من اهم المواضيع التي تحتل مكانة مرموقة فى ميادين الدراسات الاجتماعية المعاصرة تلك الظاهرة الاجتماعية المصطلح علي تسميتها بالتغير الاجتماعى او بالتغير الثقافي على ما يذهب اليه علماء كثر ممن يرون فى الظواهر الاجتماعية مجرد ظواهر ثقافية . ويتنوع التغير الاجتماعى هذا باختلاف العوامل التى دفعت اليه فان كانت مسبباته داخلية وبواعثه ذاتية مصدرها طبيعة المجتمع نفسه كان التغير هنا منعوتا بالتطور المستقل ؛ ومتى كان مبعث التغير تأثرات المجتمع بعوامل خارجية وتيارات حضارية عالمية كان التغير الاجتماعى فى هذه الحال انتشاريا اي سببه الانتشار الحضاري والتمازج الثقافي بين ثقافتين او عدة ثقافات .
وبما انه لا يعرف مجتمع انسانى ظل قراريا ابدا فان علماء الاجتماع والانتروبولجيا انتهوا الى اعتبار التغير الاجتماعى والحالة هذه عاملا من العوامل الدائمة لتطور الحضارة الانسانية فى اى صقع من أصقاع الدنيا . وياعتماد هذا المعتقد اتجه جمعهم منذ اوائل هذا القرن الى دراسة المجتمعات بدائيها ومدنيها تحدوهم فكرة السعى وراء تبين ديناميات التغير واسبابه ، كمه وكيفه ، دواعي سرعته وتوقفه ،
وعلى التجديد يقصد بدراسة ديناملة التغير البحث عن قوانين الانتشار الثقافى واجراء التجارب المتتالية لامتحان العقائد السحرية والدينية اذا ما اصطدمت بهذا السيل المتدفق من ظواهر الغزو الحضاري للمدنيات المعاصرة ، ومعرفة السبب الذي من اجله ينتشر بعض هذه الظواهر في حين يقف بعضها الآخر هكذا عاجزا عن الانتشار او قادرا عليه بدرجات تتفاوت قوة وضعفاء ومن اعلام مثل هذه الدراسات الحقلية للمجتمعات البدائية " راد كليف براون " زعيم المدرسة الانتروبولية البريطانية ولعل آراءه فى هذا الصدد معمول بها الى الدرجة التى اصبحت فيها مؤلفاته وآثاره العلمية من أمهات المصادر
لهواة هذه البحوث ومحترفيها . ومن اتباع مدرسته العالم الانتروبولجي الشهير " مالنفسكى " فقد اورد فى مقالاته تحديدا صائبا لموضوع التغير الاجتماعى هذا ، فهو
يحصره في كل ما قد يطرأ على المجتمع من تحول فى نظمه السياسية والعائلية ومن تحوير فى طريقة مواجهته للقوى الطبيعية ، وكذلك كل ما قد يطرأ على المعتقدات
واساليب المعرفة والفن والتعليم والقانون من تطور . كما يدخل في بوتقة هذا الموضوع نوع الآلات والادوات المستعملة فى الشغل وطريقة استخدام الاهالي لها وكذلك السلع والبضائع المستهلكة منهم تلك التى يقوم عليها الاقتصاد الاجتماعى للمنطقة موضع الدراسة .
