا منه للوصول الى حلول عملية لها .

والواقع ان التعريب ليس قضية حيوية فقط ، بل قضية مصيرية وموقف فاصل بين الكيان وبين اللاكيان ، بين الذاتية الخاصة والشخصية المميزة أو الذوبان والتلاشى فى كيان آخر ، وشخصية اخرى .

وبعبارة مختصرة ، هى : ان نكون او لا نكون !

ان نكون شعبا له تاريخه الخاص ، وقوميته الخاصة وذاتيته المنفصلة عن غيرها من الذاتيات ، بكل ما يعنيه ذلك من حضارة ولغة ومثل عليا فى الحياة .

وعلى هذا فان التعريب هو الطابع الذي يميز كياننا عن غيره ، وهو - فى نفس الوقت - الروح التى تلهم حياتنا ، وتثير نخوتنا ، وتربص أجيالنا على حب الوطن ، والاعتزاز بتراثه وحضارته ، وتاريخه ، وبالتالى تهيب بهم الى الاسهام فى بناء الحضارة وتقدم الانسان .

ولا يعنى هذا قط الانغلاق عن العالم الخارجى ، وانما يعنى الانفتاح والعطاء بدون مركبات ولا شعور بالضعف او الحقارة تجاه شعوب تتميز اليوم بشتى مظاهر التقدم المادى والعلمى ، وما كان لها ذلك منذ الازل ، ولن يكون لها ذلك الى الابد .

وهذه الحقيقة الخالدة تثير فينا الانتباه الى حقائق اعظم اهمية واشد عمقا ؛ وفى طلبتها - دون ريب - ان هذه الشعوب المتقدمة بلغاتها اليوم ، وتلك الأمم التى كانت بالامس متقدمة غيرها بحضارتها او لغتها ، انما كان لها ذلك ، ويكون لغيرها ايضا ، بسبب واحد ، هو انها ذات سيادة قومية تامة ، او ذات سلطان سياسى على غيرها .

فالرومان مثلا ، قد كانوا أمة متخلفة جدا عن اليونان فى اللغة والحضارة والعلوم ، ولكن حين تمكنت روما من بسط سلطانها على أثينا ، اخذت علومها وحضارتها ، ولم تأخذ لغتها ؛ ولو ان روما استعارت لغة اليونان وتركت لغتها لما وجد فى التاريخ حضارة الرومان ولا أمتهم أو تاريخهم .

وفى القرون الوسطى ، اخذت أمم أروبا علوم العرب وكتب العرب وطب العرب وصناعة العرب ، ولكنها لم تأخذ لغتهم ولم تجعل منها لغة الادارة والحديث والتعليم . ومثل هذا يقال عن الشعب اليابانى الذى اصبح اليوم ينافس فى ميادين العلوم والصناعة والتقدم الفنى لا فى فرنسا او المانيا فحسب بل امريكا وروسيا ايضا ومع ذلك لا يمكن ان يدعى احد بان اليابان قد هجر لغته او تنكر لها او استعمل غيرها فى حياته .

والاعمق والاشد من ذلك دلالة وغرابة هو ان " اسرائيل " التى تجمع أشتاتا من جميع الشعوب ، لم يكونوا قط يعرفون اللغة العبرية ولا كانت العبرية إلى عهد قريب حدا ، لغة كلام أو تعليم أو إدارة ، بل كانت لغة صلاة لا يعرفها الا أحبار البيع ، وأفراد قليلون جدا من اليهود ، ومع ذلك فهى اليوم لغة اسرائيل الرسمية ، ليس فى دستورها أو بعض جرائدها ، وانما ف جميع مصانعها ومعاهدها وفي اداراتها وجيوشها !

مع العلم بان اللغة العبرية هى لغة ثلاثية مثل العربية وكانت منعزلة تماما عن الحياة منذ ثلاثة آلاف سنة ، ولم تكن لها أية صلة بالادارة أو العلم أو الحياة طوال هذه الآلاف من السنين . بل ان علماء اللغات السامية ، ما زالوا يعتبرونها دون العربية فى عدد مفرداتها ، وفى تطورها ، وبالخصوص فى فقرها من المصطلحات العلمية والفنية والحياتية .