وعلى العموم فإن المدارس الانتروبولجيه البريطانية منها والهولندية والالمانية وحتى الامريكية تتصف كلها بولوع شديد لدراسة التغير الاجتماعى فى كثير من الحضارات الاولية باواسط افريقيا وجنوب شرق آسيا ، وغرضها من هذا الاتجاه الاستفادة من مثل هذه الدراسات فى فهم طبيعة المجتمع بصفة عامة والاهتداء بالتالي الى تعقل مظاهر التغير في بعض أصقاع المجتمع الغربي الشبيهة بالبدائية مثل الارياف الاوروبية والبوادي التى تسيطر على الحياة فيها نظم اقتصادية بدائية والتي يرى في اجوائها الاجتماعية صورة قريبة من الحياة البدائية في تأثرها البالغ بنفوذ اواصر القرابة والآداب الشعبية . على انه والحق يقال نجد المؤسسات العلمية الاجتماعية ببريطانيا معدة من الوجهة العملية مؤسسات سياسية استعمارية اي ذات فائدة عملية للسياسة الاستعمارية البريطانية الى جانب فوائدها العلمية المجردة . ذلك لان بعثات هذه المؤسسات يحدوها غرض سياسي يتمثل في تمكين مديري وساسة المستعمرات البريطانية من التوجيهات المجدية فى ادارة المناطق التى تتناولها هذه البعثات بالدرس والتحليل . وفي هذا الصدد يفضح الدكتور على عيسى اشهر المعنيين بالدراسات الاجتماعية فى العالم العربى واحد اعلام الانتروبولحيا المعاصرة هذه النوايا التي تجافي الامانة العقلية والنزاهة العلمية عندما ذهب الى ان العالم الانتروبولجى الاوروبي سوا أكان هولنديا او انجلينريا ، فرنسيا او بلجيكيا فانه فى ما يكتب من بحوث ودراسات يتنازعه عاملان يحاول جهده التوفيق بينهما دون طائل فهو فى ما يكتب - على مايراه -
يحاول التوفيق بين حرصه على ان يفهم نفسية البدائى وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه
من جهة ، ومن أخرى عدم التشهير بالدول الاستعمارية التى تهيمن على هذه المجتمعات وعلى الأخص اذا عرفنا انه انما يخدم مؤسسة علمة تابعة للدولة المستعمرة التى ينتسب اليها . فكم مرة يلاحظ الباحث الانتروبولحى ان التغير الاجتماعي فى افريقيا الجنوبية مبعثه استغلال الاوروبى للافريقي وامتصاصه دمه لكى يحظى هذا الاوروبي فى بلاده الاصلية بطعام كاف وكساء واف بينما يحول المستعمرون دون رقى الزنوج ويمنعون ذلك بكل ما عندهم من قوة ؛ وكم مرة مثلا يرفض المستعمر البريطانى مؤازرة التقدم السياسى لهذه القبائل الافريقية والباحثون لا يجرؤون على مجاهرة قرائهم بهذه الحقيقة العلمية المجردة رغبة منهم في خدمة بلادهم حتى ولو كان ذلك بطمس الحقائق وبمجانبة المثل الخلقية للرسالة العلمية او هم لا يجرؤون خشية وتهيبا للسلطان السياسي الذي يدينون له بالتبعية باعتبارهم حملة جنسية عليهم واجبات المواطنة ومسؤولياتها الجسام التي تغل فرديتهم وتشل تلقائية اقلامهم ان لم نقل تفكيرهم
على ان الجرأة المطلوبة في ميادين مثل هذه البحوث قد لا نعدمها في جميع من تصدى لدرس المجتمعات البدائية المستعمرة فقد جاهر مالينفكسى الانتروبولجى البريطانى الشهير برأي سديد فى هذا المضمار : مؤداه ان واجب الانتروبولجى التجرد في ان يوضح للتجار والمبشرين من الاوروبيين الذين يوجدون بمناطق دراساته ما يحتاج اليه الاهالي من شؤون وما يكابدونه من الألام التى يسببها لهم الضغط والتعسف الاوروبي . ولقد انتهى مالينفسكى في بعض مقولاته الى ان مصير الشعوب الافريقية اصبح مخرنا نتيجة تعرضها للغزو الغربي رغم كل ما يدعيه الاوروبيون من نشر الحضارة الغربية ومنح البدائيين مزايا الحضارة الغربية ، او ما زعموه لانفسهم من مسؤولية الرجل الابيض في ترقية الانسانية المعذبة . . . فهو يذهب الى أن اي تغير اجتماعى في آية بيئة اجتماعية لا بد وأن تعتبر الحكومات داخلة فيه كعامل من بين العوامل الكثيرة التى تسببه وتفسره ، أي تسبب اتجاهه وسرعته أو تعلل عرقته واتآده