فكيف أمكن لها إذن أن تكون لغة الفيزياء والفلسفة والذرة والطب فى القرن العشرين ، ولا يمكن للعربية - المتطورة والمتقدمة عليها جدا - أن تكون كذلك فى بلاد الناطقين بها ولد المنتسبين اليها ؟ !

الجواب عن هذا السؤال يكمن فى أمر بن هما : الارادة والولاء ، الولاء للذات القومية بكل عناصرها ، والارادة الصارمة على حماية الذات القومية والنهوض بها مهما كانت الصعوبات وكانت المشاكل .

فهل نملك نحن اليوم تلك الارادة وذلك الولاء ؟

أجل ! ان قضيه التعريب هى فى جوهرها قضية ولاء وارادة ، قبل ان تكون قضية امكانيات مادية أو معنوية ، ولا مسألة مصطلحات فنية أو علمية .

ذلك ان جميع المشاكل وكل الصعوبات فى استطاعة الانسان فى اى موضوع وفى اى لغة ان يذلل الصعوبات ويجد الحلول الملائمة للمشاكل ، ولا يحتاج فى كل أمر وفى كل مجابهة الا الى الولاء الصادق والارادة الحقيقية فحيثما توفر هذان الشرطان امكن - بكل يسر - التغلب على جميع العوائق واقتحام كافة العراقيل . وهذا ما دعانى الى السؤال : هل عندنا - تلك الارادة وفينا ذلك الولاء ؟

لقد رأينا أمة اليابان - على ما فى لغتها من تعقيد وصعوبات متناهية الخطورة ، فى كتابتها بالخصوص - رأيناها تقتحم بلغتها علوم الفيزياء والفضاء وكل ميادين التكنولوجيا الحديثة . . وما كانت لتفعل ذلك لو لم يكن فى ابنائها ارادة حازمة وولاء مكين نحو لغتهم ونحو وطنهم الذى بدون تلك اللغة لن يكون وطنا يابانيا .

ما قلناه عن اليابان يمكننا ان نقول اكثر منه ؛ عن تركيا الحديثة ، حيث كانت اللغة فى عهد آل عثمان لغة تركية مجازا لا حقيقة ؛ ذلك ان اكثر من نصف ألفاظها ومفرداتها كان عربيا ، كما كان فيها نصب آخر من ألفاظ لغات أخرى شرقية وغربية بل ان حروف كتابتها كانت هى الحروف العربية ، ومع ذلك استطاع أتاتورك ان يحدث فيها انقلابا وان ينهض بها ويطورها دون ان يفرط فيها او يتخلى عنها . ولقد كان من السهل عليه ان يتبنى لغة أوربية  حديثة ، وان يفرضها بواسطة الادارة والتعليم على ابناء قومه ، لا سيما وانها من اصل آرى يجعلهم أقرب للغات والعناصر الاوربية منهم الى اللغات والعناصر السامية . . ولكنه لم يفعل ، لانه كان يعلم ان ذلك معناه القضاء التام على الكيان القومى والشخصية الوطنية ، وان ذلك سينتهى بالشعب التركى الى ان يفقد كل خصائصه وجميع مميزاته ، وان الشئ الوحيد الذى يمكن ان ببقى له فى آخر الامر انما هو تراب الوطن ! ؟

وبصرف النظر عن النواحى السلبية والايجابية فى طورنة اللغة التركية ، فان ما يعنينا من هذه التجربة انما هو منزعها القومى وروحها الوطنية ، فالاتراك قد فضلوا ان يتمسكوا بلغتهم - رغم ما هى عليه من اوضاع وألفاظ وحروف مستعارة - عن ان يستعيروا لغة أجنبية كاملة ، لا يرتبط بها تاريخ أمتهم ولا تتصل بحياتهم او تحمل طابع شخصيتهم .

وكمثل الاتراك نجد جميع الامم الاوروبية ، غربية كانت أو شرقية ، فكل أمة ناهضة متقدمة من أمم أوربا ، قد قامت نهضتها قبل كل شئ على نهضة لغتها واحيائها لتراثها وآدابها ، وتطويعها للتعبير بها عن تطورها وعن كل ما طمحت اليه من اهداف فى الحياة .

ومن يتعمق اليوم تاريخ الشعوب قديمها وحديثها ، يستخلص عبرا وحقائق كثيرة ، فى طليعتها - دون ريب - ان كل شعب استطاع ان ينهض وان يسود نفسه ، وان يحافظ على كيانه ووحدته انما كان اساسه فى كل ذلك هو حفاظه على لغته وتمسكه بها واعتزازه باستعمالها فى كافة المجالات . وعلى العكس من هذا ، فان كل شعب استهان بلغته ، وفرط فيها أو خلط بينها وبين غيرها قد كان مصيره الزوال والاضمحلال.

والواقع ان القضية ليست قضية لغة ، بل قضية شعور قومى ؛ فاللغة مهما كانت قاصرة أو محدودة التراث ، يمكنها ان تتطور وان تصبح لغة حياة وعلم وآداب اذا توفر لها شعور قومى وسيادة وطنية .

واللغة العربية - كما يشهد تاريخها الفكرى والحضارى ، وكما يشهد لها علماء اللغات الاوروبيون اليوم ، ليست فى مستوى اللغات الميتة أو القاصرة ، بل هى فى مستوى اى لغة من لغات العالم الكبرى ، ولها رصيد هائل من الالفاظ ومن المصطلحات العلمية الدقيقة ، وهي الى ذلك لغة أدب وحياة لاكثر من مائة مليون شخص ، ولغة دين لاكثر من سبعمائة مليون مسلم ، ولغة كتابة لاكثر من ثلاثمائة مليون انسان . يضاف الى هذا كله ان جميع الناطقين بها يتمتعون باستقلالهم السياسى وسيادتهم الوطنية ، وهم - لهذا كله - يملكون الارادة وجميع الوسائل لاحترام لغتهم وجعلها لا لغتهم فى التعليم والادارة والبحث العلمى فقط ، بل احدى لغات العالم الكبرى فى المحافل الدولية .

واذا كانت فيها مشاكل او صعوبات فى اى مجال فان الذنب ليس ذنبها

بل ذنب الذين لا يعتزون بها ويعملون على احلال غيرها محلها حتى فى أحاديثهم التافهة وأعمالهم الكتابية الصغيرة .

ان اللغة هى العنصر الاساسى لكل شخصية سليمة ولكل ذات قومية ... والذين يزعمون انهم تونسيون مع اعتزازهم بلغة اخرى واستعمالهم لها فى جميع شؤونهم انما هم يغالطون انفسهم قبل كل شئ

ذلك ان اللغة القومية هى الرابطة العظمى التى تربط الإنسان بوطنه وقومه ، وتجعل منه مواطنا صادق الولاء لكل ما يتصل بوطنه ، فان فقد انتسابه اللغوى ، يصبح مرتزقا يتظاهر بالوطنية حيث يجد فى ذلك رغد العيش ومنافع الادعاء .

وبطبيعة الحال فان اعتزاز المواطن بلغته القومية وما يقتضيه هذا الاعتزاز من استخدامها فى جميع الميادين ، لا يعنى مطلقا اهمال اللغات الاجنبية - كلغات أجنبية - وانما يعنى اعطاء اللغة القومية المقام الاول ، والعمل على النهوض بها واستخدامها فى جميع المجالات ، وحل مشاكلها وتذليل صعوباتها ؛ حتى تصل - فى أقرب الآجال - الى مستوى التقدم العصرى الذى نطمح اليه ، والذى وصلت اليه لغات اخرى لم تكن - حين بدأت تنهض ، بل وحتى يومنا هذا - فى مستوى لغتنا القومية برصيدها اللغوى وماضيها العريق فى الحضارة والعلوم .

ولكن الارادة القومية المنبثقة عن ولاء قومى جارف ، هى وحدها التى صنعت وتصنع المعجزات .

اشترك في نشرتنا البريدية