ذلك ان فكرة ومفهوم الحكومة في حد ذاته مقام على معنى التجريب : فالناس يعيشون ويتطورون تلقائيا الى ان تاتى حكومة تفرض عليهم قوانين ونظما يجوز ان
يكون بعضها غير مالوف من قبل غير ان عمل الحكومات هو دائما ، مراقبة مدى استجابة المواطنين لهذه القواقين والنظم الجديدة فنراها من حين لآخر تعدل وتبدل فيها حسب ما يتراءى لها من بشائر التوفيق او ملامح الاخفاق للتجارب التى تنحصر معظم مهماتها في اجرائها على الوسط الانساني الذي اوكل اليها السهر على مصالحه فى شتى السبل ، وبهذا المعنى فالحكومات معتبرة من عوامل التغير الاجتماعي نفسه وليست هي معدة كشئ خارجى عنه
وللتغير الاجتماعي زوايا كثيرة ، منها يقع تشخيصه وبها يقع حده ، فيذهب معظم الانتروبولجيين الى دراسته تارة بعنوان الميدان الاقتصادي فيقع تشخيص التغير في نظم التعامل الاقتصادي بين الفترتين المتلاحقتين وباي شئ تم هذا التغير وعلى اي صورة من صور التبادل والاتجار تم هذا التحول ، كما يقع التعرض فى هذا المضمار لفكرة رأس المال مثلا ولطرق النقل والصيد والزراعة ولوسائل هذه الحرف والمهارات ؛ وبصفة عامة يذكر الباحث هنا كيف تتطور اقتصاديات البلاد من عدم التخصص الى نظام التخصص بانواعه المختلفة . وتارة اخرى يتناول الباحث الانتروبولجى دراسة التغير الاجتماعي بعنوان الميدان السياسى فيحاول الوقوف على وسائل الحكم وتبين الوحدات السياسية او انواع الزعامات وأساس هذه الزعامات من الوجهة العقائدية وطبيعة الصلة التى تربط الحاكم بالمحكوم وما الى ذلك من شؤون القضاء .
وقد يدرس التغذر الاجتماعي عن طريق الملاحظة العلمية فى نطاق العقائد والعلوم وفي النواحى الفنية فيحاول القائمون بالدراسات الحقلية الاجتماعية تبين التحول الطارئ ، والتطور اللاحق بالمفاهيم في تفسير ظواهر الطبيعة واحداثها . وفي هذا المنحى تقع منهم محاولة ربط المعتقدات بالمستوى الحضاري في شؤون الاقتصاد والشغل والفن وغالبا ما يقع منهم التحليل للصلة الوثيقة التى تجعل هذه تؤثر فى تلك مع انما متأثرة بها في نفس الوقت : فالملاحظ ان الغزو الحضاري يتم اولا وبالذات عن طريق مادي الا انه يؤثر لا محالة فى معتقدات وآراء الرجل البدائى غير ان تقبل الرجل البدائى يكون دائما محدودا وليس هو بتأثر مطلق ، إذ الرجل البدائى يتأثر تأثرا ايجاب وما كان لبكون تقبليا سالبا .
ومن مشمولات موضوع التغير الاجتماعي ذلك التطور الناجم عن نزوح الجماعة البدائية الى اخرى شبه متمدينة او الناتج عن هجرة اشباه المتحضرين الى مناطق حضارية اكثر تطورا ومن هذه هجرة اهالي الريف باوربا الى المدن التي هي غرثاء لمثل نجدتهم لها باليد العاملة التى من اجلها نراها تفتح لهم ابواب الرزق بكل اغراء حتى تتمكن من امكانيات حث حركة التصنيع وبالتالي ازدهارها الاقتصادي .
ففي هذه الهجرة يتأتي درس التغير الاجتماعي ومداه في شخص الريفي المهاجر ، . :
ففي فرديته تصطرع مقومات ثقافتين فتجعله يمثل نموذجا خاصا ليس هو بناتج عن اضافة الجديد الى القديم ، ومن المقومات الثقافية ، ولا هو بناتج عن تحوير الحضري للبدائى من المبادئ والمثل بل هو نموذج تتشكل فيه مظاهر التحضر المدنى على النحو الذي تتقبله طبيعته وتكوينه الاول وفي هذا جدلية الاخذ والعطاء ومنطق التأثر التجاري الذي لا يتم الا متى كان بمقابل يتمثل فى الحاق الاثر بالمؤثر الحضاري
وفي خصوص الهجرة الريفية فانها - على ما ترى - ظاهرة تقدمية فى المجتمعات التى أخذ اقتصادها فى التطور والتحول من الزراعة الى الصناعة ، اما في المجتمعات كالتي نحن عليها فاخطر المعضلات التى تواجهها حكومتنا في النطاق الداخلى هو هذا التيار الجارف من المهاجرين الذين ينزحون عن البوادي ويكرون في اتجاههم الى المدن التى ليس لديها من سوء الحظ امكانيات كافية لتشغيلهم او لتأهيلهم حتى يقووا ويصبحوا في مستوى كفاءات رجل المدينة
اما فى الحالة التى ليس فيها لمدننا حاجة الى اياد عاملة فان أخطر ما تواجهه مجتمعات المدن من الوجهة المورفولجية الاجتماعية هو هذه الهجرة التى هى معدودة والحال هذه ظاهرة جد مرضية طالما يتفرع عنها معضلات وأوبئة اجتماعية اخرى ذات خطورة بالغة مثل التشرد والتسول والمرض ، ومثل الرذيلة والاجرام والبطالة
وانه لمن البديهيات التي لا جدال فيها ان يكون التغير الاجتماعى بتونس وما تبعه من ظواهر اجتماعية تقدمة فى نطاق نظام الحكم وقوانينه وفى مضمار النظام العائلي
الاسرى ، والتطور الملحوظ فى ميادين التعليم والصحة وفى مجالات الزراعة والاقتصاد
وحتى فى ميادين الدفاع والامن ، كل هذه الظواهر وما اليها من بوادر النهضة الادبية والفكرية يعد من اسبابه الانعتاق السياسى التونسى وسداد فكرة التجريب لمن بيدهم دفة التوجيه ؛ كما انه من البديهيات التى يؤمن بها كل ذي خبرة علمية اجتماعية زهيدة ان تفاقم عدد العاطلين وبالتالي انتشار الاوبئة الاجتماعية التى تنخر هيكل كل مجتمع معدود من اسبابها تيار الهجرة من البوادي التونسية الى المدن التى هى فى غنى عن هذه الهجرة فى الأونة الحاضرة وليست هى بمفتقرة لليد العاملة حتى تستطيع مواجهة حاجة المهاجرين الى اسباب صحية اكثر ملاءمة من التى يفتقر اليها السكان الاصليون بالمدن ، ولا هى قادرة على ان تمنع عنهم العوز والاحتياج لانعدام المصانع التى هى معتبرة فى هذا المضمار البلسم الوحيد لهذه الهجرات التى تسبب حدوثها إما بالحاجة الاقتصادية الماسة وتخلف القوت من الارياف أو بدافع نفسي اكتسبه رجل البادية نتيجة لتكرار اتصاله وتردده على المدينة ذات الاغراء الذي لا يتمالك نفسه معه مما يقوى فله هذه الرغبة الطبيعة التى تجذب الفرد الى كل ما هو اكثر ملاءة وأوفر مواتاة فتملى عليه الانسياق اليه من حيث يشعر أولا يشعر
